نزيه أبو نضال - رغم اختلاف المكان والزمان بين فلسطين المحتلة التي هُجِّر منها أواخر الأربعينيات وبين بغداد التي يكتب فيها روايته أوائل السبعينيات، تتجلى في رواية البحث عن وليد مسعود لجبرا ابراهيم جبرا، الذات الفلسطينية وهي تبحث عن حل مستحيل للمعادلة الصعبة كي تحقق التوازن المطلوب بأن تكون وطنياً في ظل الاحتلال، كما حاول سعيد إميل حبيبي في المتشائل ؛ وفلسطينياً في المنفى، كما حاول وليد جبرا.. ذلك التوازن الذي تحدث عنه وليد طوال حياته ولم يجده قط (1). كان التوازن سرابا يغري، ولكنه لا يخدع طويلا ومع ذلك لم ييأس .. ذلك أن اليأس،، كما يقول صديقه جواد حسني، لا يستطيع الأخذ منه .
ولعل سبب ذلك أن الفلسطيني ضحية ملابسات مستمرة يزيد من تعقيدها قدرٌ سخيفٌ عاتٍ سوف يلاحقه إلى الأبد ، ومن هنا ربما يتشكل في عمق أعماقه سر خاص يحمي روح الفلسطيني، سر يخفيه عن الجميع مثل سر شيخ الفضائيين أو سر كنز الطنطورة عند إميل حبيبي(2). ولهذا لاحظ أصدقاء وليد أنه لا ينتمي إلى أية أرض مئة بالمئة ولا ينتمي إلى أي طبقة مئة بالمئة ، ذلك أن جذوره هناك.. فوليد مسعود هو هذا الغريب القادم من وديان مجهولة ، ورغم تفوقه الكاسح في عالم الفكر والمال والنساء، لم يستطع أن يكون جزءا من المجتمع البغدادي، كما يروي جواد حسني واضع سيرة وليد، بل إن جواد هو نفسه من يكاد ينتمي إلى عالم وليد: ووجدتني بعد قليل انخرط في مجتمعه: أدخلني فيه وليد وكأنه يريد أن أكون مؤرخاً له، وهو يعلم أنه هو نفسه في الأصل غريب عنه.. فبحكم كونه فلسطينياً، يستطيع الزعم دائماً بأنه يتصل بمجتمع كهذا وينفصل عنه دونما عسر أو ألم، لأن جذوره الحقيقية في جبال ووديان أخرى تغذيه سرا وباستمرار .
لعل مفتاح الرواية الفلسطينية، وبالذات البحث عن وليد مسعود ، هو اكتشاف هذا الخاص أو السر الفلسطيني الذي يحدد خيارات ومصائر أبطال هذه الروايات، ولعل هذا المفتاح هو الاقتلاع.. الاقتلاع داخل الوطن (سعيد أبي النحس المتشائل)، والاقتلاع خارجه (وليد مسعود)، ولهذا فسيظل بطل جبرا حاملاً، كالمسيح، صليبه صعودا إلى الجلجثة، أو حاملاً، مثل سيزيف، صخوره الأبدية نحو قمة الأولمب، وسيبقى يحاول إلى أن يجد الأرض التي يعيد فيها غرس جذوره. وإلا فإنه لن يستطيع أن يفكر، أن يكتب، أن يحققق شيئاً .إن اللاتوازن في تكوين وليد هو بمعنى ما هذه الثنائيات المتعددة في شخصية سعيد.. فوليد مثل سعيد حبيبي أيضاً لا يجد سببا كي يكون متفائلا، ولكنه يرفض التشاؤم فهو صنو اليأس. يقول: والتفاؤل بالطبع يمكن هو أيضا أن يكون ضحلا وتافها كالتشاؤم.. التفاؤل بماذا بالضبط؟ . أليس هذا هو التشاؤل؟ .
في البحث عن وليد مسعود يختلط الإيمان بالأسطورة بالخرافة بالحلم، حتى يصعب في كثير من الأحيان فرز عنصر عن آخر منها.. فهي في نهاية المطاف تنويعات فوق طبيعية تتفاعل في بئر الذات الملتاعة والمحرومة(3)، بحثا عن مهدي أو مسيح.. إنها معجزة خلاص تأخذ، كما عند إميل حبيبي، شكل رجل فضائي أو كنز خلاص في كهف بحر عكا، وهي عند جبرا أعجوبة كهف النسّاك الصغار، قرب بيت لحم، والتي تتحقق بقوة شموع العذراء لتأخذ شكل رغيف، وربما صورة وطن وهو يصير جنة: حننت إلى ريّا ونفسك باعدت مزارك، أم إنني كنت هارباً، فالشكر لله الأحد من صوتها يديها أصابعها الصغيرة تنسج قماشة الليالي وتطبع القبلات وتكشف عن سرّة كرصعة الخد في بطن أملس كتلة من تلال الأفق البعيد حيث لا نرى إلا طيوراً سوداء تسبح وتتلاشى. هل الجنة هناك وراء السماء حيث تلتقي السماء بالأفق، ولو بلغت ذلك الأفق البنفسجي على الجبال الزرق لفتحت ثغرة في السماء ودخلت منها الجنة .
غير أن وقائع الحياة القاسية، في الوطن كما في المنفى، لا تلبث أن توقظ الفلسطيني الحالم: آه يا مسكين، يا جاهل، إلى متى تبقى تحلم بالعبور إلى عوالم أخرى وما لديك إلا هذا العالم القاسي العنيد عليك أن تقارعه ولا تخشاه .
ولكن من أين يستمد وليد كل هذا العناد والكبرياء كي يواصل فعل المقاومة حتى في مواجهة الطوفان الجديد؟ يقول: من جبل خريطون إلى عين سفني حيث انفجرت المياه وبدأ الطوفان ولم يجد نوح من يسعفه في صنع سفينته، وغرق الإنسان وكل ما صنع زوجاً زوجاً. أماه كيف تنقذين أولادك هذه المرّة إلا بكبريائك الرائعة التي وزعتها عليهم جزافاً لا تخشين الإسراف لأن الكبرياء كان مملكتك الوحيدة وعنادك يفتت الحجارة ويجفف البحار ويملأ الجبال ينابيع .
في رواية البحث عن وليد مسعود لا يذهب الكاتب بعيداً مع الأسطورة أو الخرافة، فذاكرته التراثية المسيحية أكثر التصاقاً بالأعجوبة الدينية.. فهي تمد أبطاله بعناصر الخلاص، ولكن الذاكرة الشعبية تمد جبرا كذلك بزوّادة من عوالم الخرافة التي لا تلبث أن تتعالق مع مكوناته الإيمانية بانتظار زمن الفعل.
في رحلة النساك الثلاثة الصغار إلى كهف بيت لحم تنطلق الكائنات الخرافية لتملأ الوادي رعباً: وما إن بلغنا مشارف (الطريق الجديدة) حتى اطمأننا إننا أمسينا في مأمن من الاكتشاف. ولكن خوفا من نوع آخر كان يتنازعنا، يصعب التغلب عليه. فالموردة، التي اخترناها مدخلا إلى الوادي، اشتقت اسمها من (المردة). عشرات القصص سمعناها عن مردة تنطلق في الليل وراء المارين في تلك البقعة، وكل مارد منها طيف رجل قتيل ألقي به في ذلك المكان. ينطلق المارد ووجهه مضرج بالدم، ويلحق عابر السبيل ويصرخ في طلب الانتقام، إلى أن يمسك به...غير أن المردة كانت في الأكثر تؤثر ليالي الظلام . وكانت ليلتهم بدرا مضيئاً.. غير أن غياب المردة أمام البدر لا يحمل الاطمئنان الكافي للصغار.. فيتذكرون أيضاً أنها كانت تفزع من إشارة الصليب، فتتراجع عمن يقوم بهذه الإشارة. فترتاح القلوب الواجفة، خصوصا أن في جيب كل منّا مسبحة وردية: وفي ذلك كله دعم لنا ضد المردة، لا في الموردة فحسب، بل في ثنايا الوادي كذلك .
ولكن ماذا عن الضبع؟ هل يمكن مقاومته بإشارة الصليب أيضاً، خصوصاً إذا بال الضبع على واحد منا، واضطر إلى السير وراءه . هنا يستدعي الفتية المرعوبون ما يشد عزيمتهم من يقين الأب سبيريدون الذي كان يسلّط بلاغته على الأطفال في كل قدّاس: ليكن إيمانكم كإيمان النبي دانيال، أُلقي به في جبّ الأسود، فألجم أفواه الأسود، وأخضعها ليديه وجعلها تتمسح وديعة بقدميه... ، فإذا كان إيمان النبي دانيال قد روض ملك الغابة وسيد وحوشها، فأولى بإيمان الصغار الثلاثة أن يواجه ضبعاً حقيراً!
يتصل عالم الأبراج والنجوم، وما يلحقه بمواليد هذه الأبراج من ضر أو نفع، بعالم الخرافة والحظ وقراءة الكف والفنجان والغيب.. إلخ.. ومن هنا رأينا أن نطل على علاقة بطل الرواية بهذا العالم، كما يراها د.طارق، أحد أصدقاء وليد: كان وليد مسعود من مواليد برج الجدي. فقد ولد في الخامس عشر من شهر كانون الثاني، أي أنه ولد وبرج الجدي، كما يقولون، في صعود. ولو لم يكن له اهتمام، يصل إلى حد الغيبيات، بالنجوم وأثرها في حياة الناس، لما عبئت بأنه من مواليد برج الجدي أو السرطان أو العذراء.. وكونه خاضعاً لبرج الجدي، أصبح على مر الزمن ذا دلالة خاصة لديه، إذ يلتفت إلي فجأة ويقول: أترى يا طارق؟ أنا من مواليد برج الجدي. لا حيلة لي بذلك.. فأقول له ضاحكاً: وليد، أأنت بكل منطقك ووضوحك الذهني، تهمك مثل هذه السخافات؟.. يقول: طبعاً لا يهمني هذا الهراء، أما القوى الخفية التي تتحكم بالإنسان فإنها هي التي تهمني.. .
ومن هذه القوى الخفية الجبارة ما يستحضره وليد عن عالم الطفولة حين وقع الزلزال: شهدت الزلزال وأنا طفل في السادسة: لقد خض الأرض كما لو خضتّها ريح رهيبة... والشيخ سالم يقول: يا جماعة، أقول لكم إنها نهاية الدنيا. صدّقوني. وأنا أنصحكم ألا تدخلوا البيوت. هذه إشارة من السماء وبداية لما حكم الله. ستأتينا زلازل أخرى.. لتمهد الطريق للملائكة الذين سيهبطون علينا من السماء وفي أيديهم سيوف من نار. سيهبطون أولاً في تلال القدس، ثم في بيت ساحور، في حرش الرعاة، ثم ينتشرون في طول البلاد وعرضها، ليحولوا الأرض إلى سماء. هذه الليلة ستبدأ المعجزات. تطلعوا إلى تلال القدس يا جماعة.. وترقبوا المجيء العظيم .
وعوالم الخرافة وتعالقها مع نسيج الرواية وشخصياتها لم تكن وقفا على وليد مسعود، فها هي مريم الصفار تروي: ساعة حطت الطائرة في مطار بيروت، شعرت كأنني انطلقت من أحد قماقم سليمان إلى الفضاء الفسيح: ولكي يجدني أحد، لم يكن عليه أن يعبر مدينة النحاس-مدينة الموت والقنوط. هذي أنا، مريم الصفار، جنية تمردت على ظلم سليمان، وكسرت ختم الرصاص على قمقمه، تملأ فضاوات الدنيا ورحابها، وتحت قدمها تغور وتتلاشى مدن النحاس كلها، إلى الأبد. أو على الأقل، لأسابيع ثلاثة .
ولأن الفلسطيني الذي لحقته اللعنة بجبروت قوة كونية مدججة بالخرافات اليهودية عن أرض الميعاد والشعب المختار، فقد بات عليه أن يمتلك سر الخلود كي يبقى حيا ويقاتل غيلان هذا الزمان، ومن هنا ربما فإن وليد، على نحو ما، يذكر صديقه ابراهيم الحاج نوفل بالاسكندر يوم حزم أمره للحصول على سر الخلود... كلكامش فعل ذلك أيضا: فعل ما فعل بأهل أوروك، ثم كبر وحزم أمره للحصول على سر الخلود، ولما حصل على النبتة التي ستهبه إياه بعد الجهد والآلام، أكلتها الحية، وخُلدّت دونه. والإسكندر، رغم ذهابه إلى بابل، حيث لا بد أن أحدهم روى له قصة كلكامش، لم يتعظ .
صار على وليد مسعود أمام هجمة الخرافة اليهودية أن يعجم كنانته التراثية والدينية والأسطورية، بكل ما فيها، وبكل ما في جعبة الحاضر من مضاء السلاح وفعل المقاومة والاستشهاد.. هنا تصبح الشجاعة الوحيدة التي تستحق فعل الممارسة، هي مجابهة الموت بالعضل، بالفعل العنيف، حيث يكون بالموت نفسه غلبة على الموت.. موت الفدائي مثلاً . هكذا فعل وليد قبل أن يلقوا به خارج وطنه، وهكذا فعل ابنه مروان قبل أن يستشهد، ولهذا اختفى وليد مسعود الذي يبحثون عنه فيما هو يبحث عن عين العاصفة ليجد وطنه.
(1) جبرا ابراهيم جبرا، البحث عن وليد مسعود، دار الآداب، بيروت، 1978. وكل الاستشهادات الواردة من هذه الطبعة.
(2) إميل حبيبي، المتشائل، عكا، 1974.ط2، دار ابن خلدون، بيروت، 1975، ومنها أخذنا إشاراتنا.
(3) إشارة إلى البئر الأولى ، وهي سيرة جبرا إبراهيم جبرا. دار الريس، لندن، 1989. ط 2، كتاب الشهر، وزارة الثقافة، فلسطين، 2004.
* كاتب أردني