خدمة الدفع الالكتروني
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي
محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق دراسات وتحقيقات أخبار مصورة صحة وجمال كاريكاتور إنفوجرافيك علوم وتكنولوجيا منوعات طفل وأسرة عين الرأي الرأي الثقافي

أشياء مبعثرة

أشياء مبعثرة

No Image
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ

هدية حسين * -  أنزلق مثل حبات رمل تنزلق من بين الأصابع.. أنزلق مني وأعوم في عالم ممدود على طول حلمي، لعل الحلم يفضي إليّ وأعثر على نفسي بين طياته، لعل السنوات الهاربات أبقت شيئاً ينتسب لي، نتفاً، ضحكات، أو دمعات خبأتها لأيام أُخَر.
أنزلق.. هاربة من أشياء أعرفها، وأشياء أجهلها.. ألملم بقايا أحلامي الباهتة، بوجوهها المعفرة، بما تبقى من وجوه.. أجمع شتات الكلام السادر في الصمت والمخبوء تحت اللسان أو خلف الذاكرة، لعله يفضي إلى عمر كان ندياً، يعيد لي لهفة شاردة أو نظرة عشق بريئة أو.. رجلاً كان لي وصار من حصة الغياب.
أنزلق بأصابع محترقة لم توصل دعواتها يوماً إلى السماء.. وأتعثر بطمي الكلمات.. أجمعها كلمة كلمة، أصفُّها على أوراقي البيض، أتبيّن منها بعض ملامح لطفلة بضفائر سود طويلة وعيون عسلية.. طفلة لا تشبه أيّاً من الذين أعرفهم.. ولا تشبهني، مع أن اسمي منقوش أسفل الصورة.
أنزلق.. وألمح وجهاً لرجل قال لي يوماً: ''أحبك جداً''، ثم أخذته العاصفة وراء الشمس.. أعيده في حلمي بكامل قيافته ونقرأ معاً رسائل العشق التي خبأتها في صندوق صغير وصارت فيما بعد من حصة النار التي اشتعلت في سنوات الحروب.
أنزلق.. وأرى امرأة طويلة القامة، بيضاء البشرة، في نظرتها زوغان، كأنها تبحث عن شيء لم يعد بين يديها.. أقترب من تفاصيل الوجه.. أقترب أكثر فتضيع بين عشرات الصور التي هطلت عليّ فجأة من سماوات بعيدة.
وحينما تغيب المرأة في زحام الأشياء المبعثرة، أتذكر أنها أمي التي ماتت منذ زمن بعيد وهي تحمل خوفها عليّ، بينما الحرب في أوج اشتعالها.
أنزلق.
أحلم.
أعوم.
وأمسك بي.. أشدّني إليّ.. أجمع بقاياي.. أكدّس سنواتي.. أطرحها من الأحزان، فلم يبق مني شيء... يعود الرجل، مرة في الحلم ومرة في سكون الغبش، ومرة عبر وهم العثور عليه، ومرة في رواية بطلها يشبهه، ومرات يحرث في رأسي ويبعثر الأشياء المخبوءة تحت رماد الذاكرة، فألتقطها.
زجاجة عطر تشبه التواء جسد لامرأة غارقة في النشوة.
مسبحة، أصرّ أن نكرر أثناء تسقيط خرزاتها كلمات الحب.
دفتر صغير ذو أوراق ملونة ندوّن فيه أمنياتنا المستحيلة.
رسائل تبادلناها في حمى العشق قبل أن تستعر الحرب.
علبة سجائر لم يبق فيها غير سيجارتين، كان من المؤمل تدخينهما في الإجازة القادمة.
بقايا خربشات في فنجان القهوة، تبدو فيها الطرق ضيقة وطويلة ومغلقة النهايات، والوجوه معقدة الملامح، وثمة فراغات تتخللها كتل صغيرة متباعدة، تتراءى لي مثل كثبان الرمل أو القبور الدارسة، تحوم بينها وحولها دوائر تكاد تتحرك لصنع عاصفة لا تبقي ولا تذر.
قال لي يوما بينما كان يستعد للمضي إلى الجبهة:
- هذا صحيح.. طرقنا ضيقة وطويلة ومغلقة، والوجوه المعقدة هي ما تبقى من ملامح الجنود، وكثبان الرمل هي شواهدنا القادمة، والعاصفة هي الحرب التي لا تبقي ولا تذر.
أنزلق.. فتعود أمي بنظراتها الزائغة.. أقف قبالتها أمد ذراعي لاحتضانها وأبتسم لها فلا تعرفني.. أسألها:
- عن ماذا تبحثين؟
تقول دون أن تنظر إليّ:.
- عن طفلتي الصغيرة.. ضفائرها سود طويلة وعيونها عسلية.
ثم تمضي إلى غيابها دون أن تسمع نداءاتي، فتتبعثر الأشياء من حولي وتبعثرني .. وأنزلق بغيرما اتجاه.. ومن غير رجل كنت أعرفه يقول لي: ''أحبك جداً''.


* كاتبة عراقية مقيمة في عمّان

محليات اقتصاد عربي ودولي رياضة فيديو كتاب مجتمع شباب وجامعات ثقافة وفنون ملاحق
جميع الحقوق محفوظة المؤسسة الصحفية الاردنية
Powered by NewsPress
PDF