إبراهيم السعافين - لعل ما يقوله بعض المثقفين المستنيرين المتمسكسن بمعايير الثقافة الحقيقية حول مأزق الثقافة والمثقفين يصدق هذه الأيام على نحو واضح؛ فأصبحنا نعيش في حالة خواء ثقافي، بعد أن تسيّدت الخفة، وأصبح المشتغلون بالثقافة يسعون نحو السريع والسطحي، ويكتفون بشذرات من معارف وعلوم لا يفقهون مصادرها ولا مرجعياتها، ولا يبنون صورتها في أذهانهم بناء متكاملاً واضحاً، وادهى من ذلك أن من يدعون أنهم سدنة الثقافة هذه الأيام أصبحوا كما يقول بعض الظرفاء مقاولي ثقافة يستثمرون العناوين طلباً لشهرة زائفة او استكثاراً للمال، حاملين يافطات المثقف الشره النهم الذي لا يكف عن الاستجداء في كل مكان، يستثمرون أمجادهم في كل مكان سانح في المؤسسات الثقافية ومؤسسات الجوائز والمنتديات والصحف والمجلات والفضائيات، مادين أجنحتهم الضافية على كل ما له صلة بالثقافة والمثقفين من قريب او من بعيد.
والذي يتامل ما يجري يعجب من الحالة الثقافية التي يجب أن تمد جذورها في منجزات السابقين، وتبني على تراكم هذه المنجزات، وتحفر في الصخر حتى تنجز وتضيف، ولكن المشكلة في ان مثقفينا يفخرون بأنهم جيل بلا آباء، ويجاهرون بانهم حتى يجدوا مكاناً لهم لا بد من يقتلوا الآباء والأجداد معاً. ولا عجب والأمر على هذا النحو أن يبيعوا بضاعتهم إن لم يبيعوا أنفسهم بثمن بخس وبدراهم معدودة إن عز الثمن الغالي في حالة لهاث دائم وسعار متوحش
أقول هذا وفي الذاكرة الحية أمثلة نادرة للمثقفين الحقيقيين الذين حفروا في الصخر وكانوا رواداً حقيقيين، يعرفون للعلم مكانته وللثقافة قدرها وللبحث الأصيل أسسه ومرتكزاته وغاياته، وفي طليعة هؤلاء المثقفين الراحل عبد المحسن طه بدر الذي غادرنا في مثل هذه الأيام في مفتتح العقد الأخير من القرن الماضي وترك تراثاً لا يقاس بحجمه بقدر ما يقاس بنوعيته وتأثيره في وعي الدارسين والعلماء والباحثين، وبما ترك في نفوس تلاميذه وعقولهم من أثر لا يمحى على الأيام.
كان عبد المحسن بدر عالماً بكل معنى الكلمة، مثقفاً يعرف للثقافة قدرها ومكانتها، لا يرى مسافة بين القول والفعل، يعرف ان المثقف الحقيقي لا يماري ولا يداهن ولا يبيع للآخرين الكلام مهما تعلُ مناصبهم أو يشتد خطرهم، لم يلهث أبداً وراء منصب أو جاه، وكيف يسعى وهو يرى أن المثقف منصب لا يدانيه منصب وجاه لا يسمو عليه جاه، وقد كانت رتبته في عيون الخلص والصادقين الكرام من الناس رتبة الصفوة من ذوي التجلة والهيبة والاحترام.
سعى إليه المتنفذون وذوو الجاه والسلطة، ولم يسعَ يوماً إليهم، ولم يقع مرةً واحدةً في شباكهم، مر من أمامه الذين تدحرجوا من سلم المبادئ إلى حضيض الارتزاق فحزن وأشفق ولم يغير شيئاً مما عزم عليه وظنوا أنهم حازوا المال والجاه ولعلهم اكتشفوا أنهم آلوا أخيراً إلى خسرانٍ مبين، لم ير المال ولا السلطة يوماً دافعا للمهادنة أو المداراة أو التنازل، بل كان يرى المال أداة يساعد به المضطر والمحتاج والبائس الفقير. كان وطنياً من الطراز الأول، وكان قومياً تتلهب في أعماقه قضية فلسطين، وكان إنسانياً يتسع صدره للعالم كله. لم يتخل عن أخلاق القرية ولا عن شهامة أولاد البلد، كان كما قال أحد الأصدقاء بحق مثالاً في الكبرياء والأنفة والالتزام يُحرج كل من يقترب منه أويقتدي به أو يسير على خطاه، لأنه كان مثالاً يمشي على الأرض ويعيش الواقع بكل تفاصيله. عاش حياته نقياً شريفاً عفيفاً صلباً لا ينكسر، عاش في وجه الريح شامخاً، وفي قلب العاصفة صنو العنفوان. رحمه الله مثالاً عزّ له بيننا نظير.