موسم الحصاد.. ذاكرة الوطن الشفاهية

زياد الطويسي - لم تتردد الحاجة ثريا في الاجابة عن سؤال وجه لها عن تاريخ مولد أحد أبنائها على طريقة القدماء الذين حرمهم تراث الماضي فرص التعليم.
أجابت الحاجة: ولد حينما ذهبنا للحصاد مع جيراننا صيف العام 1970 و بعد أن حصدوا الثلث الاول من الزرع، حضر الحصاد ون ، لتهنئتهم بالمولود الجديد وهم يغنون: ''في وقت الحصاد أم علي جابت زين الأولاد''.
ما تزال مواسم الحصاد أهم محطة من محطات الحاضر و الماضي؛ التي يتوقف عندها كبار السن ويروون قصصها التي تتحدث عن جزء هام من تاريخ وتراث الأردنيين في مجالسهم المختلفة، فهي ليست مجرد وقت عمل أنجزوا فيه مهمة جني حبات القمح فحسب بل تعدتها إلى ما هو أكثر من ذلك.
ويستذكر الحاج ابو يحيى أيام الحصاد التي يعتبرها أجمل أيام الحياة، فهي اللحظات التي كان يجتمع فيها ابناء الحي الواحد لعون ومساعدة بعضهم في حصاد الزرع.
واشار :
كان الجميع يستدير فيها حول مائدة طعام واحدة تجسد تضامن الأسرة وحصادوها وعمالها ، فمواسم الحصاد لم تكن مجرد عمل يجتمع الجميع لإنجازه بل هي حلقات حوارية وثقافية يتشاور خلالها الناس في أمور الحياة ويتبادلون فيها المعلومات والمعارف، كما كانت مولدا للكثير من الاغاني والاهازيج الشعبية .

تعارف وزواج

تلك المواسم ،كانت تشهد الأوقات التي يبني فيها الحصادون من كل مكان خيمهم حول بيادر القمح مكانا، للتعارف وبناء الصداقات وميدانا يبحث فيه العزباء عن الزواج.
فالمعمرة ذات ال 94 عاما ام عيسى كانت إحدى اللواتي يبحثن لشباب القرية عن عرائس، وتروي أم عيسى قصة فريدة لعائلة تزوج الابن والأب والجد فتيات تعرفوا عليهن أثناء حصاد القمح قائلة ''أصبح الناس يطلقون عليهم لقب أبو الحصاد، لأن معظمهم تزوجوا من عرائس تعرفوا عليهن في موسم الحصاد، وكان لي مساهمة في تزويج الكثير من الشباب والفتيات حيث كان تجمع الناس في الأراضي المزروعة لغايات حصادها المتنفس الوحيد في عدة عقود مضت للقاء الفتيات والشباب''.
أما أبو سليمان 56 عاما فيقول: كلما تذكرت موسم الحصاد أتذكر زواجنا، وكلما أتذكر زواجنا يسرح ذهني في موسم حصاد الأرض وبيادر الخير الجميلة لأنني تعرفت على زوجتي أثناء حصادنا لأرض أعمامي قبل ثلاثين عاما من الآن.

اهازيج الحصاد

وكانت مواسم الحصاد تعج بأصوات الفلاحين الذين يطلقون بأهازيجهم حينا بعد حين، وهي أهازيج كثيره، أشهرها أهزوجة كانت تغنى لرفع همة الحصادين هي ''منجلي يا من جلاه.. راح للصايغ جلاه...''.
ولساعات الصباح التي يتساقط فيها الندى أهمية خاصة عند الحصادين الذين سئموا حرارة الشمس فيغني الجمع حينما يتساقط الندى أهزوجتهم الشهيرة ''والندى يا بركه.. هد حيلي واضنكه ..والندى لولا الندى..كان زرعي ممدا''.
وكان للطبقات والفوارق الاجتماعية دور كبير في هذه المواسم جسدتها عدة اهازيج منها أهزوجة الفلاح الغني الذي يقول ''يا زرعي اتدنى لي.. مالي حيله أمد ايدي'' فيما يغني الفقير ''يا ظهري يا المقطوع.. ما تخبر ليالي الجوع''.
وتنوعت مواضيع أهازيج الحصاد فمنها ما قيل في الغزل أيضا كاهزوجة ''والله أكبر يا حصادات .. ويا أمات البكل المشكلات..والله أكبر يا حصادات .. ويا أمات الشبك المخرزات''.

مصطلحات الحصاد

شكلت مصطلحات الحصاد أبوابا مستقلة في معاجم اللغة العربية بحسب أساتذة اللغة والنحو، ومن أشهر هذه المصطلحات؛ المنجل وهو قطعة حديد مقوسه لها أسنان حادة تستخدم في جني الزرع، والشمال وهي ما يملأه الحصاد من الزرع في كلتا يديه وتسمى مجموعة الشمالات غمر، فيما تتكون الحلة من عدة غمور.
ومن مصطلحات الحصاد الاخرى؛ القادم وهي عصا خشبية تحتوي على ألواح تستخدم لنقل القش، والغربال وهو دائرة خشبية لها قاعدة جلدية ذات ثقوب تعمل على تصفية القمح من الشوائب ومصطلحات اخرى مثل: القالوش والكربالة والشاقوق وغيرها.
أما مصطلحات الكيل والذي يعود الكثير منها إلى أصول لغوية صحيحة فتعددت في لغة الفلاحين، ومن هذه الأدوات؛ الحفنة وهي ملء الكف الواحدة من القمح فيما يسمى ملء الكفين عرام، ومنها ايضا الصاع ويقدر ب 4كغم والكيل والعلبة والمد، أما العشراوية فهي اكبر المقاييس إذ تقدر بنحو 200 كغم.

المجالس مدارس

وفي الوقت الحاضر يهوى عدد كبير من الشباب والفتيات الجلوس إلى كبار السن لسماع قصص ماضيهم في مواسم الحصاد لأنها مدارس حياة حقيقية على حد تعبيرهم، فعماد النعانعة 13 عاما أحد الذين يعشقون سماع مثل هذه الأحاديث يرى فيها تعليما حقيقيا لمفاهيم التكافل والتناصر بين أبناء الجتمع وأثر هذا في انجاز العمل، مشيرا إلى أن حياة الماضي التي عاشت المعاناة والتضحية جديرة بالاحترام والتقليد لما تحمله من معان سامية وقيم أردنية أصيلة.
ويأمل طارق السلامين 14 عاما والذي تعلم من خلال سماعه لهذه الذكريات قيم التعاون والاعتماد على الذات والأرض أن لا يغفل الفنانون والمؤرخون ووسائل الإعلام مثل هذه التجارب وأن يحرصوا على تجسيدها في انتاجهم الذي يتحدث عن حياة الأردنيين في العقود الماضية.