د.هشام غصيب - دمج الفلكي البولندي، نيكولاوس كوبرنيكوس (1473-1543)، الأساليب الرياضية الفلكية العربية مع فكرة حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس (وهي فكرة فيثاغورية في أساسها) لبناء أنموذج فلكي محكم وشامل وجديد بديلا لنظام بطلميوس الفلكي القديم.
وعُدّ هذا العمل مذّاك ثورة عارمة في الفكر البشري أخذت تُعرف بالثورة الكوبرنيكية (نسبة إلى كوبرنيكوس)، وأضحت أنموذجا لجميع الثورات الفكرية اللاحقة، وأطلقت الحدث الثوري الأكبر في تاريخ الفكر البشري، الثورة العلمية الكبرى.
ولكن، لماذا عُدّ أنموذج كوبرنيكوس الفلكي ثوريا إلى هذا الحدّ؟
يكمن الجواب عن ذلك في طبيعة النظام الكوني الذي كان سائداً آنذاك، وهو النظام الذي ارتبط باسم الفيلسوف الإغريقي أرسطوطاليس. وقد فصل أرسطو هذا النظام في عدد من كتبه. وكان عرضه وحججه من القوة ما جعل هذا النظام يهيمن على الفكر القديم ويهمش النظم الأخرى منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن السادس عشر الميلادي.
وإنه من المدهش حقا أن يصمد هذا النظام، الخاطئ علميا والمليء بالأفكار التي لا تصمد أمام المشاهدة الدقيقة، هذه المدة الطويلة وفي أكثر من حضارة رئيسية (الإغريقية والهلنستية والرومانية والبيزنطية والعربية الإسلامية والأوروبية القروسطية). لكنه في الواقع صمد وثبت ورسخ.
وأساس هذا النظام أن الكون كرة محدودة الحجم، وأن لها مركزاً ذا مغزى فيزيائي. فهو مركز الجذب الوحيد في الكون. وهو يجذب صوبه المادة الثقيلة أو العنصرين الثقيلين (التراب والماء) اللذين يتحركان صوبه تلقائيا حتى يثبتا فيه. لذلك تأخذ الأرض شكل كرة مكونة من التراب والماء وثابتة تماماً في مركز الكون. فمركزية الأرض وثباتها ركنان جوهريان من أركان نظام رسطو الكوني.
كذلك ربط أرسطو حركة الأجسام في نظامه بتأثير القوى الخارجية. أي أنه عد السرعة مظهراً من مظاهر القوة، بمعنى أن أي حركة للأجسام تنتج سببيا عن تأثير قوى خارجية. وكان هناك غياب تام في نظام أرسطو لمفهومي القصور الذاتي ونسبية الحركة، وهما المفهومان الضروريان لتفسير عدم شعورنا بحركة الأرض حول نفسها وحول الشمس.
لذلك ما كان ممكنا لهذا النظام أن يقبل بحركة الأرض. فهي تعارض نظرية أرسطو في الكون وفي المادة وفي الحركة. وعليه، فإن قضاء كوبرنيكوس أربعة عقود من العمل العلمي الشاق والمضني، من أجل بناء نظام فلكي شامل ومفصل بديل لنظام بطلميوس ومناقض لفيزياء أرسطو الراسخة طويلا في تربة عدة حضارات قديمة، لم يكن بالأمر العادي ولا بالقرار الطبيعي، وإنما كان تحديا تاريخيا هائلاً وفعلاً ثوريا مذهلاً. لا عجب إذاً أن نعت مارتن لوثر كوبرنيكوس بالجنون.
لقد ناقض كوبرنيكوس بأنموذجه "المجنون" ذاك الحواس والعقل السائد كليهما. فالحواس ترفض فكرة حركة الأرض ولا تستطيع أن تستوعبها. كما إن العقل السائد آنذاك، العقل الأرسطي، الذي كان ينسجم مع الحواس، يرفضها رفضا شديداً أيضا. بذلك، فإن الثورة الكوبرنيكية كانت ثورة على الحواس وعقلها المحدود، فاتحة بذلك الباب على مصراعيه أمام العلم الحديث، الذي يتسم بأنه ثورة دائمة على الحواس والعقل السائد.
هكذا فعلت ثورة كوبرنيكوس. وهكذا فعلت ثورة نيوتن من بعدها. بل وهكذا فعلت ثورتا آينشتاين (نظرية النسبية) وبور وهيزنبرغ (نظرية الكم) في القرن العشرين: ثورات عارمة على الحواس ومنطقها وبديهياتها. إن العلم (كما الفلسفة المرتكزة عليه) لهو قحة مطلقة دائمة وغير مؤدب البتة. لكن، ما الذي حدا هذا الأسقف الهادئ المنطوي على نفسه إلى إشعال فتيل ثورة فكرية قل نظيرها، ثورة على الحواس وعقلها ومنطقها؟ ما الذي حداه إلى توجيه هذه اللكمة القاضية إلى العلم القديم، الذي كانت تقف وراءه طبقات بكاملها من الأكاديميين ورجال الدين وحشد من المعتقدات القائمة على الحواس ومنطقها المحدود؟
لا ندري بالضبط. ولكن يمكن استشفاف العوامل الممكنة الآتية من كتابات كوبرنيكوس.
- أولا، روح عصر النهضة الأوروبية. وكان عصر توسع واستكشاف على كل صعيد. وكانت روحا ثورية أبدت تبرمها بالأفكار الموروثة ونزوعاً لتحديها والشك فيها. كانت روحا متمردة على الموروث وتشعر بقصوره عن تلبية طموحاتها اللانهائية الطابع. لقد شعرت هذه الروح بالحاجة إلى ابتكار أفكار جديدة مفتوحة على اللانهاية وأكثر مطابقة للواقع وأكثر قدرة على التحكم والتوسع فيه. ويبدو أن كوبرنيكوس تشرب بهذه الروح الدافقة في أثناء دراسته الجامعية في إيطاليا، قلب النهضة الأوروبية.
- ثانيا، لم يكن كوبرنيكوس ثوريا بالمطلق، وإنما كانت تتنازعه روحان: روح ثورية عارمة تمثلت في إحيائه فكرة حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس، وروح محافظة جداً تمثلت في إصراره على الفكرة الأفلاطونية بأن الحركة السماوية ينبغي أن تكون في جوهرها حركة دائرية منتظمة. وقد دفعه ذلك إلى تحدي نظام بطلميوس بشدة، ذلك النظام الذي لوحظ مبكراً أنه حاد بشكل جليّ عن قاعدة أفلاطون المذكورة. وأكثر من لاحظ ذلك كان فلكيو الحضارة العربية الإسلامية، الأمر الذي دفعهم إلى نقد بطلميوس بضراوة (الحسن بن الهيثم مثلا في كتابه "الشكوك على بطلميوس")، وبناء نماذج بديلة لنماذج بطلميوس ضمن إطار فيزياء أرسطو (العرضي وللطوسي والشيرازي وابن الشاطر وغيرهم). وقد تسرب هذه التراث العربي إلى كوبرنيكوس.
ولا شك أن تمسكه بقاعدة أفلاطون المذكورة فلسفيا وجماليا، دفعه إلى نبذ بطلميوس بضراوة، وصوب إحياء فكرة حركة الأرض، وإلى تبني النماذج العربية البديلة في آن واحد. وكان الفرق بين كوبرنيكوس وبين فلكيي الحضارة العربية الإسلامية أن كوبرنيكوس تمسك بأفلاطون في مجابهة أرسطو وبطلميوس كليهما، فيما تمسك العرب بأرسطو برمته، بما في ذلك العناصر الأفلاطونية في نظامه، في مجابهة بطلميوس. والطريف في الأمر أن هذا العنصر الأفلاطوني المثالي الرجعي دفع كوبرنيكوس إلى إشعال واحدة من أعتى الثورات في تاريخ الفكر.
- ثالثا، لاحظ كوبرنيكوس مدى تعقيد نظام بطلميوس الفلكي. وقد راعه ذلك، لأنه رأى أن نظريات الكون ينبغي أن تكون بسيطة في جوهرها تعكس جمال الكون وكماله. وقد تعزز هذا الاعتقاد الكوبرنيكي في تربة العلم الحديث حتى هذه اللحظة. فهناك شعور قوي لدى علماء الحقبة الحديثة بأن النظرية العلمية ينبغي أن تكون بسيطة ومتناسقة في جوهرها، وبأن تعقيد العالم وتنوعه ولاتجانسه ولاتناسقه تنبع من البسيط المتناسق مصدراً لها. هذا ما نجده لدى نيوتن وليبنتس ولاغرانج وهاملتون وماكسويل وبلانك وآينشتاين وديراك وهوكنغ.
وقد لاحظ كوبرنيكوس أيضا أن نظام بطلميوس ازداد تعقيداً مع الزمن، لأنه لم يكن قادراً على التنبؤ الدقيق بالظاهرات الفلكية، الأمر الذي دفع كوبرنيكوس إلى إضافة مزيد من العناصر الرياضية والفلكية إليه من أجل مواكبة الرصدات الجديدة. وقد رأى كوبرنيكوس أن النظرية الجيدة ينبغي أن تزداد بساطة مع الزمن، أي أن تتحرك من التعقيد إلى البساطة مع الزمن، وألا تحتاج إلى عناصر رياضية ونظرية خارجية من أجل مواكبة النتائج الجديدة. وقد أضحى هذا المبدأ الكوبرنيكي مبدأ أساسيا في العلم الحديث.
- رابعا، لاحظ كوبرنيكوس أن نظرية بطلميوس تضمنت العديد من العناصر والافتراضات الاعنباطية غير المبررة، التي وُضعت من أجل تفسير الرصدات، الفلكية. ولم يكن كوبرنيكوس مرتاحاً لذلك. إذ دفعته هذه الملاحظة إلى عد نظام بطلميوس ضعيف الترابط والتجانس المنطقي، الأمر الذي دفعه إلى تشبيه هذا النظام بالوحش المركب من يد من هنا وقدم من هناك ووجه من مكان ثالث، وهلم جرّا. ومن الواضح أن كوبرنيكوس كان يعتقد أن النظرية الجيدة ينبغي أن تشكل بنية مترابطة ومتجانسة، أو كلا متجانسا تحكمه الضرورة. وهذا أيضا غدا مبدأ أساسيا في العلم الحديث.
- خامسا، فيثاغوريته. إذ يمكن القول إن كوبرنيكوس كان فيثاغوريا، أي من أتباع فكر الرياضي والفيلسوف الإغريقي فيثاغورس، الذي وُلد في القرن السادس قبل الميلاد. وكان الفيثاغوريون يعتقدون أن الكون مكون في جوهره من الأرقام والأشكال الهندسية والنغمات الموسيقية، أي إنهم كانوا مغرقين في المثالية. ومالوا إلى تعظيم مصدر النور، الشمس، على حساب الأرض. لذلك مالوا إلى عد الشمس مركز الكون الذي يدور كل شيء حوله، لأنها مصدر النور والحياة. أما الأرض فقد مالوا إلى عدها كوكبا عاديا يتحرك حول الشمس أو كتلة ملتهبة شبيهة بالشمس شأن غيرها من الكواكب.
وبالفعل، فقد وضع الفلكي الفيثاغوري، فيلولاوس، أنموذجا للكون وضع فيه كتلة ملتهبة في مركز الكون، وحرّك حول هذه الكتلة الأرض والشمس والكواكب الأخرى. وافترض أن هناك كوكبا بين الأرض والكتلة الملتهبة يحجب الأخيرة باستمرار عن الأرض. ورأى فيثاغوري آخر هو هيراكلايدس أن الكواكب تدور حول الشمس، لكن الشمس تدور حول الأرض حاملة الكواكب حولها. كما إن القمر يدور حول الأرض، وأن الأرض تدور حول نفسها.
وقد وصل هذا التراث الفلكي الفيثاغوري أوجه في أرستاركوس، الذي رأى أن الشمس تقع في مركز الكون وأن الكواكب تدور حولها، بما في ذلك الأرض، التي تدور أيضا حول نفسها ويدور القمر حولها، تماما كما تصور كوبرنيكوس الأمر بعد آرستاركوس بثمانية عشر قرنا. بذلك فليس غريبا تماما على كوبرنيكوس، الذي كان ينتمي بصورة من الصور إلى التراث الفيثاغوري، أن يضع الشمس في قلب نظامه الفلكي وأن يحرك الأرض حولها وحول نفسها.