ربيعة الناصر - المدينة المنتشرة على سفوح الجبال تغفو، وصوت سكون عميق، يقطعه بين الحين والآخر، وقع حوافر خيول تهبط الشارع.. والشباك لوحة سماوية..
- تعجبني السماء في بلادكم. صفاء ونقاء لا مثيل له، يندر أن نراه في المدن والعواصم الأخرى.. فالسماء هنا تبدو قريبة جدا.
- ربما لأن معظم المدن عندنا معلّقة في الجبال.. والهواء دوما متجدد..
يتردد صدى وقع خطوات الخيل، نداءات لفتيان شبّوا، يتنقلون كل صباح من بين منحدرات المدينة الجبلية الحديثة إلى طرقات المدينة الوردية العتيقة.
يعبق الفضاء برائحة قهوة صباحية، شرفة معلقة في السماء لبيت في القرارة تطل على مدينة يافعة زاهية الملامح، طلاء البيوت متباين الألوان، الزهري والأزرق، المشمشي والأخضر، البنفسجي والأصفر، جميع ألوان الدهانات يمكن أن تجدها هنا، في وادي موسى. ويندر أن يشهد المار في شوارع المدينة بيتا لا تسيجه شجيرات الياسمين والجهنمية، والليمون أو الزيتون. معمار بسيط وأنيق، يشي بذوق متأصل الجذور.
أشير لسيارة أجرة بالتوقف.. الوجه باسم، ولا يسأل: إلى أين؟ جميع من التقيتهم من سائقي سيارات الأجرة مهذبون، بهندام حسن ونظيف، كما هي سيارة الأجرة.
في السوق القريب من البترا أتوقف، ولا أكف عن رد التحية لأصدقائي من أهل السوق.
سعد يتابع نظافة مدخل محل يضم مقتنيات من الشرق والغرب، تبدو النظافة جزءا من الموروث الشعبي لأهل الوادي، خصوصا أولئك الذين يعملون في محلات بيع القطع التذكارية.. لا وجود للوجه المتجهم بين من صادفتهم، سواء في المطاعم أو المحلات التجارية.. ربما جاءت الابتسامة من الألوان الزاهية للمدينة الوردية وانعكس أثرها على الجنوبيين في وادي موسى، فازدهت البيوتات الحديثة بألوان مبهجة.
ظاهرة ازدحام محلات بيع التذكارات بالبضائع الهندية والتركية والصينية من الظواهر التي تشكل علامة استفهام كبيرة، ليس في وادي موسى فحسب، بل في معظم الأماكن السياحية.
- لا أخفي عليك أني أشعر بالخجل حين يسألني السائح عن قطع مصنوعة محليا.. ربما هناك بعض المؤسسات فطنت إلى أهمية إنتاج مشغولات محلية، إلا أنها إضافةً إلى ارتفاع سعرها، لا تكفي حاجة السوق، وتفتقر إلى التنوع. فالسائح يريد قطعة تشبه الناس والمكان، جميلة وخفيفة، من غير أن ترهق مخصصاته للرحلة التي انتظرها طويلا.
إجابة سمعتها مرارا، أثناء تجوالي في سوق التذكارات المجاور لبوابة البترا.
في مطعم أبو عمار رصّت أكياس من البهارات..
- إنها من الأعشاب التي تغطي سفوح التلال والوديان إبان فصل الربيع، تجمعها النسوة ويجففنها، نستخدمها في بعض أصناف الطعام، يشتريها السياح، للاحتفاظ في نكهة البترا كما يقولون... وأحيانا يطلب السائح تذوق الأطعمة الشعبية لأهل وادي موسى، ما دفعني لاعتماد عدد من البيوت ممن اشتهرت النساء فيها بإتقان الطهي.
بعد أن انتهيت من تناول كوب قهوة، أعدها عبود لحظة أن لمحني أهبط من سيارة الأجرة، تلفّتُ حولي بحثا عن كيس النفايات. انتبه الهلالي الشاب، إسماعيل: أعطني إياها..
أخشى أن تلقيها في الشارع.
- بالطبع لن أفعل.. المرة الوحيدة التي ألقيتها، سمعت ما أخجلني من سائح كنت أقلّه في سيارتي.. ومن يومها لا أسمح لأحد بإلقاء النفايات من السيارة.
ويعقب بأسلوب يحرص فيه أن يبدو أكثر تهذيبا مما هو عليه أصلا: هذه النفايات المبعثرة على حواف الطريق بين وادي موسى والقرى المحيطة بها، غالبا، يلقي بها مواطنون قادمون من عمّان... نحن نأتي بالسياح إلى هنا، وهذا مصدر رزقنا.. لذا نحرص على نظافة الأمكنة.. مسحة حضارية تميز الوادي وأهله.
وادي موسى.. مدينة علية القوم من الأنباط كما هو مثبت في الأبحاث التأريخية.
في الطريق إلى قرية البيضا (البترا الصغيرة)، لا بد من المرور من بلدة أم صيحون .
ول أم صيحون وقرية البيضا حكاية متشابهة لا بد من التعريج عليها..
البترا عاصمة الأنباط.. وقبل اكتشاف أهميتها السياحية ومن ثم التاريخية، توارث سكناها عشائر وقبائل كان آخرها البدول . أما عشيرة العمارين التي تسكن قرية البيضا الآن، فقد كانت البترا الصغيرة سكناهم حتى أجل قريب.
لم يتحقق لهم السكن البديل، الصحي واللائق.
بيوت من الحجر الجيري، تشوي الحرارة اللاهبة أنفاسهم صيفا، ويلسع البرد القارس أجسادهم في فصل الشتاء..
لا متسع في أرض أم صيحون.. ما دفع التكاثر لدى سكانها الجدد إلى اجتراح إضافات عشوائية على الوحدات السكنية .
شوهت صفو الجبال الأنيقة الفاصلة بينها وبين البيضا.
تستوقفني فوضى الشارع، إذ تزاحم الدواب وسيارات الجيب الأطفال، لتفصلني عن الاسترسال في الاستغراق بالتأمل في سحر التكوين.
الجبال، تكورت قممها كرؤوس مردة تحجرت.. أحيانا يُهيأ لي أن حكماء جبال الشراة يجتمعون للتشاور في أمر جلل... تشكيلات سوريالية سالت على وجوه الجبال.. أفواه فاغرة وعيون غائرة، مررت بها عشرات المرات، دون أن تدعني أفلت أو أملَّ من التمعن في تكويناتها الفريدة.
البيضا، قرية وادعة، هيأت مساحتها المتصلة مع قرية الهيشة وبير الدباغات، للمقتدرين من عشيرة العمارين بالانتشار والامتداد، وبناء بيوت تتمتع بشروط أفضل من الوحدات القديمة الشبيهة بوحدات أم صيحون.
في المساء، وفي طريق العودة من قرية البيضا إلى وادي موسى، أكتشف حُسن الخريف، تمتزج هامات الجبال مع جموع الغيوم، لتأثيث لوحة عريضة، في فضاءات ذو الشرى.
من بعيد ألمح سيارات فارهة تجتاز الشوارع اللامعة.
خيول ودواب تصعد منحنيات التلال في رحلة الإياب للبيت.
مدينة شرعت أبوابها في غارب الزمان لرياح تغيير، حملتها قوافل التجارة من شرق غرب.
ومن غير أن تؤسس معاهد لتعليم اللغات، أو الرسم بالرمل، يرطن أبناء وادي موسى بأكثر من لغة.. ويرسمون بالرمل الملون المعبأ في زجاجات رسومات متنوعة الأشكال، الجمال والجبال، الطيور والكثبان. ويحلم محمد العمارين في يوم يدير فيه مركزا لتدريب الرسم بالرمل.
وادي موسى، مدينة نفض عنها أبناؤها غبار النسيان، واستيقظت شابة نضرة بعد سبات عميق..
مدينة كانت تستضيء بزيت زيتونها، قبل نشوء البترا عاصمة الأنباط..
واستمرت، بعد أن دالت دولتها.. ولا يضيرها اليوم أن تعيش في كنف المدينة الوردية.