خدمة الدفع الالكتروني
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

(سيدة الأعشاب) لخليل قنديل .. مسافة واحدة من السرد والشعر

(سيدة الأعشاب) لخليل قنديل .. مسافة واحدة من السرد والشعر

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ

د.إبراهيم خليل - في قصة خليل قنديل الموسومة السبعيني (من مجموعة سيدة الأعشاب ) يجد القارئ أنه أمام قصة ذات بناء فني شديد التماسك، تسهم كل عبارة فيه وكل جملة في تحقيق التسلسل المشهدي السردي. فبطل القصة -وهو الراوي هنا- يفيق في منتصف شهر كانون الثاني من كل سنة - ولا أدري لماذا يُذكّرني هذا التاريخ بعيد الشجرة- ليطل من نافذة البيت الذي استأجره منذ خمس سنوات في جبل اللويبدة، على حديقته المنزلية، وهي حديقة صغيرة جدا، لكن الأشجار، والنباتات المنزلية، تتكدس فيها بطريقة لافتة للنظر.

ما يستدعي السارد ها هنا لتذكر المشهد هو تغيّب المزارع السبعيني الذي اعتاد أن يأتي في كل سنة مرة واحدة ليعنى بالدالية وشجرة اللوز والتينة والليمونة الشهرية والورد الجوري، فيقلم، ويشذب، ويسمّد تارة، ويزرع ويقلع تارة أخرى، فيحيل الحديقة الشعثاء إلى مشهد يبهج العين، ويسرُّ القلب.
أما الحوار، الذي يستذكره الراوي بين الرجل -صاحب البيت- و السبعيني الذي يرفض التقاعد من عمله هذا، فيؤدي وظيفة واحدة هي إصرار هذا الإنسان على بعث الحياة والتجدد في ما هو مهدد بالذبول، واليُبْس. وبعث الحلاوة في ما هو مؤذن بالكزازة، والمرارة. وبعث الخصوبة في ما هو مؤذن بالعقم، والجفاف. هو تموز إذاً الذي نعرفه في أساطير بابل وآشور. ومع أنه لا يتقاضى مقابل العمل الذي يقوم به إلا القليل جدا (ديناران حسب)، إلا أن لذته بهذا العمل لا تعادلها لذة أخرى، ولا حتى لذاذة الكسل التي ينعم بها مستخدمه في هذه القصة، وهو صاحب البيت.
يسلط الراوي الضوء على علاقة هذا السبعيني بالتربة، بالتينة، بالنباتات الكثيرة المتسلقة، أو الممتدة على الأرض، هذا الفلاح البسيط متمسك بالحياة؛ فلا يسره شيء قدر سروره في أن يقال عن يده: يدُه خضرة أو خضراء، فلا فرق. أي أن تأثيره يأتي بالنتائج المرجوة دائما على الرغم من أنه، هو، آيل للتداعي الذي تنبئ عنه ملامح شيخوخته الظالمة، التي أدت إلى تغيبه عن الحديقة في هذا العام، وهو العام الذي كُتبت فيه القصة، أي العام الذي روى فيه الراوي حكايته.
منْ يقرأ هذه القصة، يلاحظ حرصَ الكاتب، من البداية، على تقسيمها إلى مشاهد يتكرر في مطلع كل مشهد منها لفظ الرجل ، معلقا كلا منها بالمشهد الذي قبله، والمشهد الذي يليه. فكل منها مفتوح على الذي قبله والذي بعده. فهي مشاهد سردية تتفاعل، وتنفتح على أفق يمتد، مؤديا إلى نهاية معينة: حينما أزحت الستائر.. توجّهتُ بنظراتي إلى شجرة التين التي زرعها.. أدهشني اللون العظمي المزرقّ لأغصانها العارية مثلما أدهشني البرق الذي لمع فجأة في السماء.. راسماً لي -وفوق شجرة التين بالذات- ما يشبهُ اليدَ الخضراء .
هذه النهاية تشبه الرؤيا، أو الحلم الذي كان ينْبغي أنْ يُسْتوحى من عنوان القصة. فلوْ جعل خليل قنديل قصته هذه قصة بعنوان: اليد الخضراء أو الخضرة، أو يدٌ خضراءُ لكان حظه من التوفيق، ومن مطابقة العنوان للفحوى، وملاءمة الدال للمدلول، أبينُ، وأظهر، من السبعيني ؛ لأنّ كلمة السبعيني وإنْ كانت تلفت النظر بطابعها المكثف -وهو شيءٌ يحرص عليه المؤلف- في ما يبدو من عنوانات قصصه في الكتاب: البيت ، السبعيني ، المزيونة ، الطاسة ، المنديل ، الرحيل ، الدرويش ، إلخ...- إلا أنها عنوان محايد، لا ينمُّ إلا على ضرب من الإحالة الزمنية التي لم توظَّف في الحكاية توظيفا جيداً، إذ حلت محلها الإحالة إلى لون اليد المُخضوضرة. ف يد خضراء عنوان أكثر تشويقا من السبعيني ، ويساعد على ربط بداية القصة بالخاتمة، جاعلا من السرد سرداً دائريا يشحذ الانتباه نحو وجهة النظر التي يعبّر عنها الكاتب، وتتضمنها القصة.
على أنّ ما يستدعي التساؤل هنا في شيء من الإثارة، هو: ما الذي جعل منتصف كانون الثاني من العام الذي يكتب فيه السارد هذه القصة، أو يتذكرها، يختلف عن غيره؟.
هذا السؤال قد يتبادر لنفر من القراء المتمرّسين بقراءة القصص الجيدة، التي لا تقول ما تريده بصريح العبارة، بل تقوله تلميحا، وبأساليب لا تخلو من مواربة، وإشارة. بيد أن القارئ العادي قد لا تستوقفه نهاية القصة، ولا تلفت انتباهه إلى مثل هذه النقطة. فالكاتب الذي استخدم الراوي هنا بذكاء، لم يُشرْ بكلمة واحدة لغياب السبعيني، لكنه كشف بعلامات عن ذلك الغياب، وهذه العلامات تحتاج إلى مؤول لديه خبرة بقراءة الشعر، والقصة القصيرة.
فاللون -والكاتب يكثر في هذه القصة من ذكر الألوان- العَظْميّ، الضارب للزرقة، دالّ لدى بعض الناس على الذبول، واليُبْس. وربما الموت. وقد لا يكون الأمر كذلك، لأن الوقت الذي تقع فيه أحداث هذا المشهد هو فصل الشتاء، وفيه تكون شجرة التين عارية من الأوراق تكاد تبدو لمن يراها ميتة ضاربة إلى السواد، فضلا عن الزرقة التي توحي بالموت. وقد أضاف الراوي لذلك المشهد رؤية البرق، وهو مشهد يتكرر ذكره في آداب الشعوب، وفي آداب العرب. وتأويل ذكره: قدوم الغيث، وسيدة الأمطار، أو الأعشاب، ومجيء الرعد، وما يصاحب ذلك كله من استدعاء للذكريات (وأومض البرق في الظلماء من إضمِ) و(صاح ترى برقا يُريك وميضه). وفي ضباب هذا المشهد الكوْنيّ تلوح تلك اليد الخضراء فيرى القارئ نفسه أمام لوحة تتوزع فيها الملامح والألوان. وباستخدام الراوي كلمة راسماً وعبارة : فوق شجرة التين بالذات ما يوحي بأن السبعيني استحالَ في هذه القصة طيفا. وبذلك يترك الكاتب للقارئ مساحة أكبر لملء الفجوة، وسدّ الفراغ.
فيظنّ صاحب اليد الخضراء، ذو السبعين عاماً، الذي لا يطيق صبرا على القعود في بيته من غير عمل، الذي يعشق التربة، والشجرة، ويرى في حياتيهما المتجددة، الندية، المخضوضرة، النضرة، استمرار حياته هو، قد رحل هو الآخر، لتبقى ذكراه ماثلة في هاتيك الأغصان التي تبرْعِمُ -بلا ريب- كلما عاد الربيع.
ومثلما يُلاحظ القارئ، تحكي هذه القصة حكاية قصيرة، فيها شخصيّة السبعيني وراو (صاحب المنزل) ومكان (المنزل، والحديقة) وفضاء قصصي: اللويبدة، السلط، حيث مكان إقامة السبعيني، وقدومه المتكرِّر منها إلى عمان. والأجواء التي تكتنف الحدث. وعقدةٌ، هي: غياب السبعيني. ومشهدٌ يتفتت إلى مشاهد بعضها مفتوح على بعضها الآخر. ولغة تتكدس فيها، وفي نسيجها اللفظي، الإشارات: لونية تارة، وبصرية تارة أخرى، وحسية ذوقية، ومع ما فيها -أي القصة- من مكونات سردية، إلا أنها تقترب أيضا من القصيدة. فهي على مسافة واحدة من السرد، والشعر. ولعل أوضح ما يقرّبها من الشعر هو عزوفها عن البوح بوجهة النظر، أو الفكرة التي يعبّرُ عنها الكاتب، والتوجّه للإيحاء بها بدلا من البوح، والترميز عوضا عن التصريح، وتضمين الحكاية نصّا غائبا له ظلال واضحة في النسيج السَّردي، وهو أسطورة تموز، الذي يعيد الحياة للطبيعة بعد جفاف. وهذا جله، إنْ لم يكن كله، من مسوِّمات الخطاب الشعري الذي تلتقي فيه القصة ب سيماء القصيدة.
ومنْ يعدْ للقصة الأولى في سيدة الأعشاب يلاحظ تكرير الكاتب كلمة الرجل في مستهل كل مشهد سردي. وهذا قد يلقي الضوء على توجه أسلوبي في كتابة القصة استعير من القصيدة القصيرة، ويقوم على استخدام تقنية المشهد السردي. وتنبني القصة بالتحام هذه المشاهد بوسيط هو الشيء الذي يتكرر ذكره عادة أكثر من تكرير غيره. وهذا يذكرنا بسمة لافتة في الشعر، وهي قيامه على إيقاع التكرار، فيما تقوم القصة على إيقاع الاستمرار والاطراد، في ما يؤكد، ويلح نورثروب فراي.
ففي قصة السبعيني تبرز هذه الظاهرة، إلى جانب تكرار كلمة السبعيني ، لكنها سرعان ما تختفي في قصص أخرى.
يجدُ القارئ على أي حال في قصة البيت غموضاً محبباً، فالرجل الذي جاء إلى جبل الجوفة في عمان باحثا عن بيت معين يشتريه، ويرممه، ويقيم فيه، رجل غامض بلا ريب، بدليل أن الخريطة التي لديه خريطة بمواقع معينة، وهو يبحثُ عن بيْتٍ معيّن لشرائه، هو بالذات، لا عن أيّ بيت، وحين يبصر بيتا تلوح عليه إمارات التداعي، يطلب من السائق التوقف، فقد وجد ضالته المنشودة، وبغيته المفقودة، في ذلك المبنى العتيق، متهرئ الجدران. وهو بيت من أوائل البيوت التي شُيدت في ذلك المكان. وقد ارتبط وجوده بذكريات مرعبة، فبعد عامين حسبُ من تشييده سقطت ابنة الرجل الذي بناه من على الجدار المطل على المدرج الروماني، وفقدت حياتها على الفور. والشائعات عن كثرة الأرواح الشريرة التي تقيم فيه لم تعد شائعات، بعد أن تأكد أن ما يقال عن أفعال هاتيك الأرواح وقائع حدثت، ولا تقبل النفي. وسرعان ما تكثر التأويلات التي يتداولها الناس عن البيت، فبعضهم يزعم أنه شُيد فوق ضريح وليّ صالح، وأن روح هذا الولي تنهضُ في الظلام، وتنبعث، وتتجوّل في البيوت المجاورة، وفي أرجاء الحي، ولذلك سبب في الشؤم الملتصق به، وبمن يقيمون فيه، وكأنّ الولي الصالح غير راض عن بنائه فوق ضريحه. وعدما حاول أحد الفقراء المستخفّين بالجنّ الإقامة فيه، لم يستطع البقاء إلا ليلة واحدة لهول ما رأى، وما سمع، هو، وأولاده.
مع ذلك، لا يلقي الرجل الذي يتكرر ذكره في رأس كل مشهد سردي بالاً لكل ما يقال، أو يُشاع عن البيت، ولا لتلك الروائح العطنة التي تستقبله كلما اجتاز العتبة المتآكلة؛ فقد عزم على ابتياع البيت، وترميمه، وتجديده، وزرْع حديقته بالأشجار الحرجيّة، والمثمرة، والورود، وتنظيف حجارته ذات الألوان الباهتة، وقرميده، وإعادة دورة الكهرباء والمياه إلى المبنى. وفي أقلّ من عشرة أيام اهتزّ حلالها جبل الجوفة على إيقاع المفاجأة، شعر الناس بإثم غامض بسبب هاتيك الأوهام التي أسقطوها على البيت.
لكنْ، لم يكدْ يمضي على إقامة الرجل فيه عام كاملٌ، حتى اندلع فيه حريق أتى على كل شيء: من شجر، ومن حجر، ومن أناس، ودامت رائحة الحريق فيه مدة طويلة، وقيل: إنّ السبب هو تماسٌّ كهربيّ. وقيلت أسباب أخرى. وفي هذه القصة يظهر أحد الأشخاص سماه الراوي أبو يحيى ، وأبو يحيى هذا صاحب البقالة الوحيدة التي تقع قبالة باب البيت. ولديه، بسبب هذا الموقع، الكثير من الأخبار، والأسرار، التي قيلت، وتقالُ عما يحيط بالبيت، وبمن بناه، ومن أقام فيه في السابق، ومن اشتراهُ، وجدَّده، في اللاحق.
أبو يحيى هذا يتكرر ذكره، مثلما يتكرر ذكر الرجل، في مشهدين سرديّين، أولهما أعقب قدوم الرجل صاحب الخريطة، وثانيهما بعد أن ابتلع الحريق المكان بما فيه ، وتركه كتلة متفحمة تزكم بروائحها الأنوف. وهذا الرجل، هو، وحده، الذي يرفض تصديق ما يقال عن التماسّ الكهربي. فقد حاول -بنفسه- أن يعرف الحقيقة، فتسلق السور المفضي إلى المدرج الرومانيّ، وسقف السيل، أي: السور نفسه الذي سقطت عنه ابنة منشئ البيت، فماذا رأى؟ فتاة ممشوقة، بيضاء، تسير في الغبش الفجْري، مُلوِّحة له بإيشارب أبيض، بينما راح وجهها يطفح بالبهجة .
هذه الرؤيا، التي يراها أبو يحيى، لا في ما يراه النائم، بل في ما يراه اليقظان، كأنما جاءت لتؤكد أن ما كان يشيع عن البيت لا يتجاوز الحقائق. فهل الفتاة المبتهجة بحريق المنزل هي الفتاة نفسها التي سقطت عن السور عند بنائه، وتوفيت فوراً، فكانت سببا للشؤم اللاصق بالبيت منذ ذلك الحين، والتطيّر الذي جعل الذاكرة الشعبية تنسج حوله الكثير من الحكايات التي تصدَّق ولا تصدَّق؟ أهي التي أسهمت في إحراق المنزل، وأسلاك الكهرباء بريئة مما يُنسب إليها براءة الذئب من دم يوسف؟ أم إنّ الرجل الذي قيل إنه تفحم هو الآخر في ما تفحم له يد في الحريق؟.
هذه الأسئلة تضيف إلى حكاية البيت حكاية جديدة، حيث القارئ مطالب بشحذ تصوراته حول الحدث بدايةً، ونهايةً، ومغزى. فهي -بلا ريب- كالقصة التي جرى التنويه إليها في السابق، تطفو على تيار من الإيحاءات، والمبادرات الرمزية. فهل كان اختيار المؤلف لجبل الجوفة موقعا للبيت اختيارا عشوائيا، لا يعدو أن يكون ملحقا بالحدث الأول المقترن ببناء البيت؟ وهل ذكرُه الخريطة التي استلّها الرجل من جيب سرواله محدداً اختياره لهذا البيت بناء عليها، ذكرٌ عشوائي؟ وهل أراد هذا الرجل من شراء البيت العثور على كنز، أم اقتناص مركز السيادة، والقيادة في الحي؟ وهل في رؤية شبح الفتاة أضغاثُ أحلام، في يقظة لا في منام، رؤية عشوائية لا أكثر؟.
جلّ هذه الأسئلة، يُضفي على هذه القصة غموضا يشجّع القارئ المتبصّر على التأمل، والتصور، والتفكير. صحيحٌ أنّ بعض الناس لا يتمتع بقراءة هذا اللون من ألوان القصص، ويفضّل القصة التي تمنح نفسها للقارئ من التجْربة الأولى، ولا يميل للقصة اللعوب، التي تراوغ، وتتأبّى على الفهم من النظرة -القراءة- الأولى، لكنّ خليل قنديل في هذه القصة بالذات يتجه إلى النوع الأول الذي يهتمّ بالدفين، والمخبوء، بالمحذوف والمضمر، أكثر مما يهتم بالملفوظ والمعلن.
وأخيراً، هذه القصص، يرتقي الكاتب فيها إلى مرتبة تقف فيها على مسافة واحدة من السرد، والشعر، وهذا حسبه.


البيت @


الرجل فتح باب السيارة، ومدّ ساقاً ضفدعيّة، وانتصب واقفاً أمام البيت الذي يتوسط تلة صغيرة بتلك الصرامة البنائية التي تظل تُميز المعابد. تقدّمَ من البوابة المعدنية الصدئة للبيت. لم يدرِ أنه بوقفته المباغتة هذه، وأمام بوابة هذا البيت بالذات، قد أربك حياً بكامل شوارعه وأزقته ونوافذ بيوته المتقابلة، وحيطانه المتلاصقة.
الرجل أخرج من جيب بنطاله خريطة ذات خطوط نحيلة ومهترئة، وبدا بقامته القصيرة المربوعة، وبرأسه الذي بدا صغيراً، لا بل مقترحاً على قامته القصيرة، وكأنه من رجال الآثار خصوصاً عندما بدأ يعاين البيت مقترباً مرة ومبتعداً أخرى، وربما هذا ما جعل أبا يحيى البقّال المزمن للحيّ، يضرب أخماساً في أسداس وهو يُبسمل ويُحوقل من هول القادم والمخبّأ.
نساء بدا عليهن إرهاق الضحى المبكر، أطللن برؤوس منفوشة الشعر، وهن يرقبن هذا المخلوق الأشقر القصير الذي أخذ يعاين البيت من جهاته الأربع، بعينين زرقاوين بدتا وكأنهما قُدّتا من معدن.
أطفال قذفتهم على نحو مباغت كل الأزقّة المتفرّعة من الشارع الرئيس، ليلتفوا حول الرجل. باعة متجوّلون وموزّعو غاز وسيارات سرفيس وبائع المجمدات والحلاق والكوّى وبائع الخلويّات وطلبة مدارس. جميعهم وقفوا يراقبون الرجل، وهو يتحرك برشاقة تبدو وكأنها متعمدة حول البيت الكبير.
وهنا بدا البيت بواجهاته الحجرية الأربع ذات اللون الطيني المعتق، ومهترئة الحواف، وكأنه يتنفس ويسترد عافية قديمة ظلت ميتة ونائمة في أحشائه المرعبة. على الأقل هذا ما فكر به أبو يحيى البقال الذي قذفه قدَرُه اللعين لأن تكون بقالته بمواجهة هذا البيت ليلَ نهار لأكثر من خمسين عاماً، إلى الدّرجة التي صار فيها هو القيّم الروحي على هذا البيت. وهو الناطق الرسمي للإعلان عن كل ما صيغ حول هذا البيت من قصص وحكايا؛ فهو أول من تلقف حكاية البيت عن أبيه الذي قال له إن هذا البيت، كان من أوائل البيوت التي أقيمت في جبل الجوفة ، وكان صاحبه من عليّة القوم، وإنه أحضر له البنائين من الشام وبيروت ويافا، وعمال السيراميك من خان الخليلي بالقاهرة، ليكون بيته من أجمل بيوت عمان قاطبة.
لقد أخبره أبوه، أنه بعد عامين من بناء البيت، سقطت ابنة الرجل من فوق الجدار المطل على المدرج الروماني وسيل عمّان ووسطها الناغل بالحياة، وماتت مهشّمة، وأن الرجل اعتبر البيت فألَ شؤم، وغادره إلى غير رجعة.
أبو يحيى فكر أيضاً بالقصص المهولة التي يحكيها الناس عن هذا البيت وعن الأرواح الشرّيرة، التي تظل تصيح طوال الليل في جنباته، وأنه عمل دوماً على إغلاق دكانه بعد صلاة العشاء، تحاشياً للشياطين التي تنبت في رأسه كلما نظر إلى تلك العتمة المضاءة بالرؤوس المتراقصة وهي تطل عليه من نوافذ البيت.
والمسألة لا تطال أبا يحيى وحده، فما من أحد أقام في جبل الجوفة ، إلا وله تأويلاته الموحشة والمرعبة تجاه هذا البيت؛ فبعضهم يقول إن البيت أقيم فوق أحد أضرحة أولياء الله الصالحين، وإن صاحب هذا الضريح ينهض كل ليلة اثنين وخميس، بثيابه الخضراء المضمخة بالمسك والكافور والبخور، ويبدأ برقصته الصوفية التي تنتهي بصرخة مجلجلة، تهتّز لها أركان البيوت المجاورة للمكان.
وبعضهم الآخر يقول إن عائلة من الجن تقطن هذا البيت أصلاً، ولا تحتمل أن يقطن فيه أحد من بني الإنسان. وقد تأكد هذا حينما حاول أحد الفقراء المستهترين وزوجته الحولاء وأبناؤه، الإقامة في البيت، حيث لم يقم في البيت إلاّ ليلة واحدة من هول ما رأى وسمع، وقضى حياته الباقية مجاوراً للمسجد الحسيني حتى مات.
حتى الصحافة ووسائل الإعلام، أرسلت العديد من مندوبيها لعمل تحقيقات عن هذا البيت المرعب، لا بل ذهبت إحدى الصحف الأسبوعية الصفراء، إلى المغامرة بارسال اثنين من مندوبيها لقضاء ليلة كاملة في البيت. ووحده أبو يحيى راقبهما وتأكد أنهما أفّاقان، حيث قضيا الليلة في الحديقة الأمامية للبيت.
الرجل القصير تقدم من بوابة البيت المعدنية الكبيرة ودفرها بذراعين صلبتين وقويتين، محدثتين صريراً دهرياً واحداً، وذُهل من هذا العتق النائم في المكان، ومن ذلك التغضّن الشجري الذي يلوّن سيقان أشجار السرو شامخة العلوّ، بمسحة بنية معتقة، ومن الأعشاب الغامضة والجافة التي بدت وكأنها تهاجم البناء وتقضم جنباته.
الرجل تجاوز كل الضجة التي رافقت وقوفه أمام بوابة البيت، وخطا خطوات رشيقة باتجاه الباب الخشبي الكبير وفتحه.
لحظات غابها الرجل في البيت، هاجمته خلالها مجموعة من الروائح الغادرة، تلك التي يحرص الموتى على تركها في الأمكنة، مثلما تعثرت أرجله بسراويل داخلية نسائية متسخة ببقع ذات لون ميت، وزجاجات خمرة، وبوبر لحيوانات يلتصق ببلاط البيت.
لحظات غابها الرجل وخرج بعدها من البيت، صار في الشارع، فتح باب السيارة، وجلس وأومأ للسائق بالحركة.
بعد يوم واحد من زيارة الرجل للبيت، بدأ عمال كُثر يتناوبون على البيت.
عشرة أيام وسكان الحي وأبو يحيى يحاولون أن يبتكروا تفسيرات للبيت، الذي بدأ يسترد ألقه الأول، بالحركة الدؤوبة للعمال، وبالحديقة التي بدأت تتنفس فيها الأشجار، وبعمال تنظيف حجارة البيت وتكحيله، وإعادة لونها الفخّاري المحمر، والكهرباء التي كانت تُشعشع على سور البيت وفي الحديقة وفي النوافذ. لكن ما من أحد استطاع أن يُشفي غليلهم بأي تفسير! عشرة أيام عاد بعدها الرجل ترافقه سيارات الأثاث والعمال النجباء.
عشرة أيام وتحول البيت الذي كتب على سوره احذر السور مُكهرب ، إلى تحفة معمارية تضج بالحركة والحياة.
وصار سكان جبل القلعة يشعرون بنوع من الإثم الغامض، وغير المبرر، بسبب الأوهام التي أسقطوها على هذا البيت؛ فالرجل الذي أقام في البيت، استطاع أن يحوّله إلى مزار لشخصيات كبيرة، وشبكة علاقات مع نساء جميلات يمتلكن تلك القهقهة الجرسية التي تظل تضج بالعافية لحظة إطلاقها وسط موسيقى صاخبة.
عام كامل قضاه الرجل في البيت. بعدها استيقظ سكان الحيّ بأكمله على رائحة حريق، وزعيق سيارات دفاع مدني وإسعاف. وسمع أبو يحيى أحد رجال الشرطة وهو يصيح: تماس كهربائي أتى على البيت، والرجل تفحّم يا إخوان .
ليل طويل مرّ على قاطني جبل القلعة وهم يتوافدون تباعاً على المكان، ويتنشقّون تلك الرائحة الفحمية التي يتركها الحريق عادة في البيوت والأمكنة.
وحده أبو يحيى من فكر بالذهاب إلى الحديقة الخلفية للبيت، وتسلق ذلك السور العالي المُطل على المُدرّج الروماني وسقف السيل.
لكن ما أرعبه تماماً في ذلك الغبش الفجري، هو رؤية فتاة ممشوقة بيضاء، تسير في العتمة الصباحية لسوق سقف السيل، وتلوّح له بإيشارب أبيض، بينما وجهها يطفح بالبهجة
@ من مجموعة oسيدة الاعشابa التي صدرت مؤخرا عن وزارة الثقافة، ضمن مشروع التفرغ الابداعي

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF