د. هاني خليل عابد
أسباب الفلاح في القرآن الكريم (14)
من خصائص الإسلام أنه يدعو إلى أن يتكافل المرء مع مجتمعه فيعيش بروح العطاء، بعيداً عن الأنانية والانعزال وروح الفردية المصلحية , ويظهر لنا ذلك عندما نرجع البصر في قوله تعالى :»وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان « (المائدة :2) فعندما يتفكر المرء في هذا القانون القرآني يظهر لنا حرص القرآن على تنمية الشعور بالجماعة، والحسّ الجمعي لدى الفرد، فتتقوى لديه روح العطاء ففي هذا التوجيه القرآني دعوةٌ لنهضة المجتمعات على أساس التعاون، والتناصر في مواجهة الأزمات .
ومسألة تنمية روح الشعور بالمجتمع والتكافل الإجتماعي مسألةٌ تظهر في عبادات الإسلام وفي معاملاته، ففي مجال العبادات فإننا نجد الصلاة تزيل الفوارق الإجتماعية بين الناس وذلك عندما يقفون صفوفاً مجتمعين للصلاة، فكل جدران الفصل التي تقيمها النزعات الفردية والإتجاهات المصلحية ، تتهاوى عند الصلاة، وكذلك عندما يؤدي المسلم عبادة الصيام فإنه يتربى على الشعور مع الفقراء والمحتاجين فيعمل على مدّ يد العون لهم فيؤدي زكاة ماله بطريقة تحفظ كرامة الفقراء وذلك لأن القرآن بين أنّ ما يعطى للفقراء هو حقٌ لهم من أموال الأغنياء فيدفع الغني زكاة ماله دون أن يمنّ بها على المحتاجين قال تعالى :»والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم (المعارج :24_25)أمّا فريضة الحج فهي التقاءٌ وتنمية ٌ للتعارف والتواصل بين المسلمين، تلك اللطائف الظاهرة في مناسك الحج والتي تعمل على تنمية روح الجماعة يلخصها قول الحق :»ليشهدوا منافع لهم «(الحج :28) وتنمية الشعور الجمعي في الإسلام ليست محصورةً في مجال العبادات فقط بل نجده في مجال المعاملات في الإسلام فمن أمثلة ذلك أنّ الزوجين إذا لم يقدرا على حلّ خلافاتهما فلهما أن يوكلا عنهما من يدرس تلك الخلافات، ويساعدهما على الخروج منها قال تعالى :» وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفّّق الله بينهما «(النساء:35) وشرع الإسلام أيضاً الوقف وهو وضع مالٍ معين قابل للنقل يمكن الإنتفاع به مع بقاء عينه وصرفه في جهةٍ من جهات الخير وهو ما أطلق عليه النبي _ صلوات الله وسلامه عليه _ الصدقة الجارية قال عليه الصلاة والسلام:»إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له «(رواه مسلم ) وشرع الإسلام أيضاً الإعارة فندب المسلم أن يعير أخاه ما يحتاج إليه ممّا يقبل الإعارة مثل إعارة الكتب النافعة لطلبة العلم لينفعوا أنفسهم وينفعوا غيرهم وحذر القرآن العظيم من النماذج الإنسانية التي لا تنصر مظلوما ولا تعطف على يتيم ولا تعير لمحتاجٍ ما يطلبه قال تعالى :» بسم الله الرحمن الرحيم ، أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض عل طعام المسكين فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون «(الماعون :1_7) فالمجتمعات الحية التي تريد التقدم في مسيرة الحياة لا بدّ لها من تفعيل روح الشعور الجمعي لدى ابنائها فإن هي اهتمّت بهذا الجانب قابلها الله بعنايته وأمطر عليها بركاته قال النبي - صلوات الله وسلامه عليه - :»والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه «(رواه مسلم ) بقي الشق الآخر من الآية وهو الحذر من التعاون على الباطل والإثم والعدوان والذي أشار إليه البيان القرآني بقوله تعالى:» ولا تعاونوا على الإثم والعدوان «(المائدة :2) وذلك مثل التعاون على السرقات أو قتل الأبرياء أو أيّ شيءٍ يلحق الأذى بالفرد والمجتمع قال تعالى «ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إنّ رحمة الله قريبٌ من المحسنين»(الأعراف:56) فاللهمّ ارحمنا فإنّك بنا راحمٌ ولا تعذّبنا فأنت علينا قادر.
