نزيه أبو نضال* - ثمة نوعان من الروائيين، نوع يعوم في بحر الذات، وآخر يعوم في بحر المجتمع، ويختار الأول على الأغلب شكل رواية الحداثة ومنوعات التجريب الفني.. فيما يذهب الآخر إلى الشكل التقليدي للرواية الكلاسيكية، سواء أكانت رواية مجتمعية أم رواية تاريخية، ومثل هذا التصنيف لا يلغي بالطبع الوجود الاجتماعي الموضوعي في الرواية الذاتية، كما لا يعني غياب الذات عن رواية التاريخ المجتمعي..
غير أن الاثنين حتى وإن امتلكا روح الفنان وحدس المبدع، يفترقان بعد ذلك فيما يخص أدوات الكتابة.. فرواية الذات تحتاج إلى اللغة كقيمة إبداعية فنية، كما يحتاج صاحبها ربما إلى دراية بعوالم التحليل النفسي، كي يستطيع الغوص في طبقات الوعي واللاوعي في البئر الأولى، وربما إلى الجرأة على كشف المستور وفضح نوازع النفس وشهوات الجسد وهاجس الروح والاعتراف بأسرار الأحلام والكوابيس، وعلى مثل هذه الدوائر تنغلق رواية الذات، أما الروائي الذي يذهب إلى تاريخه المجتمعي، فيحتاج، إلى جانب ما تقدم، أدوات أخرى ليس أقلها مبضع الطبيب ومنهج العالم الاجتماعي والاقتصادي وأدوات المؤرخ وثقافة الباحث الموسوعي. وهذا كله هو بعض ما امتلكه زياد قاسم وهو يصوغ ملحمة تاريخنا المعاصر في زوابعه السبعة (حوالي مليون كلمة) وفيها زوبعته السابعة ''أبناء القلعة''، وكذلك في رواياته الاجتماعية: ''العرين'' ، ''الخاسرون'' ، ''الوريث''، ''المدير العام''.
لقد رافقت زياد قاسم عن كثب وهو يعد لكتابة روايته ''الزوبعة''، وأعلم يقيناً حجم الجهد البحثي والأكاديمي الذي بذله كي يعرف كل شيء تقريبا عن أمكنة وزمن هذه الملحمة الروائية وتوفير المعلومات اللازمة عنها، ونحن هنا نتحدث عن وقائع الزمن العثماني الذي يمتد أكثر من نصف قرن، والمرور بعده بالزمنين الفرنسي والبريطاني.. وصولاً إلى الزمن الصهيوني حتى الكارثة الحزيرانية، متنقلاً بين الأردن وفلسطين ولبنان والشام والعراق ومصر والكوت.. وصولا إلى الآستانة وباريس والأميركيتين.. وقد احتاج هذا كله من زياد إلى ما أسميته امتلاك عدة المؤرخ في توفير الوقائع والشخصيات التاريخية كخلفية للعمل الروائي وأحياناً كعناصر فاعلة في بنيته الروائية، وأذكر خلال انجاز ملحمته الزوبعة عشرات المؤلفات التاريخية والعسكرية والأدبية التي استعارها من مكتبتي الشخصية، هذا عدا مكتبات الأصدقاء الآخرين والمكتبات العامة. وهذا الدأب الطويل في الحصول على المادة التاريخية كان يذكّرني بما فعله كل من فيكتور هيجو وليو تولستوي وهما يعدان لإنجاز ملحمتيهما العظيمتين ''البؤساء''، في طبعتها الكاملة (12 جزءاً)، و''الحرب والسلام''.
ولو قام أحدنا باستلال المادة التاريخية من سباعية ''الزوبعة'' بأحداثها وشخصياتها الحقيقية لاكتشف حجم الجهد المبذول لإنجاز هذه الملحمة، ويكفي هنا الإشارة لبعض الأحداث والشخصيات التي تحول معظمها إلى أبطال في الرواية ووقائع فيها: الشريف حسين، الملك عبد الله، الملك فيصل، الشريف ناصر، الأمير شاكر بن زيد، رشيد طليع، الشيخ مبارك، الأمير ابن الرشيد، السلطان عبد الحميد، كمال أتاتورك، جمال باشا السفاح، غورو.. أللنبي.. الدروبي، الركابي، ساطع الحصري، الحاج أمين الحسيني، ميرزا وهبي. وفي السياق نفسه ترد في ''القلعة'' السابعة شخصيات مثل: كلوب باشا (أبو حنيك) ، الملك حسين ، عبد الناصر، صلاح البيطار، منيف الرزاز، عبد الحميد السراج.. الخ.. كما أن هنالك مواقع وأحداث ومعارك معروفة على مستوى التاريخ الرسمي: اعدامات جمال باشا السفاح في دمشق وبيروت، في السادس من أيار 1916، معركة ميسلون، في 24 تموز 1920، معارك الثورة العربية الكبرى، التي انطلقت في العاشر من حزيران ,1916. الخ.. ثم حلف بغداد وطرد كلوب وحرب بورسعيد وحزيران 67، وهناك كذلك الجماعات والتنظيمات والأحزاب: الماسونيون، الكماليون، جمعية الاتحاد والترقي، الحزب القومي السوري الاجتماعي، الحزب الشيوعي، الحركة الوهابية، البعث، القوميون العرب، الناصريون، الأخوان المسلمون،.. الخ..
ومع الشخصيات الحقيقية في سباعية ''الزوبعة''، من المفيد ملاحظة حيلة فنية يلجأ إليها زياد قاسم، وذلك باستحضار شخصيات وعشائر وأماكن حقيقية، ولكنه يجري تحويراً طفيفاً على أسمائها، فيبقى في ذهن المتلقي الجهة المقصودة، دون أن يتحمل الكاتب إشكالات لا مبرر لها قد تنشأ عن ذكر الأسماء الحقيقية. وكان الكاتب لجأ إلى هذه الحيلة في ''أبناء القلعة'' حين استخدم اسم ''النمر'' بدل ''النبر'' عند الحديث عن نقليات وأسطول النمر. كما أن القبة مثلاً وهي المكان المركزي لرواية ''الزوبعة'' تكاد تكون نفسها خربة أبي جابر، والبناء الذي أقامه رجا وأكمله فرحان الصليبي هو نفسه ''كان زمان'' الموجود الآن، مما يستدعي على الفور ذكر أبي جابر وفرح أبي جابر الخ . أما سليمان الذي يفتح أول بنك في فلسطين باسم البنك الكنعاني، فلا أظن من الصعوبة بمكان ملاحظة أن سليمان هو شومان، وأن الكنعاني هو العربي.. وجرير لا يخفى فهو الشاعر عرار .. الخ.. وقس على ذلك العديد من شخصيات الرواية وعشائرها كالكشفة أي المجالي، واللطيفات أي العزيزات الخ.
إن وجود كل هذه الشخصيات الحقيقية والوقائع التاريخية هي مجرد لون تأسيسي يجري عليه المبدع لوحته أو روايته الفنية، أما وقائع التاريخ وشخصياته فلا يمكن أن تبني وحدها عملا روائياً، اللهم إلا إذا كان من نوع (روايات) جرجي زيدان التاريخية..
لقد صب قاسم جهده الإبداعي التخييلي على إقامة مختبر اجتماعي كامل ليجري بداخله كل العمليات الحياتية، ولدى مختلف الشرائح والنماذج الإنسانية، وبالترابط الحميم مع الشرط الطبيعي لهذه الشخصيات والجماعات البشرية.
وعبر مثل هذا المختبر الاجتماعي وحده يمكن فقط أن نفهم بالضبط كيف حدثت الأشياء، ولماذا حدثت. كما يمنحنا معرفياً متعة الوصول إلى إجابات على أسئلة الرواية التي تجعل من الحدث واقعة تصب في المسار التاريخي للأحداث، كما تجعل من الشخصية الروائية رمزاً أو معادلاً موضوعياً لشريحة اجتماعية، ودون أن تسقط في فخ النمطية القاتلة لأي عمل فني. فتصبح الكتابة التاريخية بالتالي فعلاً راهناً ومستقبلياً، وليست مجرد حدوثة ''كان يا ما كان''.
إن عبقرية زياد قاسم الروائية في إحدى تجلياتها تقوم على تحضير خشبة المسرح وتأثيثه بمجموعة هائلة من المؤشرات والعوامل والأسباب التي ستفرض لاحقاً على أبطال الرواية حركتهم وخياراتهم كرد شخصي على ما أصابهم من جور من جهة وكاستجابة طبيعية للشرط الاجتماعي التاريخي من جهة أخرى.. فتجيء الوقائع الحاسمة تعبيراً عن نزوعهم الحار كأفراد وجماعات للرد على ما تعرضوا له من أذى، وما يواجههم من تحديات، وهذا وحده هو الذي يفسر انخراط الألوف في الثورة العربية ضد الأتراك. وهنا لا تختزل واقعة الثورة الكبرى بقرار من فوق اتخذه الشريف حسين بن علي للثورة على الأتراك، بل يكشف -وهذا هو الأهم- لماذا وكيف اندفع الناس العاديون إلى أتون هذه الثورة ضد سلطان المسلمين التركي؟!.
قد يبدو أحياناً وكأن قوة الجذب التي تدفع الأفراد للمقاومة هي شيء أشبه بالصدفة، ولكنها في الحقيقة الصدفة التي تقع في صلب الضرورة.. ذلك أن عمليات البطش والتنكيل والإعدامات التي أصابت الآلاف بل ومئات الآلاف في المنطقة العربية، بنسب متفاوتة، أدت إلى دفع هؤلاء وغيرهم إلى اختيار المقاومة ضد المستبد العثماني (الاحتلال).
من هنا وجدنا الكثيرين الذين ارتبطت مصائرهم بالفعل المقاوم كانوا قد تعرضوا بصورة مباشرة أو غير مباشرة للعنف التركي، وهذا ما مهد له زياد مبكرا.. فكانت ردة الفعل الطبيعية هي المقاومة أو الثورة، وإن بدت على السطح وكأنها بحث عن ثأر شخصي.. ذلك أن ثمة قدرية لا ترد، تسوق أفعال الناس وتحدد مصائرهم وخياراتهم، ليسوا باعتبارهم كائنات مجبرة ولكن لأنهم بشر يستجيبون لشرعية الحياة وينسجمون وفق آلياتها وقوانينها، فلكل فعل رد فعل مساو له بالقوة ومعاكس بالاتجاه.
ولهذا يولد القمع الثورة، ويدفع الاستبداد الناس إلى المقاومة.. ووحدهم الميتون هم الذين لا تنخرط فعالياتهم ضمن ردود الفعل المقدسة..
من هنا وجدنا بين صفوف الثورة العربية الكثيرين من المقاومين الذين تعرضوا للعنف التركي: الشيخ زعل الجبيلي سجن على يد الأتراك، وشهد بنفسه إعدام والده عواد الجبيلي، فرحان رجا الصليبي جاء والده في الأساس هارباً مذعوراً من الأتراك بعد المذابح الطائفية البشعة التي وقعت في منطقة الجليل، وكان من بين ضحاياها أمه وأبوه، وواجه هو بنفسه آثار الهدم والتخريب التي ألحقها الجنود الأتراك بالقبة وبعشائر الجبيلية، قبل أن يفتدي زعيمها زعل نفسه بما يمتلكه في البواكي، وبصورة متشابهة اضطر إيليا كنعان، الذي أصبح فيما بعد الأب سمعان، إلى الهرب من ظهور الشوير اللبنانية، بعد أن اضطر لقتل عسكريين تركيين دفاعاً عن والده.. غير أن ذلك لم ينقذ أباه لاحقاً من الإعدام شنقاً مما أصاب أمه بالجنون. توفيق الكشفة من الكرك أحد أبطال الحرب وأحد شهداء ميسلون، ارتبط مصيره بنتائج بطش الأتراك الذي أودى بحياة أبيه وأخيه، سيف الحجاج من فلسطين أعدم الأتراك جده ثم أباه، كما أعدم جمال السفاح جده الشامي أكرم والدوام والد أمه زينات. وكان سيف نفسه قد اختطف على يد أشرف التركي حين كان طفلاً، أنور العراقي الذي هرب من بطش عمه وزوج أمه الحداد الغوريلا، انضم بداية إلى الجيش التركي، ولكن حجم المظالم التي شاهدها، واضطر لممارسة بعضها، دفعه للالتحاق بالثورة، مقصود الشركسي الذي قتل السفاح أشرف التركي أباه فقاتل مع الثورة.. الخ.. وكما ارتبطت مصائر الكثيرين بفعلي الاستبداد والمقاومة، كذلك فإن آخرين قد ارتبطت مصائرهم سلباً بوجود الاحتلال، حيث لعبوا أدوار الجواسيس والقوادين، ومن هؤلاء عائلة الأدهم: محفوظ وشعبان وفريد وصابر وأبو عدنان الختام، وغيرهم وغيرهم.
زياد قاسم وهو يبني عالمه الروائي التخييلي ظل يتعالق مع وقائعها الرسمية وشخصياتها الحقيقية، فكان أن نهضت الرواية نفسها كبناء فني مكتمل ومستكف بذاته، وصاغ من خلاله التاريخ الحقيقي للناس العاديين، ودون أن يتعارض مع التاريخ الرسمي بل يضيئه.. ذلك أنه امتلك القدرة على الإمساك بجوهر الحركة التاريخية وكشف العوامل والآليات الفعلية التي تقودها وتحرك قواها الاجتماعية وتحدد خياراتها..
لقد تضافرت في ملحمة الزوبعة أدوات المؤرخ ومعارف المثقف الموسوعي مع موهبة الروائي الفنان وقدرته التخييلية المدهشة على خلق الشخصيات والأحداث والأمكنة، ومن هنا بالضبط استمدت ''زوابع'' زياد قاسم أهميتها الاستثنائية، كقيمة فنية إبداعية وكقيمة معرفية تاريخية معاً..
* كاتب أردني
[email protected]