حاوره: جعفر العقيلي - يرى الناقد والأكاديمي د.شكري عزيز الماضي، أن الإبداع الأدبي على الساحة العربية يسبق الإبداع النقدي بمراحل؛ رادّاً ذلك إلى اغتراب النقد الأدبي العربي في المرحلة الأخيرة عن حركة الواقع . ويضيف أن المشهد النقدي في العقود الأخيرة يتسم ب الانبهار بكل ما هو غربي، إلى درجة أن النقد أصبح موضوعاً للنقد ، كاشفاً أن هذه الظاهرة تولد أزمة نقدية كبرى .
ويتابع صاحب كتاب أنماط الرواية العربية الجديدة الصادر عن سلسلة عالم المعرفة- الكويت (2008)، أنه لا بد من ضبط عملية الانبهار بالغرب، لأنها تؤدي إلى تبديد طاقات إبداعية كبيرة، مفرّقاً بين التمثُّل والتبنّي.
ويدعو الماضي في سياق متصل إلى تمثُّل الجهود النقدية التراثية العربية، وليس العودة إلى الماضي أو التراث. ويؤكد على ضرورة الاهتمام بالقارئ العادي الذي أُهمل في الآونة الأخيرة، وبناء استراتيجية للتلقي على المستويات الأدبية والنقدية والثقافية كافة .
وُلد الماضي في العام 1949، نال درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة (1981)، بمرتبة الشرف الأولى، عمل عميداً ووكيلاً ورئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها في غير جامعة عربية، نُشر له أكثر من 20 بحثاً محكماً، وأكثر من 30 دراسة وبحثاً في المجلات الثقافية والفكرية العربية.
له 16 كتاباً منشوراً، منها: في نظرية الأدب (4 طبعات، يُدَرَّس في أكثر من ثلاثين جامعة عربية)، من إشكاليات النقد العربي الجديد (طبعتان، يُدَرَّس في مرحلة الدراسات العليا في ست جامعات عربية)، النص المفتوح: مدخل إلى تحليل النص الأدبي ، فنون النثر العربي الحديث (يُدَرَّس في جامعة القدس)، الرواية العربية في فلسطين والأردن في القرن العشرين .
تالياً حوار مع الماضي حول رؤاه ومسيرته النقدية، داخلَ فيه وأغناه الباحثُ د.ضرار بني ياسين، ومدير الدائرة الثقافية في الرأي الزميل حسين نشوان.
الثقافي كيف ترى إلى العلاقة بين النقد والأدب عربياً، هل تحقق المنشود منها؟
- هناك تداخل كبير بين حقلَي الأدب والنقد، وتفاعل أيضاً بينهما، فالأدب يفتح أفقاً أمام النقد، ومن واجب النقد الأدبي أيضاً أن يفتح آفاقاً أمام الأدب، حتى إن قيم الأدب وقيم النقد تكاد تكون قيماً واحدة في المحصلة. فالأعمال الأدبية تبلور مفاهيم النقد، وتشحذ أدواته، والنقد الأدبي يسهم في الارتقاء بالذائقة الأدبية وبلورة الوعي الأدبي الجمالي وتحديد وجهته.
لكن ما هو موجود في واقعنا الأدبي والنقدي أن هذه العلاقة لا تتصف بالصحة أو العافية. من وجهة نظري الخاصة أن الإبداع الأدبي يسبق الإبداع النقدي بمراحل لا بأس بها؛ أعني هنا أنه يتجاوزه، ليس بمفهوم الأسبقية الزمنية، ربما يعود السبب إلى اغتراب النقد الأدبي العربي في المرحلة الأخيرة عن حركة الواقع، فمعظم النصوص النقدية العربية تُتخذ وسيلة لتجريب منهج نقدي غربي أو للتبشير بآخر، أو توضيح مصطلح ما. بمعنى آخر ليس هناك عكوف على الحركة الإبداعية المحلية بحد ذاتها، واستخلاص خصوصيتها، مع الإفادة من المناهج الغربية، فكأن الوضع معكوس تماماً، وربما يؤدي هذا إلى تكريس الهوّة أو القطيعة حتى بين النقد والأدب.
الثقافي هذا اتهامٌ لنقاد هذا التوجّه، على أنهم كانوا فقط مبشّرين بمناهج ومدارس غربية، وبالتالي أغفلوا النص الأدبي العربي ونزلوا عن عكوفهم على معالجة الإنتاج الأدبي العربي.
- أنا أتحدث عن المشهد النقدي في العقود الأخيرة. ربما كان من أهم ملامح هذا المشهد الانبهارُ بكل ما هو غربي، إلى درجة أن النقد أصبح موضوعاً للنقد، فلم يعد موضوع النقد هو الأعمال الأدبية، وهذه الظاهرة تولد أزمة نقدية كبرى.
من وجهة نظري الشخصية أيضاً، أرى أن هذه الأزمة تستفحل منذ السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، يؤكد ذلك أن الدراسات الأدبية في هذه المرحلة بدأت بالتخلّي عن النقد الأدبي، فهناك من يتحدث عن أن النقد الثقافي بديل للنقد الأدبي، وهناك من يتحدث عن موت النقد الأدبي، وهذا تعبير صارخ عن حدّة الأزمة النقدية.
الثقافي هل ترى أن النقد الثقافي يمكن أن يكون بديلاً للنقد الأدبي؟
- تجارب النقد الثقافي في الوطن العربي التي بدأت العام 2000، تحدثت عن أن النقد الثقافي بديل للنقد الأدبي، وهناك من تحدث عن موت النقد الأدبي، وفي اعتقادي أن هاتين الدعوتين نتاجٌ للعجز عن مواجهة الأزمة المنهجية.
في نهاية السبعينيات كانوا يتحدثون عن الحرص على أدبية الأدب، ويرفضون المناهج النقدية الحديثة، الآن يتحدثون عن النقد الثقافي كبديل، وهذا يعني استفحال الأزمة النقدية، لأن النقد الأدبي له مهماته، والنقد الثقافي له أنساقه المختلفة.
الثقافي المرجعيات الفلسفية للنقد الأدبي العربي كلها ذات صلة بالمناهج والأجهزة المفهومية الغربية، وهذه في جلّها لها امتدادات ذات صلة بإعادة إنتاج الرأسمالية. السؤال هنا: من أين نبدأ؟
- الإجابة تفرض عليّ أن أتحدث عن نشأة النقد الأدبي العربي الحديث، إذ نشأ هذا النقد في أوائل القرن العشرين تلبية لحاجات جمالية واجتماعية وحضارية مستجدة، ونجح الرواد ومن تلاهم من نقاد وأساتذة في بناء كيان اسمه النقد الأدبي الحديث ، هذا الكيان وُجد من أجل أداء وظيفتين مترابطتين، الأولى راهنة وتتمثل في نقد النصوص والتمييز في ما بينها والبحث عن قيمها الفنية الخاصة، والوظيفة الأخرى تتمثل في تجسيد صوت نقدي وأدبي خاص، ولا شك أن هذا التجسيد يعادل الفكاك من أسْر التبعية، ولهذا لاحظنا أن الرواد ومن تلاهم من نقاد وأساتذة كانوا يدرسون النصوص الأدبية المحلية ويحاولون أقلمة المناهج والنظريات والتيارات الأوروبية أو تبيئتها، حتى يتلاءم المنهج مع المنطق الخاص للنص الأدبي العربي.
ولا شك أنهم حققوا إنجازات كبيرة، لكنهم لم ينجحوا في تحقيق نجاح شامل وكلّي يتمثل بامتلاك منهج خاص، مع ما يتطلبه من أدوات نقدية متبلورة.
استمرت هذه الحال حتى الربع الأخير من القرن العشرين، ومع استفحال الأزمة الثقافية والحضارية، بدأ النقاد العرب يتخلّون عن محاولة التكييف والأقلمة، ويدعون إلى تبنٍّ كلّي للمناهج والتيارات الأوروبية، وأحسب أن التبنّي الكلي يؤدي إلى تغييب الصوت الخاص، لذا فإن الأزمة تستفحل ولا تتقلص.
أعتقد أننا يجب أن نبدأ من الحركة الإبداعية المحلية، بمعنى دراسة الأدب العربي القديم والوسيط والحديث لاكتشاف خصوصيته التي تتجسد بالمشكلات الخاصة والمواقف الخاصة، وأضيف أنه لا بد من ضبط عملية الانبهار بالغرب، لأنها تؤدي إلى تبديد طاقات إبداعية كبيرة، فالموقف النقدي/المنهجي الصحيح ينطلق من وظيفة تَمثُّل هذه المناهج الغربية، بمعنى هضمها واستيعابها، وتمثُّل الإنجازات التراثية، والعكوف على نصوص الحركة الإبداعية العربية.
فهناك فرق كبير بين التمثُّل والتبنّي، لا بد من أن يكون لدينا مخططات وبرامج خاصة، وأن نتعامل مع المناهج الغربية بوصفها أدوات مفيدة في تحقيق ما تصبو إليه هذه المخططات والبرامج.
الثقافي هذه الوضعية أشار لها الجابري في كتابه التراث والحداثة وغيره من كتاباته، مثل نحن والتراث ، فقد بيّن الفرق الجليّ بين التمثُّل والاستيعاب للمناهج الغربية، وبين تبنّي هذه المناهج كقوالب جاهزة وإسقاطها على قراءة التراث العربي كله.
- المطلوب هنا تمثل الجهود النقدية التراثية العربية وليس العودة إلى الماضي أو التراث.
النقد العربي القديم فيه نصوص غنية وثرية جداً، ولكن تم اختزالها في مقولات تصادر روح التجربة الأدبية أو روح الشعر من مثل الشعر العمودي وشعر التفعيلة، وهاتان التسميتان تحتاجان إلى مراجعة، حيث يتم اختزال الشعر العمودي بكلمتين رغم تنوعه، أما الشعر المعاصر شعر التفعيلة فقد اختُزل وكأنه ظاهرة صوتية أو موسيقية. حتى لو قلنا شعر التفعيلة ، فالأصحّ أن يقابله شعر البحور . فهذه التسميات تصادر روح التجربة الشعرية المتعددة المتنوعة، كما تغفل المسوغ الفكري والحضاري لوجود الشعر وتطوره.
الثقافي إذن، كيف يمكن لناقد لا يقرأ أن يقدم إسهاماً نقدياً جديرا؟
-لا أدري في ما إذا كان هناك ناقد يستحق هذه التسمية ولا يقرأ. في كل الأحوال يمكن القول إن مفهوم النقد مختزل، حيث غابت الوظيفة الثانية التي تحدثنا عنها والمتمثلة في المهمة التاريخية الحضارية. إذا اعترفنا بذلك فهناك تيارات كثيرة يمكن أن تكون ضمن مشروع عام، في محاولة لأداء هذه المهمة.
الأدب نسق ثقافي، ولا أحد يعترض على ذلك، وظيفته نسقاً أن يشحذ الذاكرة الثقافية. والنقد الأدبي نسق ثقافي أيضاً، وظيفته أن يجعل الذاكرة الثقافية متوهجة دائماً، وهذا يؤكد العلاقة الجدلية بين الأدب والنقد. من الخطأ أن نحصر وظيفة النقد بالتمييز بين النصوص. الناقد الجاد يبدأ بالنص، والنص مادته الرئيسية، لكنه يجب أن يدرك أن الممارسة النقدية لا تنتهي بالنص، كما أن نتائجها لا تنحصر بالأدب والنقد، وإنما تضيء هذه النتائج أنساقاً فكرية واجتماعية وحضارية.
أود أن أضيف أن من مهمات النقد الأدبي الأساسية فهم الإنسان المبدع، وفهم الإنسان/ المتلقي، والكشف عن القوى الاجتماعية الفاعلة في المجتمع.
الثقافي إذا كان جزء من وظيفة الناقد (المؤول) فهم النص، هناك مدارس تتحدث عن مفهوم التأويل من القرن السابع عشر أو الثامن عشر وحتى هذه اللحظة المعاصرة. هناك نظرية تقول إن التأويل يقوم فقط، وفقط، على اللغة بوصفها وسيطاً رمزياً بين كاتب النص وبين جسد النص والقارئ، أي المؤول نفسه. هناك اتجاه آخر يرى أن اللغة لها هذه الأهمية، لكن النص بما هو نص يبقى أفقاً مفتوحاً على كل التأويلات. وأصحاب هذا الاتجاه يرتابون كثيراً من سلطة المعنى المكمل للنص، إذ النص يبقى إمكانية مفتوحة أمام التأويل، وبالتالي فإن استمرارية المعنى هي شيء يصنعه القارئ المؤول، وثمة من يقول إنه يجب الاهتمام بالنص وبالبعد السيكولوجي للكاتب (كاتب النص).
- نظريات التلقي تستند إلى فلسفة خاصة ترى أن المعنى يوجد لا في النص، ولكن لدى المتلقي. ومن الممكن أن يُنتج النص معاني لا نهائية، ومن هنا يصبح التأويل شخصياً لا يستند إلى نظرية الفهم الذي نتحدث عنه.
معظم النظريات الجديدة تشترك في قضية مركزية واحدة، وهي عدم الاهتمام بالمعنى، ويتم ذلك بطرق متعددة. لدى نظريات التلقي، المعنى موجود لدى المتلقي، وليس في النص، بمعنى أن النص ليس فيه معانٍ، أو أن النص يُنتج معاني متدفقة لا تتوقف، وبالتالي فإن النص في زمنٍ ما له معنى، وفي زمنٍ آخر له معنى آخر، وهي مقولة تؤكد خلوّ النص من المعنى.
هذه التيارات تصطدم بمشكلة فلسفية كبرى. يمكن أن نوافق أن النص ينتج معانيَ متعددة، ولكن يجب أن يتوقف ذلك عند نقطة. لا نهائية المعنى تسوّغ خلوَّ النص من المعنى على الصعيد الفلسفي. الأدب لا يمكن أن يخلو من القصدية. العمل الأدبي له دلالة، والتدفق في إنتاج الدلالات لا بد أن يتوقف عند نقطة ما، حتى يصبح للنص معنى ما.
الثقافي بخصوص لا نهائية المعنى والتأويل، فقد هناك توجُّه لإلغاء أو نزع سلطة المعنى الكامل الناجز في النص الأول، حتى لا يكون بيد فئة تستحكم بهذا المعنى وتفرض هندستها الاجتماعية، أو أن تفرض أيديولوجيتها على الجميع تحت ذريعة أن المعنى اكتمل وانتهى، وليس أمامنا سوى التسليم بقصدية واحدة تؤمن بها هذه الفئة أو تلك.
- النص الذي يقدم معنى كاملاً ووحيداً، نص ضعيف، وقد لا ينتمي إلى حقل الأدب، ولا بد من الإشارة إلى أن النقد النصي لا يهتم بالمعنى، والنقد السياقي يهتم بالمعنى.
وفي ظل الظروف التي نمر بها، هل من المصلحة أو من المفيد أن نهزأ بالمعنى أو بالدلالة؟
هل يصحّ أن الأدب لعبة إخبارية لغوية لا قيمة لها، أم إن الأدب مرتبط بتجربة بشرية؟
الثقافي قضية فقدان المعنى لم تكن بالأساس متعلقة بالأعمال الأدبية والنصوص الإبداعية، فقد كان الشعار فلسفياً مرتبطاً ب فلسفة التنوير . أي منذ القرن التاسع عشر، عندما تشكَّكَ المثقفون والمفكرون بالنزعة الإنسانية، وما إن انتهى العالم إلى القرن العشرين حتى دخلنا في حربين عالميتين، ضربتا العقلانية وفكرة العقل في الصميم، وسرى أن معنى الحياة فُقد بسبب الحروب، فالقضية فلسفية قبل أن تكون أي شيء آخر.
- كل هذه التيارات (البنيوية، والتفكيكية، ونظريات التلقي...) تسعى إلى رسم إشارة استفهام حول كل شيء، وتطرح فكرة الشكّ في كل شيء. الشكّ هذه المرة يختلف عن الشكّ الديكارتي الهادف للوصول إلى الحقيقة، أو بوصفه جسراً للوصول إلى المعنى، الآن الشكّ هو هوية المعنى، بمعنى أنه لا يوجد معنى، والعالم أيضاً يصبح بلا معنى، لهذا اتُّهم جاك دريدا بأن مقولاته تقوم على أن العالم أصبح يخلو من المعنى.
هناك قضية أخرى ذات صلة بالخصوصية. من الممكن للأديب الأوروبي أن يجسّد بالشكّ خلوّ العالم من المعنى، ويقترب فيه من العبث، أما الأديب العربي فيمكن أن يجسد العبث في العالم ولكن من منظور مختلف، وهو أن هذا العالم انتُهك معناه أو اختُرق، أو أن العالم أصبح بلا معنى. وهذا نتيجة لسياق حضاري اجتماعي ثقافي مختلف.
تأكيد الخصوصية للنص الأدبي العربي لا يتنافى لِلَحظة مع الانتماء للثقافة الإنسانية، بل إن هذا التأكيد يوفر للثقافة الإنسانية سمة من أهم سماتها هي التنوع أو التعدد، بدلاً من أن نندمج بلا صوت مع الثقافة الإنسانية، والمعادلة الصعبة التي تواجهنا هي كيف يمكن أن نصبح جزءاً منها وفاعلين، وأن نحتفظ بخصوصيتنا في الوقت نفسه.
الثقافي تميل دراسات نقدية تتناول المنجَز الروائي في الأردن، إلى أنه ليس هناك رواية أردنية. ما موقفك إزاء هذا الحكم؟
- في التصنيف العلمي الدقيق للأدب العربي، ليس هناك رواية أردنية، وأخرى سورية، وثالثة مصرية.. إلخ. هناك ظاهرة روائية عربية، من الممكن أن نجد أطيافاً أو ألواناً، لكنها لا يمكن أن تقوى على تشكيل ظواهر مستقلة داخل الظاهرة الكبرى.
يمكن القول إن هناك رواية عربية في الأردن، ورواية عربية في تونس. .إلخ. إذا قلنا إن هناك رواية مستقلة في أي قُطْر، فهذا يستدعي أن تُدرَس بشكل منفصل عن الظاهرة. من نتائج التقسيمات السياسية والظروف التاريخية المعروفة، أنه أصبح هناك تطور غير متكافئ بين كيان سياسي وآخر، لكن الكل ينظر إلى هذه التقسيمات بوصفها طارئة وسوف تزول. القلعة التي لم يستطع أحد أن ينجح في تقسيمها هي الثقافة العربية.
ثقافتنا عربية، ولا يمكن الحديث عن ثقافات قُطْرية، ولكن من الممكن الحديث عن كيانات سياسية أو تاريخية. بعض المستشرقين يرون أن العرب ليسوا أمة واحدة وأنهم مجموعة من الأمم المختلفة، ولكن عند الحديث عن الثقافة فإنهم يقرُّون بأن هناك أدباً عربياً واحداً.
الثقافي الرواية في الأردن، أسوةً بمثيلاتها في الدول العربية، تعاني من ثنائية أو جدلية الكمّ والكيف، ماذا تقول في هذا السياق؟
- أعتقد أن هناك أعمالاً متميزة جداً، وهناك أسماء لها حضور، لكني سأتحدث بعلمية. هل الرواية العربية في الأردن تمر بأزمة؟ نعم، وهذا جزء من أزمة الرواية العربية في المجمل. الثقافة العربية كلها مأزومة، وأحد أنساقها (الرواية) مأزوم، وقد يكون هذا بسبب أزمة الإنسان العربي.
في كتابي الرواية في فلسطين والأردن ، أشرت إلى أن أزمة الرواية في الأردن وفلسطين جزء من أزمة الرواية العربية.
ومن أهم ملامح هذه الأزمة: إلحاح الأفكار، كأن النص الروائي وسيلة لنقل الأفكار، وليس تصويراً لتجربة بشرية لا تخلو من الأفكار. هذا يتجلى في تصوير المنعطفات الحادة، أو العودة إلى التاريخ، أو العامل السياسي، أو العلاقة بين السياسي والأدبي، أو العلاقة بين الفكري والأدبي..
الملمح الآخر: المادة التسجيلية في الرواية العربية عموماً، كأن الروائي العربي يهتمّ بما سيقوله التاريخ عنه إن قصّر في تصوير حادثة أو منعطف، أكثر بكثير من اهتمامه بأنه يسهم في صناعة التاريخ من خلال إبداعه.
وهناك ملمح يتمثل في قضية التواصل مع القارئ. هل تعالج الرواية العربية مشكلات جوهرية؟ إن كان الأمر كذلك، سيُقبل عليها القراء.
وهناك ملمح التجريب المجاني الذي يتم استناداً إلى ذرائع فلسفية وفنية غير محلية، بعيداً عن الواقع والسياق.
الثقافي التجريب والتجديد.. يبدو أن في ثنايا تلكما الدعوتين عودة للاستشراق بمعنى من المعاني؟
- مفهوم التجديد في الأدب لا يعني إضافة الأصباغ والألوان والتقنيات إلى النص الأدبي، فهناك أدوات وتقنيات وأساليب لم تعد صالحة لتحليل الواقع وفهمه وتصويره، وبالتالي لا بد من ابتكار أدوات وتقنيات وأساليب جديدة تساعد الأديب في تشريح الواقع وفهمه.
التجديد كما أرى، يعني البحث عن عالم أفضل.
الثقافي في كتابك أنماط الرواية العربية الجديدة ، درست الرواية استناداً إلى حلقات ثلاث هي: الرواية التقليدية، الرواية الحديثة، والرواية الجديدة. ما الأسباب التي دفعتك إلى هذا التصنيف الجديد؟
- انطلقت في هذا التقسيم من أن الرواية عمل فني بالدرجة الأولى -لا شريحة من الحياة- وهذه الرؤية لا تفصل بين الفن والواقع، بل تراعي طبيعة النص المدروس والصفات النوعية لحركة روائية إبداعية مميزة بنسيجها ومواقفها ومشكلاتها. فهذا التصنيف يأتي نتيجة طبيعية لإملاءات الظاهرة الفنية المدروسة ذاتها، ولهذا لم ألجأ إلى التصنيفات المألوفة مثل: رومانسية، واقعية، رمزية.. إلخ، لاعتقادي أن عملاً مثل هذا يعدّ سابقاً لأوانه، فتضاريس الخريطة الاجتماعية فرضت تعايش رؤى متعارضة ومتناقضة، أضف إلى ذلك أن مصطلحات من مثل الرومانسية والواقعية والرمزية.. إلخ، تبدو في حقل النقد العربي قلقة وفضفاضة إلى حد كبير.
كما لم ألجأ إلى تقسيم الظاهرة المدروسة تبعاً للأحداث التاريخية والمنعطفات الحادة، لاعتقادي أن نقطة البدء يجب أن تكمن في البحث عن القيم الفنية ودلالاتها، ومن ثم البحث عن توافقها -أو عدم توافقها- مع تلك المنعطفات والأحداث الكبرى.
الثقافي وما الذي تقصده ب الرواية الجديدة ، وما خصائصها وسماتها؟
- هذا السؤال هو السؤال الأول الذي بدأتُ به في كتابي أنماط الرواية العربية الجديدة . وفي محاولة الإجابة عنه وتحديد المقصود بالرواية الجديدة، لجأت إلى تصنيف الرواية العربية عامةً إلى حلقات ثلاث هي: التقليدية، والحديثة، والجديدة. وقد استندت هنا إلى معيار مهم هو الوظيفة والماهية ، فالوظيفة تحدد الماهية، ماهية الرواية وطبيعة عناصرها وطبيعة التفاعل بين هذه العناصر. فالتصنيف يستند إلى الخصوصية الفنية لمسار الرواية العربية منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا، وإلى القيم الجمالية المهيمنة في مرحلة ما.
فالرواية التقليدية مثلاً -التي كانت مهيمنة في القرن التاسع عشر- تتحدد وظيفتها بالوعظ والإرشاد والتعليم، ولهذا وصفتها بأنها تصميم يعيد إنتاج الوعي السائد، أو تصويب الخلل في منظومة القيم، أما الرواية الحديثة -التي هيمنت في القرن العشرين- فتتمثل وظيفتها في تجسيد تفسير فني للعالم، فهي تصدر عن وعي جمالي يتخطى حدود الوعي السائد ويتجاوزه إلى آفاق جديدة، لأن التفسير الفني هنا هو بمثابة كشف جديد لعلاقات خفية، أو حقائق جديدة، ومن خلال هذا الكشف الجديد تتولد المتعة والتشويق والجاذبية. أما الرواية الجديدة فهي تصميم يجسد رؤية لايقينية من العالم، فهي نتاج للغموض الذي يعتري حركة الواقع ومجراها، ولِتَفَتُّت منظومة القيم واهتزاز الثوابت. وهي في جوهرها تمرد ورفض لجماليات الرواية الحديثة. فالأحداث في الرواية الحديثة منسقة لها بداية وذروة ونهاية، وفي الجديدة مبعثرة ومشظّاة، والشخصيات في الرواية الحديثة لها أبعاد محددة وهي حيوية وفاعلة لها قسماتها ودورها، وفي الجديدة مختزلة أو هامشية، فالشخصية هنا مجرد حرف أو ضمير أو رقم أو شيء. والنسيج اللغوي في الرواية التقليدية يتصف بالرصانة والتماسك، وتسيطر عليه بلاغة شكلية، أما في الحديثة فاللغة نثرية قادرة على الوصف والتحديد والتصوير، وفي الجديدة يلاحَظ أن اللغة لها مستويات متعددة تراوح بين العادي والدارج واللغة الشعرية المكثفة. فالرواية الجديدة تهدف من خلال وظيفتها العامة وماهيتها -لا إلى إقناع القارئ وإيهامه بواقعيتها- بل إلى إثارة الشك والتساؤلات، والتفكير في كل ما يقرأ. ولا بد من الاعتراف بالتباين بين نصوص جورجي زيدان ونجيب محفوظ ومؤنس الرزاز.
الثقافي برأيك، ما أسلوب خلق الثقة والتواصل بين الناقد والقارئ؟
- لا بد من الاهتمام بالقارئ العادي الذي أُهمل في الآونة الأخيرة، ومن الضروري بناء استراتيجية للتلقي على المستويات الأدبية والنقدية والثقافية كافة. وقد بينت سبل بناء هذه الاستراتيجية في بحث مطول قُدِّم إلى المؤتمر الدولي الثاني للنقد الأدبي، وقد وضحت فيه الفروق بين التلقي والتلهي.
وفي سبيل خلق الثقة أيضاً لا بد من تصويب مسار النقد الأدبي وتخلّيه عن الغموض والإبهام والجداول والرموز والترسيمات التي تزيد من تعقيد الممارسة النقدية وغموضها. وأود أن أشير هنا إلى أن كتابات طه حسين النقدية كانت تلقى رواجاً لذاتها، وكانت تُقرأ من قبل المتخصصين وغير المتخصصين، ربما بسبب أسلوبها ووضوحها ومخاطبتها جمهوراً عريضاً غير متجانس، وقدرتها على تلبية حاجات القراء المعرفية والجمالية. وبعبارة أخرى لا بد من تحديد وظيفة النقد الأدبي بصورة دقيقة. فالنقد الأدبي يمثل نسقاً تكوينياً مهماً وأصيلاً في بنية الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، وممارسة نوعية دالّة تتضافر مع الأنساق الأدبية والثقافية الأخرى في سعيها الحفاظَ على الشخصية المحلية وإجلاء هويتها، وطموحها في تشكيل صوت أدبي ونقدي خاص ومتميز.