نزيه أبو نضال - دائما حين كنت التقي بمؤنس الرزاز في عمّان كان يحضر رجاء النقّاش في القاهرة.. فكلاهما شخصية إبداعية كبيرة تحتضن كل من حولها من مختلفين، فيتقاطعون عندها ويجمعون عليها.. ذلك أن كليهما يشبه الآخر برحابة ديمقراطية لا حدود لها، وبانتماء عروبي أصيل لا يتكامل إلا بوعي تقدمي حاسم يرى أن خلاص الإنسان إنما يتحقق فقط بشَرطَيّ العدالة والحرية.
من هنا لم يكن غريباً أن يشارك في عدد الهلال الاحتفالي شباط 2007، برجاء النقّاش، أكثرُ من خمسين كاتباً من أهم أصحاب الأقلام المصرية والعربية. وكذا في الحفل التكريمي الذي أقيم له قبيل أسابيع من رحيله.التقيت برجاء النقّاش في مصر أوائل الستينيات حين كنت أتردد على ندوة نجيب محفوظ في مقهى ريش وفي الأتيليه وغيرها.. فكان ربما الوجه الأبرز بين وجوه الحركة الثقافية المصرية ونقادها الكبار، ولكن ما لفتني كان التصاقه العميق بالهم الفلسطيني والعربي، في وقت لم تكن الفكرة القومية العربية قيد التداول الجدي في الوسط الثقافي المصري المكتفي بذاته وتاريخه.
ولو استعرضنا سيرة كتاباته ومؤلفاته سنجدها أصدق تعبير عما ذهبنا إليه بأنه حقاً النبض العربي في قلب مصر وحاضن أبناء العروبة والعروبيين فيها. فحين أراد أحمد عبد المعطي حجازي، وكان من أوائل البعثيين الملتزمين في مصر، إصدار ديوانه الأول مدينة بلا قلب ، العام 1959، حرص النقّاش على كتابة مقدمة الديوان، ومعنى ذلك آنذاك شهادة عبور لصاحبه في عالم الشهرة والمجد، ولمن لا يعلم فإن كتابات رجاء المبكرة حتى عن نجيب محفوظ قد أسهمت في تقديم محفوظ على هذا النحو الواسع، وله كتاب عنه بعنوان في حب نجيب محفوظ .
وفي وقت مبكر (1965) أصدر كتابه عن الشاعر العربي التونسي أبو القاسم الشابى شاعر الحب والثورة .
ولعل محمود درويش خير شاهد على هذا الدور، فرجاء كما نعلم هو الذي أصدر في العام 1969 كتابه محمود درويش شاعر الأرض المحتلة ، وقبيل مغادرة درويش بلده. يقول درويش في رسالة حب واعتراف بمناسبة الاحتفال التكريمي الذي أقامته نقابة الصحفيين المصريين واللجنة الثقافية في حزب التجمع في 21/1/2008: عزيزي رجاء النقّاش، كنت وما تزال أخي الذي لم تلده أمي منذ جئت إلى مصر... أخذت بيدي وأدخلتني إلى قلب القاهرة الانساني والثقافي، وكنت من قبل قد ساعدت جناحي على الطيران التدريجي فعرّفتَ قرّاءكَ علي وعلى زملائي القابعين خلف الاسوار... عمّقتَ إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي ، ويضيف درويش: مدينون لك لأنك ابن مصر البار وابن الثقافة العربية الذي لم تدفعه موجات النزعات الاقليمية الرائجة إلى الاعتذار عن عروبته الثقافية .
أما سميح القاسم فاكتفى ببطاقة حميمة: لأن قصائد الحب المكثفة والصغيرة تستطيع التعبير عن مشاعر المحبة الكبيرة والعميقة فأكتفي بكلمات قليلة: أحبك أيها العم رجا (دون الهمزة ومعها).. أحب ما تمثله من أصالة ونبل.. وأستطيع قولها بصيغة الجمع، مطمئنا واثقا: نحبك يا رجاء النقّاش.. نحبك يا عم رجا.. ونحب محبيك . يبدو هنا وكأن القاسم ينوع على ما استهل رجاء النقّاش به كتابه عن أبو القاسم الشابى بكلمة للأديب الروسي تشيخوف تقول: إن كان في وسعك أن تحب، ففي وسعك أن تفعل أي شيء .
بهذا المعنى الإنساني العميق، أدار رجاء النقّاش مشروعه الأدبي والثقافي والفني على مدى نحو خمسين عاما، وكما تقول أمينة النقّاش، كانت المحبة الغامرة إحدى أدواته الأساسية فى كل ما يفعل، وكل ما ينتج، وكل ما يكشف عنه الستار من مواهب، أو ما يحتفي به من قيم ومثل ومبادئ، أو ما يبتدع من مشروعات أدبية وفنية وثقافية.
ومن اليمن وصلت احتفاليةَ القاهرة برجاء رسالةٌ من الناقد والشاعر الكبير عبد العزيز المقالح كتلك التي وصلت من فلسطين، كذلك من الشاعر اليمني أبو بكر السقاف قال فيها: لا بد أن تتعرب مصر، ويتمصر العرب، ويبدو أن هذا القول الجميل محمل في جوانب منه بمفهوم الدولة القاعدة، وحيث أصبح النقّاش في تقدير المثقفين العرب واحداً من الجسور المعنوية والثقافية بين جيلين، ولم يحاول أن يطغى بفكره على الجيل الثاني، بل سعى إلى احتضانهم ومساعدتهم وتسليط الضوء عليهم .
ويعبّر الناقد العربي السوري صبحي حديدي في عدد مجلة الهلال التكريمي، عن احتضان النقّاش للأجيال الجديدة بقوله: كان مدافعا عن حق هذه الاصوات في احتلال الموقع المناسب، ولذا كان بين الأوائل الذين قدموا الروائي السوداني الطيب صالح .
بعد هزيمة حزيران أدار الكثيرون ظهرهم للعروبة، بينما ظلت جذوة المشروع القومي متقدة داخل قلب رجاء النقّاش، فكتب في السبعينيات، كما لاحظ خيري منصور، مقالات مدوية نشرها دفاعا عن عروبة مصر والقومية العربية ضد ما كتبه توفيق الحكيم ولويس عوض وحسين فوزي .
وهذا الالتزام الثقافي بالعروبة ظل السمة الرئيسية التي صبغت مواقف رجاء طيلة حياته وكما تجلى ذلك بالتصدي للاتجاهات الانعزالية داخل مصر (لويس عوض وآخرين) وخارجها (أدونيس)، حيث أصدر، في العام 1978، كتابه الشهير الانعزاليون في مصر ، ثم كتابه لويس عوض في الميزان . ولم يكن اهتمامه بالابداع للفلسطيني والعربي إلا رداً إضافياً على هذه الانعزالية الاقليمية، ومن إصداراته بهذا الاتجاه: فدوى طوقان وانور المعداوي ، محمود درويش وسميح القاسم ، عن موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح في كتابه ادباء معاصرون ، قصة روايتين: دراسة نقدية وفكرية لرواية (ذاكرة الجسد) ورواية (وليمة لأعشاب البحر) ، هذا بالطبع عدا مئات المقالات المنشورة بالاتجاه نفسه أو في داخل مؤلفات عامة مثل ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء الذي تضمن ردوده على أدونيس.
إن الثقافة كما وصفها النقّاش قبيل رحيله هي الجامعة الحقيقية للدول العربية وليست المبنى المقام على ضفة النيل الشرقية، لأن الأدب هو القادر على جمع العالم العربي ، مضيفاً: إن القضية الفلسطينية هي القضية الأم بالنسبة للعالم العربي، وهي حاضرة ومستقرة في ضميري إلى اليوم .
ولو تساءلنا مع الروائية المصرية سلوى بكر من اين جاء النقّاش بكل هذا الحب، فسيجيء الجواب بسيطا وعفويا وحاراً: هو من النقاد الذين يتقون الله فيما يكتبون ...
لم يتوقف عطاء النقّاش العربي على داخل مصر، بل انتقل بنفسه الى عدد من الدول العربية حاملا معه خبرة السنوات في مجلات روز اليوسف و الهلال و مجلة الاذاعة والتلفزيون ، فأسهم في صحيفة الراية القطرية (مدير تحرير)، وفي مجلة الدوحة الثقافية المصورة (رئيس تحرير). وقبل ذلك كان مديرا لمكتب مجلة الآداب البيروتية في القاهرة، بعد انور المعداوي.
لقد اجمع النقاد الذين درسوا البعد العروبي في كتابات واهتمامات النقّاش على مدى حرصه بأن يُبرز أن هناك ثقافة عربية واحدة، لكن وحدتها تكتسب تفردها من أنها تقوم على التنوع، وكان، كما أسلفنا، أول من ألقى الضوء على شعراء المقاومة الفلسطينية، وأول من قدم الأدب السوداني، كما كان له دوره البارز في تعريف القارئ المصري على نحو واسع بمدرسة الشاعر الشابي، وبمدرسة الشعر الحر فى مصر والعراق ولبنان، وغيرها من البلاد العربية.
كما أجمعوا على أن كتابات رجاء النقّاش قد نجحت في تحويل النقد الأدبي من علم أكاديمي جاف، إلى مادة سهلة لعموم القراء.. لقد جعله ميسوراً كالماء والهواء.
وإذا ما أردنا تكثيف ظاهرة النقّاش العربية في كلمات فلا بد أن سنستعير تعبير الروائي الليبي أحمد ابراهيم الفقيه: كان رجاء النقّاش صوت مصر في بقية أقطار الوطن العربي وصوت تلك الأقطار في مصر، مندمجا ومتوحدا بين مصريته وعروبته .
المسرح والفن
إن الوجه العروبي لرجاء النقّاش، وتواصله ودعمه للأجيال الجديدة، ودوره النقدي، هي بعض جوانبه المتعددة التي يصعب الإحاطة بها جميعا في هذه العجالة التي نحاول من خلالها إلقاء بعض الضوء على هذا العملاق شديد الدماثة والتواضع.
إن مساهمة النقّاش ومتابعته للحركة المسرحية والفنية تكفي وحدها كي تصنع له مجداً، ونشير هنا إلى الدورة الثانية للمهرجان القومي للمسرح المصري (2007)، التي جرى فيها تكريم أربعة أشخاص في حقول مسرحية مختلفة كان رجاء النقّاش أحدهم.. فقد تابع النقّاش الحركة المسرحية بالنقد على امتداد حياته واصدر كتابين في النقد المسرحي، هما في أضواء المسرح ، و مقعد صغير أمام الستار ، وله كتاب آخر هو نساء شكسبير اختار فيه بعض الشخصيات النسوية من مسرح شكسبير.
لم يقفز النقّاش الى عالم الفن بلا مقدمات، فبعد تخرجه في كلية الآداب سنة 1956 عمل في الإذاعة في قسم التمثيليات، مع الاستاذ الكبير يوسف الحطاب، وكان قارئاً للنصوص ثم انتقل للعمل مع الكاتب المسرحي سعد الدين وهبة في المجلة التي كان يحررها (وهي البوليس )، وبعد رحلة طويلة في عالم الصحافة أصبح رئيسا لتحرير مجلة الاذاعة والتلفزيون ، وجعل منها مطبوعة ذات توجه ثقافي، كما تولى لاحقاً رئاسة تحرير مجلة الكواكب الفنية.
وفي سياق علاقته بالظاهرات الفنية رعى مبكرا تجربة الثنائي الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم، رغم معارضتهما الحادة للسلطة. كما ألّف كتابا بعنوان لغز أم كلثوم .
المرأة
ومن أم كلثوم وأحلام مستغانمي ونساء شكسبير ننتقل إلى موقع المرأة في حياة واهتمامات رجاء النقّاش، وسيكون أول ما نلاحظه الموقع الثقافي المتقدم الذي تحتله شقيقتاه في صفوف حزب التجمع، حيث تولت أخته الناقدة فريدة النقّاش رئاسة تحرير مجلة أدب ونقد لنحو عشرين عاما ثم أصبحت منذ نهاية 2006 رئيسة تحرير صحيفة الأهالي لسان حال حزب التجمع، كما أدت أخته الثانية أمينة النقّاش دورا صحفيا مشابها.
ومن المعروف أن للنقّاش، في معظم ما يكتب، اهتماماً خاصاً بموقع المرأة ودورها، كما قدم كتباً نقدية عدة منها نساء شكسبير و ملكة تبحث عن عريس .. وكما يقول رجاء فى مقدمة الكتاب الأخير، فإن البطل الأساسي فيه هو المرأة.. المرأة التي تعمل، والمرأة التي تضحّى، والمرأة المليئة بالأسرار، والمرأة التي تحب الرجال، والمرأة التي لا تحب الرجال، وغير ذلك من ألوان النساء اللاتي نقرأ عنهن في كتب الأدب أو كتب التاريخ أو اللواتى نعرفهن ونراهن أمامنا يعملن ويقتحمن الحياة ويحاولن مواجهة الدنيا بسحرهن أو بذكائهن أو بما يملكن من حيلة وبعد نظر، والحقيقة ان هذه الصور والحكايات التي ابطالها سيدات وآنسات من كل الألوان وكل الازمان وكل البيئات، إنما تستطيع ان تقول لنا شيئاً واحداً لا شك فيه عند الجميع، وهو ان المرأة هي الحياة، فكل مشاعر الإنسان ترتبط بالمرأة، وكل التجارب والمشاكل تبتدى بالمرأة وتنتهي إليها ..
الحرية والديمقراطية
أقنومان متجادلان شكّلا هاجس الكتابة والحياة والموقف لدى رجاء النقّاش هما الحرية والديمقراطية، وقد اعتبر قضية الشاعر في كلمة واحدة هي الحرية ، وهذا ما التقطه محمود درويش حين قال إن رجاء النقّاش كان له دور في تطوير وعي المسؤولية وفي تعميق العلاقة بين حرية الشعر وشعر الحرية .
بعد ذلك نال النقّاش بعض ما يستحق من تكريم:.
- جائزة البابطين للإبداع في مجال نقد الشعر (1992).
- جائزة الدولة التقديرية بمصر (2000).
- شهادة تكريم الدورة الثانية للمهرجان القومي للمسرح المصري (2007).
- درع نقابة الصحفيين بالقاهرة (2007).
- درع مؤسسة دار الهلال (2007).
- درع حزب التجمع المصري (2007).
وقد دعا نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد إلى منح النقّاش وسام مبارك للآداب، كم قرّر المجلس الأعلى للثقافة إهداء الدورة المقبلة من مؤتمر الرواية (الذي اُفتتح في 14 شباط 2008) لرجاء النقّاش وإطلاق اسمه على فعاليات الدورة.
رحل هذا المتعدد النبيل رجاء النقّاش، فكم هي خسارتنا كبيرة برحيله.. وكم هو عزاؤنا كبير بما أنجز.
* كاتب أردني