فـــــــي مكتبات عمـــــــــان

فـــــــي مكتبات عمـــــــــان

* انهيار الرأسمالية

المفارقة التي تنشأ عند المستوى الأول من القراءة لكل من الفكر الرأسمالي والشيوعي هو الموقف المشترك من الدولة، نظريا وبغض النظر عن التطبيق الموقف سلبي، الرأسماليون يسعون لتخفيف دور الدولة وتفكيكها أو إبقائها عند الحد الأدنى الذي ينحصر دوره في تقديم الخدمات لتسيير آليات السوق الحر، وعلى أساسها تنبني مجموعة الحراكات الإنسانية، الشيوعية في المقابل تسعى إلى القضاء على الدولة في المرحلة العليا منها، في الحالتين كانت الدولة كمفهوم ودور تقوم بدور كبير تم تبريره بالانتقالي، وإذا كانت الدولة المركزية التسلطية النقطة التي سقطت عندها التجربة الشيوعية، فإن الدولة ذات النفس الإمبراطوري تمكنت من وضع الرأسمالية على بداية حلمها التاريخي، انطلقت لذلك حزمة من المشاريع المتعددة الجوانب لتبشر بالعصر الرأسمالي الجديد، العولمة، الأسواق المفتوحة، تصدير الديمقراطية، ثورة الاتصالات، وبالفعل عملت الرأسمالية لفترة على جني بعض النجاحات هنا وهناك، دول شرق آسيا، تشيلي، بعض الدول الإفريقية، وفي ذروة الانفلات الرأسمالي أو بالأصح (المالي) حدثت الأزمة، استنجد أساطين الدعوة للتحرر من سلطة الدولة ودورها، بالدولة لتنقذهم من الإفلاس والانهيار، وبالفعل تحركت الدولة بهذا الاتجاه فرصدت الولايات المتحدة أكبر خطة إنقاذ مالي في تاريخها، الرأسماليون التقليديون رأوا في تحرك الدولة ردة إلى الشمولية على النمط الشيوعي، نادوا بأن تترك هذه الشركات لتسقط الواحدة تلو الأخرى مثل أحجار الدومينو، ولكن النتائج الكارثية المحتملة لذلك ذهبت بأصواتهم إلى الفراغ، وبدأت الخطة الكبيرة لإنقاذ الرأسمالية.
الرأسماليون التقليديون (اليمينيون) يرون أن الأحداث الأخيرة لم تكن نتيجة الفكر الرأسمالي، إنها فقاعة مالية تورط فيها الجميع دون أن يرافقها تطور حقيقي في الإنتاج، وعلى المتسببين في هذه الأزمة أن يلقوا عقابهم لا أن تتم مكافأتهم، التكلفة الاجتماعية بالتأكيد لم تكن ضمن اهتمامات هذا الفريق من الرأسماليين، ولذلك كانت مطالبهم نظرية أكثر منها واقعية، والمحصلة كانت أزمة للفكر الرأسمالي ككل، وهذا في حد ذاته ليس بالمسألة الجديدة، فتاريخيا أثبتت الرأسمالية قدرتها على تجاوز الأزمات وإعادة البدء من جديد لتصل إلى مرحلة أعلى من الأداء، وتتجاوز التناقضات التي تصنعها كل مرحلة من تطورها التاريخي، وما زالت الرأسمالية حتى الآن تحظى بهذه القدرة، وللمفارقة للمرة الثانية أن هذه القدرة والمرونة هي نتيجة تدخل الدولة في كل مرة، تلك اليد الخفية (بالفعل) التي تتدخل لضبط الأوضاع وإعادة الإيقاع إلى مساره، الأزمات العمالية الكبيرة التي هددت رأسمالية القرن التاسع عشر صاغتها الدولة في إطار قوانين عمالية امتصت قوة الغضب العمالي على معادلة رأس المال، وأجهضت البشارة الماركسية بتوليد التناقض الكبير الذي تنحل عنده الرأسمالية، قوانين الاحتكار هي الأخرى تمكنت من ترويض الطفل المعجزة في أكثر من قطاع صناعي أو تجاري أو تقني لأكثر من مرة، وبالتالي منعت صراعات كبيرة في الاقتصاد، غير مرة كان التوجيه الضريبي وتشجيع ما يسمى بالدور الاجتماعي يخفف من الآثار السلبية للسلوكيات المرافقة للنهج الرأسمالي، وما زالت الدولة تعد لاعبا رئيسيا في الرأسمالية على عكس ما يسعى إليه الدعاة إلى السوق الحرة.
تقدم سلسلة عالم المعرفة كتابا جديدا يحمل العنوان البراق «انهيار الرأسمالية» ويحمل العنوان الفرعي تناقضا مع عنوان الكتاب فيتحدث عن «أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود» وهو يتحدث عن اخفاق جزئي في الرأسمالية لا يمكن أن يؤدي إلى انهيارها ككل، فالسوق المحررة وخاصة في جانبها العالمي متعلقة بظروف تطور تاريخي للرأسمالية يتعلق بمنجزات الاتصالات والمواصلات وليس على صلة وثيقة ببنية الانتاج والفائض في النظرية الرأسمالية، وبالتالي فإنه الإخفاق سيؤدي بلا شك إلى توجيه ضربة للمشروع الرأسمالي، يمكن أن تكون بالغة الخطورة، ولكن ليس بالطريقة التي تؤدي إلى انهيارها، مع ذلك يقدم الكتاب إلى مجموعة مهمة من الفصول التي تتابع عرض فصول الأزمة الكبيرة الحالية، وهي كبيرة بالمناسبة نتيجة اتساع التأثير العالمي الذي نتج أساسا عن المنجزات سابقة الذكر، والكتاب بعد أن يستعرض بموضوعية المفاصل التي أدت إلى حدوث الأزمة من أزمات الأسواق الناشئة ومشاكل الاستثمارات الأجنبية فيها، وتراجع اقتصاديات التقنية وصولا إلى أزمة السيولة الرخيصة، يضع الرأسمالية قاب قوسين أو أدنى من النهاية، ويخلص إلى ضرورة تفعيل دور الدولة في السيطرة على الرأسمالية وتجديدها من الجذور، يمكن أن يتم ذلك كما يراه المؤلف من خلال السياسات التوجيهية للأسواق التي تتم عادة من خلال الأدوات المالية والنقدية، والأطر القانونية أيضا، وفي جانب آخر أن تقدم الدولة الضمانات اللازمة للمنافسة العادلة في الأسواق من جانب وأن ترعى العدالة الاجتماعية في الجانب الآخر، وإذا كانت الفكرة الأولى من أساسيات الرأسمالية التي تحتاج إلى صيانة وإعادة للاعتبار، فإن الجانب الآخر مرتبط أساسا بحالة الجشع التي أثارتها الأسواق المالية ووعودها المجانية بالثراء التي اندفع وراءها الملايين، وتضخمت على طبقة كاملة من الانتهازيين في إدارات الشركات الكبيرة والمتوسطة لتروج هذه الأحلام في ظل غياب لدور الدولة في ضبط الحوكمة والترشيد وحماية حقوق المواطنين الذين هم في الأساس أصحاب الأموال التي تضخ في لعبة متكررة من بناء الاقتصاد الوهمي القائم على أرصدة لا يمكن أن تتحول إلى القطاع الإنتاج أو الاستهلاكي بصورة حقيقية، لأنها مجرد أرقام مضللة، وحدثت الكارثة مع التوسع الاستهلاكي في أزمة الرهن العقاري القائم على تلك الأوهام المالية، حيث انكشف الغطاء الزائف لعشرات الشركات الكبرى، ودفع بالجميع إلى محاولة فهم الوقائع الغامضة في هذه الحالة، ومنهم الصحفي الاقتصادي الألماني أولريش فيشر الذي حاول أن يقدم في هذا الكتاب تصوره للأزمة الجارية، يمكن أنه لم يقدم جديدا، ولكن كم المعلومات والوقائع التي يضمها الكتاب يقدم للآخرين زوايا جديدة للرؤية.

 

* الطفولة مشكلات وحلول

تعد الطفولة مرحلة خطرة في حياة الإنسان لأنها تكون الفترة الكامنة للشخصية (بالقوة) قبل أن تتحول إلى شخصية (بالفعل)، وللأسف فإن أدبيات تربية الطفل هي في معظمها شعبية وشفهية قائمة على تبادل الأفكار، وبرغم أن الدين الإسلامي في مصادره المؤسسة اهتم بمرحلة الطفولة والتربية بصورة كبيرة، إلا أن التعاطي مع قضايا الطفل بقي قائما على خبرات متداولة تم توارثها دون تدقيق أو نظرة علمية، بطبيعة الحال تواجه الأمهات العديد من المشكلات مع التربية، وتتولد الحيرة مع الأداء التربوي في هذه المرحلة المبكرة، الأم الغربية تحاول أن تطالع الكتب المتخصصة وأحيانا المجلات وثمة برامج تلفزيونية متخصصة في الموضوع، بينما تبقى الحالة في العالم العربي مرتبطة بالتجربة والخطأ (المكلف نفسيا ومعنويا للطفل) والاستعانة بالخبرة (أو ما يدعى كذلك) من نساء ينتمين بالضرورة إلى جيل آخر، لذلك تنبع الحاجة إلى وجود كتب توضح نفسية الطفل في هذه المرحلة المبكرة وتعطي الأم الفرصة للتعرف على الحالات المعنوية لطفلها وبالتالي التصرف برد فعل مناسب يحيط بمشكلته ويحول دون تفاقمها.

 
تقدم سارة محمد موسى كتابا بسيطا في لغته يركز على المشكلات الأساسية في مرحلة الطفولة المبكرة، وتكمن أهمية هذا الكتاب الصغير في تعرضه لبعض المشكلات المسكوت عنها التي تواجه جميع الأطفال حتى سن المدرسة مثل السرقة والهروب، التي تواجه عادة بحس أخلاقي دون التعرف على نوازعها النفسية وبالتالي محاصرتها مبكرا بدلا من أن تتحول إلى أزمات سلوكية أخرى، وكذلك تقدم المؤلفة بعضا من القضايا الحديثة مثل الولع بالألعاب الإلكترونية أو التعامل مع الأصدقاء في المدرسة، الكتاب يوجه نصائح ويمكن قراءته في وقت قصير وأيضا الخروج ببعض الملاحظات التي تحتاج من المؤلفة للتوسع ولكنه يناسب الظروف والتنشئة الاجتماعية السائدة والتحديات المرتبطة بها.

 

* الصحوة الإسلامية في ميزان العقل


بدأت الصحوة الإسلامية مع إدراك حالة التخلف التي يمر بها العالم الإسلامي، هذا الإدراك كان قائما على التناقض القائم بين مركزة السلطة تحت شرعية دينية مستعارة في الدولة العثمانية، والمقارنة القائمة بالضرورة بالأوضاع مع العالم الغربي، الذي أتت طموحاته الاستعمارية لتعمق من شعور المسلمين بالعجز والتخلف، وفي محاولة لتحقيق الصحوة أو النهضة كانت الفكرة الإسلامية تفرض نفسها في أعمال المفكرين العرب والمسلمين الذين بحثوا عن حل للخروج من مأزق التخلف، وحتى الفكرة الأخرى كانت فكرة (ضد إسلامية)، فالإسلام كمكون أساسي للهوية في العالم العربي لم يكن من الممكن تجاوزه بالتعويل عليه سواء بالتأصيل أو التجديد أو حتى الرفض لوضع تصور للإصلاح، وهذه العملية أحدثت العديد من التجاوزات في الممارسة الفكرية، أو العقل الكلي، ورحلت قرون من الجدل التراثي ليصبح في حد ذاته عائقا أمام محاولات التقدم التي أسس لها المفكرون الإسلاميون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، هذه الحالة يتصدى لها بالنقد أستاذ الفلسفة الدكتور فؤاد زكريا وهو يتابع مصائر الصحوة الإسلامية والأفكار الكبرى التي تطرقت لها.


يطرح زكريا العديد من القضايا المرتبطة بالفكر الإسلامي والسياسة والتعاطي مع التراث، ومفاهيم انتقائية عديدة حكمت هذه العملية، وأدخلتها في الشعبية وأحيانا السوقية، وبنفس الطريقة وصلت إلى علاقة الدين بالعلم، حيث جرت العادة على تسطيح هذه العلاقة، وعدم التعمق في فهمها، ومن ناحية أخرى ينقد العلاقة بين الفكر الإسلامي والفكر العالمي، ويرى أن الاجتزاء مثل عائقا كبيرا أمام فهم بعض المدارس الفكرية الكبيرة، مثل الماركسية، التي وضعت في موقع الخصومة تلقائيا مع الإسلام دون أن تتحقق دراسات معمقة عن الأفكار التي تطرحها، خاصة وأنه لا يعمل أدوات محايدة في الفهم ويكتفي بصناعة أحكام مطلقة على الأفكار المستوردة كما يتصورها قطاع كبير من تيارات الفكر الإسلامي.

 

* مختارات من شعر بدوي الجبل

*** كافور ***

كافور قد جنّ الزّمان و إليك آل الصولجان
خجل السّرير من الدّعيّ و كاد يبكي الأرجوان
 أين الأهلّة و الكواكب و الشوامح و الرّعان
 كافور جمّع حول عرشك كلّ من حقدوا و هانوا
 مجد البغيّ تعاف بهرجه المخدّرة الرزان
 حرّك دماك فإن أردت قسوا و إن آثرت لانوا
 الخاضعون لما تشاء و ما دروه و ما استبانوا
 النّاعمون على اليهود على رعيّتك الخشان
 للعفّ تخوين بدولتهم و للصّ ائتمان
  أشبعت بالخطب الجياع فكل هادرة خوان
 حفل السماط و من فرائدك الموائد و الجفان
 خطب الرئيس هي الكرامة و العلى ، و هي الضمان
 هي للجياع الطيبات و للعراة الطيلسان
 هي للعفاة النازحين لبانة و هوى و حان
 خطب مصبّغة و تعرف من مباذلها القيان
 من كلّ عاهرة و تحلف أنّها الخود الحصان
إلحن و كرّر ما تشاء فإنّها الخطب الحسان
 و إذا رطنت فإنّها عرباء خالصة هجان
 كافور قد عنت الوجوه فكيف لا يعنو البيان ؟

 الفكر من صرعى هواك و من ضحاياك الحنان
 يغني الشام عن الكرامة و النعيم المهرجان
 حشدت لطلعتك الجموع فهوّن الخبر العيان
 هتفوا فبين شفاههم و قلوبهم حرب عوان
 غرثى و يتخم من لحوم الأبرياء الخيزران
 عضّت ظهورهم السياط فكلّ سوط أفعوان
 الرّاكعون ، السّاجدون عنوا لك و المناهل و الجنان
 القاطفون كرومهم و لك السلافة و الدنان
 الحاضنون شقاءهم و لك المتارف و اللّيان
 الظامئون و يومهم شرس الهواجر إضحيان
 المالكون قبورهم لمّا عصفت بهم فحانوا
 لك عذرة العرس الحزين فما تعز و لا تصان
 و لك الظلال فبعض جودك أن يفيّئهم مكان
 و دماؤهم لك و البنون فما الأباطح و الرّعان
 و لك العبادة لا لغيرك و التشهّد و الأذان
 كافور أنت خلقتهم كونوا _ هتفت بهم _ فكانوا
 كافور من بعض الإماء زبيدة ... و الخيزران
 مروان عبد من عبيدك لا يزان و لا ... يشان
 للسّوط جبهته إذا استعلى و للقيد البنان
 يا مكرم الغرباء و العربي محتقر ... مهان
 تاريخ قومي في يديك يدان حسبك ما يدان
 زوّرته وسطا على الأقداس أرعن ألعبان
 ما عفّ في الموتى هواه و لا الضمير و لا اللّسان
 يا عبقري الظّلم فيه لك ابتداع و افتنان
 نحن العبيد فلا تحرّكنا الضغينة و اللعان
 لا الفقر يلهب في جوانحنا الإباء و لا الهوان
 فاسجن و عذّب و استبح حرماتنا و لك الأمان
 همدت حميّتنا على الجلىّ و مات العنفوان
 من رقّ فتحك حازنا سيف و أحرزنا سنان
 و الذلّ أطياب العبيد فما البخور و ما اللّبان
 و الظلم من طبع الجبان و كلّ طاغية جبان
 يا أيّها الصنم المدلّ فما مناه و ما المدان
 إن الّهوك فربّما فضح الألوهة ثعلبان
بأبي السّهول جمالها كرم و نعمتها اختزان
 المذهبات كما تموّج في الضّياء الزعفران
 عهدي بها أخت الرّبيع و للمهور بها إران
 تلك المروج شذا وأفياء و ساجعة و بان
 و سنابل للطّير ينقذها فينفرط الجمان
 و ثغاء ماشية و يصهل في مراعيها ... حصان
 لا خصبها غبّ و لا سقيا غمامتها ... دهان
 زهراء تجذب كلّ أرض و هي مخصبة عوان
 وشي الغمام فما الطنافس و الحرير و أصفهان
 سلمت جباتك، قطننا عاف و حنطتنا و الهيلمان
 سلمت جباتك لا الخماص من الشياه و لا السمان
 أغلى من الفرس الجواد _ و لا شمات به _ العنان
 لا الزرع يضحك في المروج و لا يضوع الأقحوان
 خرس البلابل و الجداول دلّه الشكوى حزان
الضارعات إلى السماء و لا تجاب و لا تعان
 كالأمهات الثّاكلات فعزّ شم ... و احتضان
 و أد الهجير بناتهنّ فكل روض صحصحان
 بين السماء و بينها ثدي الأمومة و اللبان
 نسيت أمومتها السماء فما يلمّ بها حنان
 أممزّقّ الأرحام لا يبني على الحقد الكيان
 غرّب و شرّق في هواك و خن فمثلهم يخان
 و اغز الكواكب بالغرور فأنت منصور معان
 بالخطبة العصماء تقتحم المعاقل و القنان
 و الشتم من آلات نصرك لا الضراب و لا الطّعان
 و لك الفتوح المعلمات و من بشائرها عمان
 كافور طاغية و في بعض المشاهد بهلوان
 من أنت في الحلبات تقحمها إذا احتدم الرّهان
 فضح الهجين بشوطه لؤم المنابت و الحران
 من أنت ؟ لا المجد الأصيل و لا شمائله اللّدان
 لا العبقرية فيك مشرقة و لا الخلق الحسان
 ا الفكر مؤتنف العطور و لا البيان و لا الجنان
 لا السرّ عندك أريحي المكرمات و لا العلان
 من أنت ؟ .. إن ذكر العظام ورنّح الدّنيا افتنان
 من أنت ؟ .. لولا صوبة الطّغيان ، أنت إذن فلان
كافور عرشك للفناء و ربّما آن الأوان
الخالدان _ و لا أعد الشمس _ شعري و الزّمان

 


* بدوي الجبل

للقصيدة السورية تقاليد عريقة، فالشعر السوري الوريث الشرعي للعصر الأموي وكباره جرير والفرزدق والأخطل، لذلك لم تكن القصيدة السورية إلا متشامخة، جزيلة، ممتلئة بالكبرياء والاعتداد، وإذا كان لكل تجربة شعرية سدنتها فلا يمكن إلا أن يكون بدوي الجبل هو السادن للشعر السوري الحديث في جانبه الكلاسيكي الذي مثل الحنين المقيم حتى لأبناء تجربة الحداثة، وفي الصف الأول من شعراء النصف الأول من القرن العشرين، من مدوا جسور التواصل مع مجد الشعر العربي في العصرين الأموي والعباسي يقف شعراء قلائل، شوقي وحافظ والجواهري والرصافي وأبو شبكة والأخطل الصغير ومحمد سليمان الأحمد الذي أطل على الشعر العربي باسم مستعار هو بدوي الجبل، صاحب التسمية شاعر آخر وأديب سوري كبير وأحد رواد الصحافة في الشام هو يوسف العيسى، ولعله أطلق هذا اللقب على الشاعر الشاب القادم من منطقة اللاذقية ليماهي بين صوته الشعر والأصوات الجبلية في الغناء المعروفة بقوتها واتساعها، وبالفعل فإن تجربة بدوي مثلت جبلا شعريا لا يمكن تجاوزه، هو الأستاذ لأجيال كاملة لا تقف عند حدود نزار قباني وأدونيس، وإنما تمتد إلى المتمسكين بتجربة الشعر الكلاسيكي في العالم العربي ككل.


ولد بدوي الجبل في إحدى القرى التابعة لمدينة اللاذقية سنة 190، تفتح وعيه على المقاومة السورية للفرنسيين، واتصل برجالات الثورة في سوريا مثل الشيخ صالح العلي ويوسف العظمة، وأصبح أحد المثقفين الفاعلين في الحركة الوطنية السورية، أغرته الوعود الفرنسية في تأسيس دولة علوية في الشام، ولكن وعيه العروبي والوطني جعله يرفض الاستمرار في هذا الدور بعد انكشاف الأهداف الحقيقية وراءه، تمسك بوحدة سوريا، وأصبح أحد النواب في مجلس الشعب، تعرض للنفي والاعتقال من الفرنسيين، وبعد الاستقلال حصل على مناصب وزارية مختلفة، كان مواليا للرئيس شكري القوتلي، ونتيجة لاستمرار الصراعات السياسية ارتحل بين أكثر من بلد حتى استقر به المقام في سويسرا.
عاد إلى سوريا في الستينيات وأصبح أحد الأصوات المنادية بالإصلاح، وتصادم مع السلطة لأكثر من مرة، ولكن حجمه الشعري وقيمته الوطنية جعلته يتماسك أمام محاولات الضغط والاستمالة المستمرة، بقي في الشام حتى توفي سنة 1981.
شعر بدوي الجبل هو شعر إحيائي بعد سقوط الشعر العربي في الرطانة التركية وتقاليدها، لذلك استلهم الشعراء الكبار في أعماله، متأثرا وليس ناقلا، ينهل من بنية الشعر التي أسسوها وأقاموها تاريخيا، وكان المتنبي هو شاعره الكبير، لذلك لقب بمتنبي القرن العشرين، في شعره الوطني كما في الغزل كان قويا جزلا متعاليا، ويكفي وصف نزار قباني لأستاذه « انه السيف اليماني الوحيد المعلق على جدار الشعر العربي في عباءته ألف لبيد وألف شريف رضي وألف أبي تمام .‏