ما زلت أحتفظ بالكثير منها.. قصاصات من الورق يصعب عدها! وبعض من الرسائل الحقيقية المخطوطة بأنفاس من كتبوها والمحملة بعطرهم وبصمات أناملهم، اليوم اكتشفت سببا جديدا يؤكد لي أنني محظوظة! لأنني من جيل عرف طعم الرسالة.. مغلف بلون السماء مزنر بنبض أحمر وأزرق!.
نفتحه بتأن واحترام حتى لا نمزق -سهوا- شيئا من جسد الرسالة التي نشمها ونقبلها ونتلمس صفحتها وكأننا نصافح دفء اليد التي كتبتها.
نقرأها مرارا وتكرارا ثم نعيدها سيرتها الأولى لنخفيها عن الأعين في صندوق خشبي أو بين طيات ملابسنا!.
اليوم آلاف من الرسائل الإلكترونية تردني على البريد الإلكتروني تصل باردة دون رائحة وأخرى تصل كل لحظة على شكل مسجات على شاشة الجني الصغير (الموبايل).
أعجب كيف تسرب هذا الفن من بين أصابع التقنية والحداثة. ليكون أدب المراسلات شيئا من الماضي الجميل!.
كل هذه الأفكار راودتني وأنا أقرأ كتاب الباحث كايد هاشم أوراق تتكلم.. ذكريات ورسائل أدبية والذي صدر عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة سير وأعلام في مشروع مكتبة الأسرة لعام 2008.
فرصة قيمة -وربما نادرة- يتيحها لنا المؤلف للاطلاع على وقائع وآثار شخصيات أدبية ووطنية من الأردن وبعض البلاد العربية، ويكشف جوانب بعضها كان خافيا، وبعضها الآخر فيه ما يطرف القارئ ويمتعه، وربما فيه ما يفيد الباحث المهتم .
وكما يؤكد المؤلف في المقدمة أن الكتاب وإن كان يقوم على طريقة البحث والتوثيق في إعداد المادة التي تشتمل عليها فصوله، فهو كتاب مطالعة في المقام الأول، موجه إلى القارئ غير المتخصص، ولا يقصد منه أن يكون كتاب درس أدبي أو نقد، أو حتى تأريخ منهجي.
ويظل الهدف الأساس أن يكون سهما محفزا للمطالع على تعرف جوانب من جهود الأولين وملامح من أحوالهم وشواغل من فكرهم وأدبهم، لعل في ذلك ما يسهم في إعادة لحمة تواصل وجداني وقيمي بين أولئك والأجيال الحالية.
يعرض الباحث عددا من الأوراق والرسائل بعد أن يوضح للقارئ بأسلوبه البسيط الإطارين الزماني والمكاني للأحداث والشخصيات التي كتبت تلك الأوراق، قارئا ما بين السطور مستنبطا لما يتوارى خلف الكلمات من معان ودلالات وحقائق ربما كانت خفية حتى أماط الباحث بجهده الدؤوب اللثام عنها. فنجده يبين لنا تفاصيل ووقائع دقيقة لمواقف وأحداث حصلت مع الملك المؤسس عبدالله بن الحسين وذلك من خلال قراءة لبعض أوراق يعقوب العودات (البدوي الملثم) التي تبين لنا العلاقة المميزة التي جمعت الملك برجال الأدب والثقافة في ذلك الزمن من شعراء وكتاب وصحفيين، والأحاديث والحوارات الأدبية التي كانت تدور بينهم.
ومن هذه الأوراق يقدم الباحث لحوار شعري بين الملك المؤسس والشاعر عمر أبو ريشة.
وأوراق للدكتور محمد صبحي أبو غنيمة: رسالتان وقصيدة مخطوطة.
ومقتطفات من رسائل روكس العزيزي إلى المؤلف. وأخرى تتناول مؤلف كتاب خمسة أعوام في شرقي الأردن المطران بولس سلمان.
وأكثر ما لفت انتباهي في هذه الأوراق التي قدمها الباحث هي المراسلات بين الملك عبدالله المؤسس والرئيس اللبناني إميل إدة عام 1938 والتي خطت من قبل الملك من منطلق حرصه على إنقاذ الأديبة مي زيادة من مأساتها.
وإليكم بعض ما كتبه الباحث في هذا الجانب: كانت مي قد تعرضت في سنة 1936 لحالة من الاكتئاب الشديد، بعد أن وجدت نفسها وحيدة في هذه الدنيا، فعاشت أجواء قاتمة حزينة بعد رحيل والدها -الصحفي إلياس زيادة- ومن بعده والدتها، وصديقها المحب جبران خليل جبران. ولم يعوضها صالونها الأدبي المشهور الذي بدأ ينكمش على قلة من الأصدقاء المقربين على استشراء هذا الشعور المؤلم بالوحدة. وقيل إن بعض أقربائها استغل ما هي فيه من ألم نفسي، فأقنعها بالانتقال من القاهرة -حيث كانت تعيش- إلى بيروت لتغيير الأجواء، وحينما وصلت لبنان (وكان ذلك عام 1938) نقلت بخدعة مدبرة إلى العصفورية أو مستشفى الأمراض العصبية. وقيل إن في الأمر مؤامرة لاستلاب إرثها وبعض ممتلكاتها، فأوقع الحجر عليها والحجز على ما تملك! وما أن تناهت أخبار مي والمأزق الذي سيقت إليه على كره منها.. إلى أصدقائها في البلاد العربية، حتى بدأوا يسعون إلى تخليصها من هذا المأزق المؤلم، ويبذلون جهودهم الحثيثة لرفع الحيف والظلم عنها.
وكان الملك عبدالله- بلا شك- قد قرأ ما تناقلته الصحف حول هذه القضية، وما كان يشغل بال الأدباء العرب وأحاديثهم -حينئذ- حول مأساة مي، وبعض هؤلاء الأدباء كانوا من رواد ديوانه ومن أصدقائه وجلسائه، بل إن بعضهم كان يعمل بمعيته، فما كان منه إلا أن خط رسالة إلى رئيس الجمهورية اللبنانية المرحوم إميل إدة، حملها خليل سكر في اليوم التالي إلى بيروت، وهذا نصها: 1أيار سنة 1938 فخامة الرئيس الجليل للجمهورية اللبناني، ما كنت لأتدخل بأمر أحد رعايا لبنان لولا الرجاوات العديدة من كرام العوائل ورجالات العلم والأدب من لبنان، لأكون الملتمس عنهم من فخامتكم لتساعدوا الآنسة الشهيرة (مي) لخلاصها من المأزق الذي قيل إن البعض من أقاربها وضعوها فيه. وللأمل في أنكم تحلون كتابنا هذا محل القبول. حر مع مزيد الشوق والاحترام لفخامتكم. التوقيع عبدالله بن الحسين .