خدمة الدفع الالكتروني
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

الهياجنة: أسرار مدينة الأنباط ما تزال دفينة

الهياجنة: أسرار مدينة الأنباط ما تزال دفينة

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ

حاوره: جمال عياد - على هامش عروض ''بترا إن حكت''، التقى ''الرأي الثقافي'' الباحث د.هاني الهياجنة، أثناء الإعداد للمسرحية التي اتسمت بضخامة الإنتاج، وحاوره في قضايا ذات صلة، مثل نشأة البترا تاريخيا، وتأطيرها جغرافيا، وتطور مجتمعها إبان حقب تاريخية مختلفة، وموقع شعبها من شعوب المنطقة، وتأثير التحولات الاقتصادية على تحديد قسماتها الاجتماعية، وطبيعة لغة الأنباط، وعلاقتهم بالآرامية وبالمحيط العربي، وبالكيانات الأخرى من فارسية ورومانية.
كما يتناول الحوار الكيفية التي تم بها تبسيط لغة الأنباط لإيصالها إلى الفنانين المشاركين في العمل، وإسهام اللغة في استدعاء الفضاء الاجتماعي والنفسي، إلى المسرحية.
يذكر أن الهياجنة من مواليد 1965، نال شهادة الدكتوراه في لغات الشرق الأدنى القديم وحضاراته، من جامعة برلين الحرة في العام 1998، وحصل على درجة الأستاذية بجامعة اليرموك في العام 2007، وعمل أستاذا زائرا في دائرة حضارات الشرق الأدنى، في جامعة هارفرد (2004 - 2005)، وأستاذ حضارات الشرق الأدنى القديم ولغاته بجامعتي اليرموك والحسين بن طلال، وعميدا لكلية الآثار والسياحة والإدارة الفندقية بجامعة الحسين بن طلال، شارك في أكثر من أربعين مؤتمرا دوليا، ونشر زهاء 40 بحثا في حقل حضارات الشرق الأدنى القديم ولغاته، خصوصا في حقل الجزيرة العربية، في دوريات عالمية، وهو ممثل الأردن في اللجنة الدولية الحكومية للدول الأطراف المصادقة على اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، وعضو في جمعيات وهيئات أكاديمية عالمية. تاليا نص الحوار:

 ما المقصود بدراسة حضارات الشرق الأدنى القديم، وما هي حدودها الجغرافية، وأزمنتها، وأين تقع منها بترا حضارة وشعبا؟
- يقصد بحضارات الشرق الأدنى القديم تلك الحضارات التي سادت في ما يسمى اليوم ''الشرق الأوسط''، إذ إن هذه التسمية أطلقت من منظور الباحثين الغربيين، وذلك إزاء حضارات الشرق الأقصى، كالحضارة الصينية والهندية وغيرها من الحضارات التي سادت في تلك المناطق، ويندرج تحت تسمية حضارات الشرق الأدنى القديم كل من بلاد ما بين النهرين العراق وسورية حاليا، وحضارة إيران القديمة (نحو عيلام، وميديا وفارس)، والحضارة المصرية القديمة، وأرمينيا والأناضول (في تركيا)، وبلاد الشام، وشبه الجزيرة العربية.
وقد استخدم مصطلح ''حضارات الشرق الأدنى القديم'' بشكل واسع في الأدبيات المعنية بآثار هذه المناطق وتاريخها وحضاراتها ولغاتها. ويرجع الفجر الأول للشواهد الكتابية لهذه الحضارات إلى سومر في الألف الرابعة قبل الميلاد، حيث ظهرت كتابات الوركاء الأولى التي كانت إيذانا بانبثاق فجر تاريخي جديد يفصلها عن عصور ما قبل التاريخ، لتمر بحقب تاريخية ميزها العلماء بتسميات كل حسب معطياتها الحضارية، كالعصر البرونزي والعصر الحديدي مرورا بالسيطرة الفارسية على المنطقة في القرن السادس قبل الميلاد، وبعدها باجتياح الاسكندر المكدوني (المعروف في الأدبيات العربية بذي القرنين) في القرن الرابع ق.م.، وصولا إلى الحقبتين الرومانية والبيزنطية، وانتهاء بالفتوحات الإسلامية.
عد الشرق الأدنى القديم مهدا للحضارات، إذ كانت ممارسة الزراعة فيه على مدار السنة، فكان ذلك وازعا اقتصاديا انعكس على تلك الحضارات، وتم تطوير دولاب صناعة الفخار، ودواليب العربات والطحن، وأنشئت أولى الأنظمة الحكومية المركزية والتشريعات والإمبراطوريات، وتطورت تبعا لذلك تراكيب اجتماعية، وعلوم مزدهرة، مثل الفلك والرياضيات.

هذه التحولات الاقتصادية والتشريعات، هل تعد بمثابة تحولات كبرى، أعقبها نشوء كيانات سياسية؟
- ما حدث كان نتيجة أسباب متعددة ومتشعبة، إذ انحدرت اقتصاديات الدول التي كانت تسود في العصر البرونزي، وحلت محلها فجوة حضارية سادت فيها ثقافات القرى المعزولة، لذا سميت هذه الفجوة: ''فترة العصر المظلم من تاريخ الشرق الأدنى''، فقد دمرت كل المدن تقريبا وتركت غير مسكونة (مثل مدينة أوغاريت في سورية)، لكن وبعد بضعة قرون بدأ فجر جديد يبزغ في هذه المنطقة، ممثلا بظهور الممالك الحيثية والآرامية والإمبراطورية الأشورية الحديثة منذ مطلع القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
وكذلك الفينيقيون الذين أسسوا ملكا لهم على السواحل الشرقية للمتوسط، وبالذات في جبيل وصور وصيدا، وانطلقوا بعدها إلى البحر المتوسط تجارا بحريين، فأسسوا مستعمرات فينيقية في كل من إيطاليا، وشمال إفريقيا، خصوصا في تونس وجنوب إسبانيا، ولعلهم وصلوا نقاطا أبعد من ذلك، فسيطروا على البحر المتوسط حتى القرن الثالث الميلادي.
وبدءا من القرن العاشر قبل الميلاد، بدأت دويلات أردنية صغيرة تظهر وتتكون، فمنها عمون (عمان حاليا)، ومؤاب إلى جنوبها ومركزها ذيبان، واشتهرت بملكها ميشع الذيباني، وإيدوم التي امتدت جنوب مؤاب وصولا إلى المناطق التي أقام فيها الأنباط بؤرة ملكهم، مما دعا كثيرا من الباحثين إلى القول إن الدولة النبطية قامت على أنقاض الدولة المؤابية. وقد كان لهذه الممالك الأردنية القديمة لغاتها وتركيباتها الاجتماعية والسياسية الخاصة بها، لكنها كانت تحمل الثقافة نفسها والجوهر نفسه، هذا ما تدلنا عليه لغتهم وبقية آثارهم المادية، وهناك الكثير من العمل الأثري الذي ما يزال ينتظر علماء الآثار في الأردن من أجل الوصول إلى صورة أوضح وأزهى عنها.
بدأ الآراميون بالظهور على الساحة الحضارية للشرق الأدنى القديم بدءا من نهاية العصر البرونزي المتأخر، وقد عرفنا ذلك من نصوص كتبت بغير الآرامية، ولكن ملامح حضارتهم بدأت بالتكون في مطلع القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ومن المعروف أنهم شعوب سامية كانت تعيش في ظروف بداوة وفلاحة في أعالي بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، ولكنهم لم يتمتعوا بوحدة سياسية كبقية الكيانات السياسية المعروفة بالمنطقة، فكانوا منقسمين إلى ممالك (أو مشايخ) مستقلة عبر الشرق الأدنى، إلا أن ما يحسب لهم أنهم فرضوا لغتهم الآرامية وثقافتهم على أغلب بلدان الشرق الأدنى وما وراءه، حتى أصبحت بلاد ما بين النهرين منذ مطلع الألف الأول ق.م. تستخدم الآرامية جنبا إلى جنب مع الآشورية والبابلية، إلى أن حلت محلها تماما بعد الاحتلال الفارسي الاخميني للمنطقة في القرن السادس ق.م.، إذ جعل هؤلاء اللغة الآرامية لغة الدولة والاستعمال الرسمي.
وظهرت الإمبراطورية البابلية الحديثة التي سادت مع مطلع سنة 926 وحتى مجيء قورش الفارسي سنة 539 ق.م.، الذي احتل منطقة الشرق الأدنى، فأصبحت الإمبراطورية الفارسية من أكثر الإمبراطوريات التي عرفت في التاريخ، إذ انضمت تحت لوائها أيضا أفغانستان وباكستان وبلدان في آسيا الوسطى والصغرى ومناطق شاسعة حول البحر الأسود والعراق وبلاد الشام ومصر وصولا إلى ليبيا.
أما ديانات الشرق الأدنى القديم، فقد كانت في مجملها تنطلق من مركزية دينية، ويسود في كل حالة عبادة إله بالمدينة أو بمدينة الدولة، وعبادة آلهه أخرى أكثر شمولية، وقد كان لتشخيص الكوكبين السماويين الشمس والقمر الدور الأكبر لبسط هذا النظام وتشجيعه، فتمثل فينوس بعشتار، والمشتري بمردوك، والمريخ بنرجال..

من هم الأنباط، وما طبيعة لغتهم، وما علاقتهم بالآرامية؟
- لقد فرضت الدولة الفارسية اللغة الآرامية كلغة دولة ومعاملات رسمية، وذلك لسهولتها، ولأن أغلب سكان المنطقة كانوا يتحدثون بالآرامية أصلا، ولكن مجيء الإسكندر المكدوني إلى المنطقة آذن بانهيار الدولة الفارسية وسيطرة الثقافة الهللينية فيها، ففقدت الآرامية أهميتها كلغة دولية، وظهرت اليونانية منافسة لها، وبدأت الآرامية تنحسر لتتركز في مواقع جغرافية وأماكن محددة، بحيث طورت بعض المناطق الجغرافية المحدودة والمحددة أنماطا لغوية جديدة تعتمد على سابقتها، وكانت اللغة النبطية إحدى هذه التطورات اللغوية المحلية، فكانت نقطة تطورها من جنوب الأردن. ومن ناحية تاريخية كان أول ذكر للأنباط في العام 312، في سياق هجوم انتبجونوس الأول عليهم، وفي ذلك الوقت ذكرهم ضابط سلوقي في تقرير حربي له، وقد قام ديودورس الصقلي المؤرخ اليوناني عام 50 ق.م. باقتباس هذا التقرير قائلا إن السلوقيين حاولوا إخضاعهم.
لكن، لا بد من الاعتراف أن الأصول الأولى للأنباط ما تزال مدار بحث لدى علماء الآثار والحضارات القديمة. وعلى ما يبدو فقد حل الأنباط في المناطق التي كان الأدوميون مستوطنين فيها كما يشهد تواجد النقوش النبطية وانتشارها، ومن المرجح أنهم كانوا خليطا بين العرب والآراميين الذين عاشوا في جنوب الأردن وشمال شبه الجزيرة العربية، وقد سيطروا على شبكة الطرق التجارية القادمة من أنحاء شبة الجزيرة العربية، ولم تكن لهم حدود واضحة ومحددة، وكان تواجدهم مشهودا من بصرى الشام شمالا حتى خيبر جنوبا وصحراء شبة جزيرة سيناء ووادي السرحان شرقا، ووقعوا تحت التأثير الحضاري للحضارتين اليونانية والرومانية.

وهل كان لهم لغة، وأحرف خاصة بهم؟
- اشتثق الخط النبطي من الخط الآرامي، ولم يترك لنا الأنباط أدبا، ولا بد أنه كان لهم أدب، لكنه على ما يبدو كتب على مواد قابلة للتلف، فلم تصلنا أشعارهم ولا نثرهم، ولعل هذه النقوش وانتشارها الواسع يعد دليلا صارخا على أن الشعب النبطي كانت ثقافة الكتابة متجذرة لديه، وكيف لا وذلك الشعب انشغل طوال حقبة تاريخه بالاستيراد والتصدير وتسويق البضائع، فلا بد أنه عرف الاتفاقيات والرسائل والعقود وغيرها، ومما لا شك فيه أنهم عرفوا أكثر من لغة إضافة إلى اليونانية، فتكشف النقوش المنتشرة في جنوب الأردن، معرفة الواحد منهم بالنبطية والعربية الشمالية القديمة، حيث كتب على الواجهة الصخرية النص نفسه باللغتين معا.

من خلال تحليلاتك الأثرية، إلى ماذا خلصت تجاه الكتابات النبطية؟
- لقد تمكنا من خلال دراسة النقوش والكتابات النبطية من تحديد الإطار الجغرافي للحضارة النبطية، لكن هذه النقوش لم تحفظ لنا أدبهم أو أي فحوى حول حياتهم اليومية، فكانت تذكارية وحسب، وقد بينت أسماء الأعلام النبطية أن حضارتهم كانت متعددة المنابع والعرقيات، لكن غلبة أسماء الأعلام العربية فيها قد تسمح لنا بالقول إن الثقافة السائدة لديهم كانت العربية، وبدأت أولى شواهدها الكتابية بالظهور في النقوش العائدة إلى القرن الثاني ق. م.، حيث ظهرت النقوش النبطية كلغة رسمية، ويمكن القول إن العربية الشمالية كانت لغة التعامل اليومي، وكفرع من الآرامية، فقد عد العلماء اللغة النبطية إحدى فروع الآرامية الغربية.
وجدت شواهد النبطية في مدن البترا وبصرى والحجر (مدائن صالح) ومصر، وشبه جزيرة سيناء ووادي رم، وبعض النصوص في مغائر بالقرب من البحر الميت، إضافة إلى وجود بعضها في أقاصي جنوب جزيرة العرب. وتنتسب اللغة النبطية بالإضافة إلى التدمرية ولغة مدينة الحضر، إلى اللغة الآرامية الوسيطة، ومن المعروف أن جميع اللغات السامية، بما فيها العربية والآرامية، ترجع إلى أصل واحد اصطلح العلماء على تسميته: ''اللغة السامية الأم''، التي انبثقت عنها جميع اللغات السامية المعروفة في بلاد الشام والجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين.
ونتيجة دراستي للنقوش النبطية بتسلسلها التاريخي، يمكن القول إن النقوش النبطية المبكرة كانت لغتها آرامية، وفيها عناصر لغوية عربية واضحة، في حين أن النقوش النبطية المتأخرة بدت بلغتها عربية تشوبها بعض الملامح اللغوية الآرامية. أي أن تحولا قد حدث في البنية اللغوية (الصرفية والتركيبية والمعجمية) للنقوش النبطية، لتصبح في أواخر عهدها عربية خالصة، ولا يظنن أحد أن اللغة العربية الشمالية العربية جاءت من النبطية، لكن ما أود قوله إن الأنباط بدأ يتحولون إلى الاستخدام الخالص للعربية في نقوشهم، حتى أصبحت تلك النقوش في القرن الرابع الميلادي عربية بحتة، كما نشهد في نقش النمارة مثلا، وعندما نتحدث هنا عن اللغة فإن ذلك يجب ألا يختلط بمفهوم ''الخط'' الذي تكتب فيه اللغة عادة، فالخط النبطي بدأ يتطور ليستخدم للتعبير عن اللغة العربية، وقد تطور الخط العربي عن الخط النبطي.
ومن المفيد ذكره في هذا السياق، أنه في الإطار الجغرافي للكيان النبطي، كانت هناك لغات وخطوط مستعملة لدى سكان محيط البترا، إذ حفظت لنا واجهات الصخور في وادي رم وبقية بادية الحسمى والبادية الشرقية بشقيها الشمالي والجنوبي ما يسمى ''النقوش العربية الشمالية القديمة''، التي اصطلح العلماء على تسميتها ''النقوش الثمودية والصفوية''، إذ وردت فيها إشارات مختلفة عن الأنباط، كما أن بعض النصوص كتب بلغتين هما النبطية والعربية الشمالية القديمة، ما يعني أن سكان هذه البوادي كان يعرفون النبطية والعربية الشمالية القديمة، وربما اليونانية أيضا. وقد كتب بعض المنتسبين إلى المملكة، باللغة العربية الشمالية القديمة، حيث ذكروا فيها كنيتهم على أنهم أنباط: ''فلان بن فلان النبطي''.

علام اعتمد الأنباط في حياتهم واقتصادهم، وما ملامح حضارتهم، وكيف كانت علاقتهم بالمحيط العربي؟
- اشتهر الأنباط بفعاليات زراعية مختلفة، فقد بنوا المصاطب الزراعية والجدران الاستنادية، وزرعوا العنب والزيتون، وربوا الجمال والماعز والخيول، ورغم شح الماء، فقد كان الأنباط مهرة في إدارة المصادر المائية وتخزين الماء وبناء القنوات، فها هي آثار تلك الفعاليات ماثلة إلى يومنا هذا في البترا.
ومما زاد البترا قوة موقعها المميز، فكانت محطة للقوافل، خصوصا على تقاطع مهم، هو طريق البخور والطيوب التي ربطت بلاد الشرق الأدنى القديم، وربما الشرق الأقصى أيضا، فقد زودت البترا القوافل بالماء والزاد، وأصبحت مكانا يزخر بالبضائع من شتى الأماكن.
أما التجارة لديهم، فقد أكد الباحثون أن الدولة النبطية قامت على أساس اقتصادي وتجاري بحت، وليس على أساس تركيبة سياسية مركزية تعتمد على قوة الجيش، وخلال تاريخهم الطويل انخرط الأنباط في التجارة وشراء البضائع، وكانت لهم علاقات تجارية مع جنوب الجزيرة العربية والهند وشرق آسيا، ومع المصريين واليونانيين والرومان.
ووصفهم ديودورس الصقلي ومصادر كلاسيكية أخرى بأنهم كانوا يحتفظون لأنفسهم بأسرار الطرق التجارية ومواطن البضائع التي كانوا يتاجرون بها، كما وصفهم بأنهم محاربون قبليون أشداء ويمارسون الزراعة، ويسكنون في بيوت ثابتة، ويتاجرون بالبخور والطيوب المستورد من جنوب شبه جزيرة العرب مع بلدان العالم القديم، فنجد نقوشهم شاهدة عليهم في جنوب الجزيرة العربية، وفي جزيرة فراسان الواقعة في أقصى جنوب البحر الأحمر، وفي مصر، ومناطق مختلفة من بلاد الشام، إضافة إلى بعض آثار لهم في القطيف وثاج في شمال شرق السعودية. وها نحن نرى سترابو (64-25 م) في كتابه ''الجغرافيا'' يقول مثلا: ''بالنسبة لشحنات العطور، فإنها تنقل من لوكي كومي (على البحر الأحمر) إلى البترا، ومن هناك إلى رينوكولورا (العريش) التي تقع في فينيقيا بالقرب من مصر، فثم من هناك إلى أناس آخرين''، وكان هناك طريق تتجه من البترا إلى بابل، وتحدث ديودوروس الصقلي أيضا عن تجار معينين في البترا، وأقر بليني (23-79) بوجود طريق تجارية من البترا إلى تدمر، وأخرى قادمة من غزة.

وكيف كانت علاقتهم مع الفرس والرومان؟
- علاقة الأنباط بفارس ليست مثبتة من ناحية أثرية، ما خلا العثور على بعض الكسر الفخارية النبطية في جنوب بلاد فارس. أما علاقتهم مع الرومان، فقد تكون الأوضح بالنسبة لنا، إذ يمكن تلمسها من خلال أحداث تاريخية عدة. فقد كان للأنباط دور في الحملة العسكرية الفاشلة على جنوب الجزيرة العربية بقيادة أليوس جالوس (24 ق.م.)، بأمر من الإمبراطور أغسطس، ومسؤولية الوزير النبطي عن دفع الأنباط بالإسهام في هذه الحملة، والأحداث المرافقة بها، والتي لحقها صراع مع الملك هيرود الكبير، وما قام به هذا الوزير من محاولات للسيطرة على العرش النبطي بعد رحيل الملك عبادة، إذ أسهمت كل هذه الأحداث إلى اتخاذ أغسطس القرار بالتخلص من سلايوس، ومباركة الرومان لتولي الحارثة الربع لمقاليد العرش النبطي.
وقد قام الأنباط بمساعدة الرومان على إخماد الثورة اليهودية بعد وفاة هيرود الكبير، مما كان له من أثر إيجابي في العلاقة النبطية مع الرومان. وتمر علاقة الانباط بالرومان بمرحلة جديدة في عهود الأباطرة تبيروس وجايوس وكلاوديوس ونيرون، حيث أظهر الحارث الرابع جوانب سياسية مع الرومان، حاول فيها المحافظة على كيان المملكة النبطية في ظل ما كانت تمر به الدولة الرومانية من مد جزر، إذ عمل على إيجاد طرق تجارية جديدة غير تلك التي كان يمكن للرومان السيطرة عليها، والعمل على التركيز على إيجاد حواضر نبطية جديدة كالحجر (مدائن صالح)، وكان الحارث الرابع دائب المحاولة على إبقاء السلم بين أهل مملكته واليهود، ولم يكن يعطي للرومان أي سبب للتدخل في وطنه. استمر مالك الثاني بسياسة والده في ازدهار الأنباط، إلا أن الأمور تبدلت في ما بعد، إذ نقل مقر الحكم من البترا إلى بصرى، ولحقت حالة الضعف بالدولة النبطية في سنوات حكم رب إيل الثاني الأخيرة، وتبدلت سياسة الرمان تجاه الأنباط، مما أدى في ما بعد إلى ضم البترا وسقوط الدولة النبطية بيد الرمان.

كيف استطعت تبسيط لغة الأنباط، وإيصالها إلى الفنانين المشاركين في العمل الاستعراضي الضخم ''بترا ان حكت''، وما أبرز المشاكل وكيف تغلبت عليها؟
- أتيحت لي فرصة الاطلاع على نص المسرحية قبل شهرين تقريبا، وحينها كان النص قد نضج وأصبح كما هو عليه الآن، أي أنني لم أتدخل في النص البتة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النص لا يعتمد على نصوص كتبت باللغة النبطية أصلا، فقد خلف الأنباط نصوصا ذات نمط محدد، ومحتوى محدود، فلم يخلفوا لنا أدبا أو أساطير أو نقوشا تاريخية أو دينية يمكن أن نستخلص منها نصوصا مسرحية، فلم يكن للغة النبطية دور في هذه المسرحية.
وقد أخرج كاتب المسرحية ديباجة ممتازة مصوغة بلغة رصينة، حاول فيها استبناء جزء بسيط جدا من حياة الأنباط. وما تدخلنا إلا في التعليق على بعض صيغ أسماء الأعلام والآلهة والأماكن ومحاولة تقريبها إلى صيغتها النبطية الأصلية، خصوصا إذا كانت الشخصية المعنية نبطية، وكذلك التعليق على بعض الفقرات في المسرحية، كقول مالك لجميلة: ''وأين الماء يا جميلتي، لدينا في البترا أرهف وأرق وأصلب أنواع الفخار، لكن الجرار تمكث فارغة عطشى''، فكيف توصف الجرار النبطية بالعطش رغم تقنيات حفظ الماء وإدارته التي تمتع بها الأنباط وحسنوها. كما تم التعليق على بعض الأحداث التاريخية، وهي قليلة، التي لا تتسق أو تتناغم مع الحقب التي حدثت فيها، كالحديث عن سدوم في حديث انعم لصالح، فسدوم التاريخية، أسبق بكثير من مكاور، وكذلك الحديث عن سالومي لا يقع في هذه الحقبة التي تتحدث عنها المسرحية.

كيف أسهمت اللغة في استحضار الفضاء الاجتماعي والنفسي من عادات وتقاليد، خصوصا ما يتعلق بالمرأة؟
- لا يمكننا في ضوء المتاح لنا من نقوش وبقايا أثرية نبطية أن نرسم صورة واضحة حول الفضاء الاجتماعي النبطي، وعاداتهم وتقاليدهم، فما ورد في المسرحية يعتمد في جزء قليل منه، على شذرات من أحداث تاريخية، وليس بمقدورنا أن نكتب نصا مسرحيا يمثل المجتمع النبطي الحقيقي، بلا سند نصي، فلا النقوش النبطية أو غيرها من نصوص الشرق الأدنى القديم، أو النصوص الكلاسيكية، تسعفنا في ذلك.
وربما نستطيع أن نتعرف على بعض الملامح الدينية لدى الأنباط، إذ تشهد آثارهم على قوة العقيدة الدينية لديهم، كالمعابد، والمعليات، والمباني والمنحوتات الطقوسية المختلفة، إلا أن معرفتنا بديانتهم ومعتقداتهم ما تزال غير وافية، لكن على ما يبدو كان لديهم عدد من المعبودات أو الآلهة التي كان ذو شرى على رأسها، إضافة إلى العزى ومناة، فالأولى كما يرى العلماء كانت إلهة الينابيع والغدران، ولعلها كانت مع ذو شرى تمثل آلهة الخصوبة، وهو إله محلي كان يعبد في جنوب الأردن، ولعل تسمية جبال الشراه لا تبتعد كثيرا عن هذا الاسم.
لكن النقوش توضح أحيانا بعض السمات المحددة للمجتمع النبطي، خصوصا نقوش المقابر في مدينة الحجر النبطية، والدور الذي أدته المرأة في المجتمع النبطي، إذ إن كثيرا من النقوش تبين أن النساء بنين المدافن لأنفسهن ولبناتهن، مما يدل على استقلاليتهن القانونية.

كيف استطعت أن تحدد المعالم الأساسية لحكاية الأنباط في المسرحية، خصوصا الطبقة الحاكمة، في وجودها التاريخي وفي الكتب؟
- لم تقصد المسرحية أن تعكس نظام الحكم في المجتمع النبطي. حتى لو كان القصد كذلك فإنه لا يوجد سند نستطيع أن نستعمله من الآثار والنقوش النبطية، أو أي نصوص أخرى من المنطقة، وما قاله سترابو عن رصانة الحكم ليس إلا إشارة واحدة وحسب، فليس ثمة حديث عن نظام الحكم وطريقة تولي العرش، وغير ذلك مما يتصل بهذا الموضوع. صحيح أن بعض النقوش -والمقصود هنا تلك التي في الحجر- تعكس وجود طبقة عليا عسكرية أو إدارية في مجتمع الحجر، إلا أننا لم نجد ذلك في البترا، فالمنصب المعروف في النقوش ''إستراتيجوس'' ليس معروفا أو مفهوما حتى الآن، هل هو منصب عسكري أم إداري؟.
إضافة إلى ذلك، هناك النصوص النبطية وما قاله الكتاب اليونان من تطور القانون النبطي ومستواه، وقد جاء ذلك على لسان سترابو الذي نقل إعجاب أثينودوروس بحكومة الأنباط وتقديره لها، وكيف أنه كان يرى الأجانب في البترا يقيمون فيها ويرفعون الدعاوى القضائية، وليس أدل على تطور القانون النبطي أكثر من نقوش المقابر التي تنص على شروط استخدام المقبرة وتوزيعها ووراثتها، بالإضافة إلى الغرامات المتعلقة بها.

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF