د.صفاء الشويحات - عندما سئل الرئيس الأمريكي بوش في أحد المؤتمرات الصحفية عن سبب النمو الحضاري في أمريكا، أجاب أن سبب ذلك هو النظام التعليمي، وفي فرنسا، كان أحد الأعمدة الرئيسية في الحملة الانتخابية للرئيس جاك شيراك هو تطوير التعليم في فرنسا. وفي حوار مع السفير الصيني كان أغلب الحديث عن الطفرة الاقتصادية والحياتية للصين حتى وصل معدل النمو الاقتصادي إلى أعلى معدل في العالم، كان السبب هو تطوير نظام التعليم في الصين.وحول ظهور المارد الاقتصادي في اليابان كان جواب السفير الياباني أن السبب الجوهري هو النظام التعليمي.
ولضمان تحقيق مؤسسات التعليم العالي رسالتها في قيادة التغيير الاجتماعي المنشود، لا بد أن تنطلق من وعيٍ عقلانيٍّ بالتغيرات الجذرية التي ينبغي إحداثها، مما يتطلب تقييم الواقع التربوي وتحديد نقاط الضعف فيه ومقاربتها بالتحديات الوطنية والقومية والعالمية.
والمتتبع لتاريخ الأنظمة التعليمية في العالم العربي بعامة والنظام التعليمي الأردني بشكل خاص يتضح وبجلاء أنه تاريخ حافل بالجهود التي شملت وحدات التعليم الأكاديمية والإدارية، والمحلل لتلك الجهود يلمح مساراً واضحاً يمكن الإشارة اليه بتعزيز إرادة التغيير للأفضل والاستمرار في حركة التطوير من أجل الارتقاء بالأداء الأكاديمي والإداري مستفيدين بما يتوفر من إمكانات بشرية ومادية، ومستعينين بما يتحقق من خبرات أردنية وعربية و عالمية. وبالرغم من المحاولات الجادة والجهود المبذولة في اتجاه التطوير التربوي، إلاّ أن التعليم العالي يعاني من تدني مستوى التعليم، وانخفاض درجة كفاءة الخريجين ، لدرجة أصبح '' التعليم العالي في الوطن العربي قادراً على تزويد أجهزة الدولة بجملة الشهادات البعيدين كل البعد عن الإبداع والابتكار لإحداث النقلة النوعية في جسم المجتمع إلاّ بقدر محدود.. فالتعليم بعيد عن مفهوم تجسير الفجوة الحضارية وتحفيز الإبداع الذاتي . ويشير خبراء التنمية المتواصلة في التعليم والعديد من خبراء التربية والإدارة الجامعية، إلى أن أهم التحديات المعاصرة التي تواجه الجامعات تكمن في: غياب التنافسية في الأسواق العالمية لخريجي الجامعات الوطنية، وتزايد البطالة بين الخريجين، وانخفاض نسبة إنتاجية العديد من خريجي الجامعات الوطنية في مجالات مختلفة، وزيادة عدد الخريجين عن حاجات سوق العمل، وكل ذلك بسبب الموارد البشرية الناتجة عن أنماط التعليم الجامعي الحالي . وهذا الواقع موضوع اهتمام ممزوج بالقلق في المجتمع الأردني وبدرجات متفاوتة في سائر المجتمعات العربية، كونه يرتبط بأهلية الخريجين والقدرة التنافسية بين الجامعات الوطنية والأجنبية، التي نتوقع أن تزداد خلال السنوات القادمة.
وعندما يكون التركيز منصباً على المدخلات التعليمية دون ربطها بالعمليات والمخرجات، فإن النتائج تأتي هيكليةً قاصرة عن تجسير الفجوة الحضارية؛ ففي الوقت نفسه الذي يعظم فيه دور الجامعات في قيادة التغيير، نجد أن التطوير المهني لأعضاء هيئة التدريس نادراً ما يأخذ موقعاً في سلم أولوياتها، مما يترتب على ذلك وجود أعراض وأمراض متنوعة في النظام التربوي وأهمها استمرار التدريس بالطرق التقليدية، وأثره في تزايد الانفصال الحقيقي بين أعضاء هيئة التدريس وطلابهم، فتركيز الاهتمام على تحليل العوامل العامة للنظام التربوي كان على حساب اهتمامنا بدور المدرّس وتناسينا أهمية المبادرة التي يمتلكها المدرّس لكي يجعل من المؤسسة التربوية عاملَ تقدمٍ وبناء.
عندما نناقش النظام التعليمي ودوره في إحداث التغييرات المجتمعية المأمول بها ، فسرعان ما يتبادر إلى الذهن واقع العملية التعليمية التعلمية . ومن المؤكد أن جودة عملية التعليم والتعلم تتعلق بجودة عناصرها الأساسية وهي: المدرس،و الطالب ، المادة العلمية، والمؤسسة التعليمية وعندما نتحدث عن مقومات جودة التعليم في مجتمعاتنا العربية بعامة ،يسعى البعض للبحث عن وصفة جاهزة يمكن نقلها من أنظمة تعليمية مختلفة بمدخلاتها ومقومات نجاحها ، بينما نحن في أشد الحاجة إلى التوجه نحو تطوير واقع تصوراتنا نحو العملية التعليمية بعناصرها الأساسية ، ان أفضل الحلول تأتي دائما من تحليل الواقع وصولا لتحديد نقاط الضعف .
ان المؤسسة التعليمية كتنظيم أداة فعالة في بناء الشخصية الحديثة ،إلا أن قدرتها على ذلك تعتمد على واقع العلاقة التربوية بين المدرس والطالب وما يتخللها من آليات النمذجة (Modeling) والتمثيل (Exemplification) والتعميم ( Generalization) والتأثير (الثواب والعقاب) (Influence) تتضافر معا بحيث تعين الفرد على أن يذوت تدريجيا القيم الجديدة، وأن يدمج نفسه مع النظام الاجتماعي الجديد (Identification, Inclusion).
في حين أننا نجد أن نسبة لا بأس بها من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات لا تتعدى نظرتهم للتعليم على أنه وسيلة لتأمين مكانة اجتماعية ووظيفة مجزية، وفي أقصى الحالات يتم الاهتمام بالمادة المعرفية التي يقومون بتدريسها أو حتى بنقلها وتلقينها للمتعلمين . محدودية الرؤية هذه أثرت وبشكل مباشر على مدى إيفاء المدرسين بمسؤولياتهم التربوية تجاه توفير مناخ التفاعل الاجتماعي والنفسي الملائم فما بين المدرس والطالب وفيما بين الطلبة أنفسهم، مما أدى إلى ضعف الطلبة في استخدام مهارات الاتصال والتواصل ، وتدني القدرة على إدارة الحوار وتفعيله.
أضف إلى ذلك أن البعض من المدرسين يتخذ من التعليم الجامعي موقفاً ظاهره التقدم وباطنه الرجعية والجمود، فالمهمة التربوية تقف عند حدود ''ايصال المعلومات'' إلى الطلاب. في حين يعتقد البعض الآخر أنه وصل إلى مرحلة النضج في مادته العلمية عندما حصل على مؤهله الجامعي.علما أن ما يميز الفعل التربوي عن عملية التأثير الذي يمارس في أماكن اجتماعية مختلفة، بواسطة أفعال بهدف غرس فكرة أو رأي أو شعور أو إطلاق عمل ''كونه يعرب عن نيته التكوينية باتجاه الدارسين. فالتأثير يعزى إلى المدرسين وما يوصف به هؤلاء المدرسون الذين يفترض أنهم يوجهون مستقبل التلاميذ ومصيرهم.أضف إلى ذلك أن ما يميز عمل المؤسسات التربوية عن غيرها من مؤسسات المجتمع الأخرى التأكيد على الحرية والتفكير المستقل والقدرة على المخالفة في الرأي والبحث عن الحقيقة والإضافة إليها والالتزام بدستور خلقي يحكم عمليات البحث والدراسة.
أما الطالب الجامعي فيعتقد هو الآخر أن التعلم يحصل بمجرد تلقي المعلومات سواء كان المصدر المعلم أو الكتاب، أو حتى الكمبيوتر مؤخراً. من هنا يحصر نفسه في دائرة تلقي المعلومة وتخزينها في ذاكرته '' عن ظهر قلب '' ثم استردادها على ورقة الاختبار، وبهذا يؤمن الحصول على علامة النجاح ومن ثم الحصول على وثيقة التخرج ليعرضها على ''الجدار مفتخراً بإنجازه العلمي!! ''.
أضف الى ذلك أنه وبالرغم من انتشار عناصر التكنولوجيا الحديثة ، إلا أن ، الواقع الجمودي ما زال يخيم على عملية التعليم والتعلم في مؤسساتنا التعليمية. فلا جمال الحرم الجامعي، ولا توفير أنظمة الحاسب الآلي تكفي لتحقيق جودة التعليم والتعلم. نحن بحاجة إلى بناء استراتيجيات التعلم العميق الفعال فلم تعد الحاجة تقف عند حدود الحصول على المعلومة وحفظها . نحن بحاجة إلى البحث في المقومات الأساسية لجودة عمليتي التعليم والتعلم، فالجودة في التعليم ترتكز إلى '' كل ما يؤدي إلى تطوير القدرات الفكرية والخيالية عند المتعلمين، وتحسين مستوى الفهم والاستيعاب لديهم ، وتنمية قدراتهم على إيصال المعلومة بشكل فعال، والنظر في توظيف ما تعلموه في الماضي وما يدرسونه حالياً، في حل القضايا والمشكلات . لذا.. لا بد من التوجه نحو التنمية التعليمية المبرمجة التي تنطلــــــــــــــق من الجذور، ومن أهمية الارتقاء بالمحورين الأساسيين في العمل التربوي: (المدرسين ، والطلاب).
ولتجويد التعليم والتعلم نقدم جملة الافتراضات التربوية التي يجب أن تنطلق منها عمليتي التعليم والتعلم الفعال:
أولا : الافتراضات التربوية المقترحة لتجويد تعلم الطلاب في مرحلة التعلم الجامعي
1 الطالب محور العملية التعليمية فبدونه لا وجود للمعلم أو المنشأة التعليمية.
2 الطالب بطبيعته متحمس لاكتشاف عالمه.
3 النظر في أهمية المنحى التكاملي في تقديم الخبرات التربوية التي تتوجه لتنمية شخصية المتعلم فكرياً ومهارياً وانفعالياً.
4 مفهوم ''الكـم'' في عملية التعليم والتعلم يجب ألا يرتبط فقط بحجم المعلومة، بل أيضاً بالوقت الذي يُستغرق في التعلم والأسلوب الذي يكتسب المتعلم فيه المعرفة.
5 المدرس مخطط ومشرف وموجه لإحداث التعلم عند الطلاب، ينطلق عمله من تطوير تصورات المتعلمين وإدراكهم لمفهوم التعلم وتعرف أدوارهم، في اكتشاف معنى الأشياء وفهم الواقع، لذا على المدرسين أن يوجهوا المتعلمين إلى استخلاص معنى للأشياء في عملية التعلم، بمعنى التوجه لتشكيل وخلق اتجاهات إيجابية عند الطلبة نحو توظيف المعرفة بما يحقق زيادة فهم العالم المحيط. إن المهمة الرئيسة للمعلم هي إجراء حوار يقوم من خلاله الطالب بإعادة تنظيم معرفته السابقة.
6 تبنّي منهج دراسي يساعد على إثارة غرائز الإبداع والاستفسار والتحليل عند الطلاب وحثهم على الاستقلالية في اختيارهم وطرحهم للآراء والأفكار، واعتماد منهج التعلم العميق الذي يقوم على سعي المتعلم لاستخلاص المعنى من الأفكار والمفاهيم التي تتضمنها المادة التعليمية.
7 انتقاء المادة العلمية المختصرة، المفيدة سهلة التناول التي تتناسب مع المستوى اللغوي والفكري وقدرات الطلاب، وحجمها مناسب للفترة الزمنية المخصصة لها، ومناسبة لمستوى الطلاب وتتحدى القدرات الفكرية والعلمية عندهم، وتساعد على تطوير قدراتهم الخيالية والفكرية. وتساعدهم في اكتشاف معنى للأشياء في فهم الواقع المحيط بهم، ولا تتعارض مع الخلفيات الدينية والثقافية والحضارية للطلاب.
8 تقديم المادة بشكل مشوق، مشجع للدراسة، منطقي، متسلسل، واضح الغرض والهدف.
9 الاستمرار في التقويم البدائي والبنائي والختامي في كل موقف تعليمي.
أما الافتراضات التربوية المقترحة لتجويد تعلم الطلاب في مرحلة التعلم الجامعي فهي:
_ تجاوز الرغبة في النجاح في الاختبار وصولاً إلى الرغبة في الاستفادة مما تعلمه وتطبيقه بنجاح في أثناء الدراسة، ومستقبلياً في الحياة العملية بعد التخرج.
_ الاستمرار في النقد الذاتي في عملية التعلم.
_ إعمال الفكر بمختلف مستوياته، ابتداءً من الحفظ والتذكر، ومروراً بالتطبيق، ثم التحليل فالتركيب، وانتهاءً بالتقويم وإصدار الأحكام ، فدون التدرب على مختلف مستويات التفكير لن يحصل الإبداع والابتكار، ولن تنمو القدرة على تطبيق ما تعلمه على الواقع، وبالتالي لن يكون هناك تطوير مستمر للواقع.
_ التفكير الفعال والبحث المتواصل للربط بين المكونات وبين القضايا والمسائل، واستثمار المعرفة السابقة في تعلم أفكار ومفاهيم جديدة يمكن توظيفها في حيز الواقع بطريقة مختلفة عما تعلمه ولغرض مختلف.
_ التمتع بحب التجربة والاكتشاف، والقيام بدور الباحث بالتشاور، والتفاعل مع المعلم، ليقوم بإجراء بحث يتطلب جمعاً للحقائق وتحليلها موضوعياً ونقدها والتوصل إلى استنتاجات.
_ أن يقوم بدور المناقش المتفاعل، فيقترح أسئلة ويقترح حلولاً لمسائل وقضايا معروضة للنقاش.
الجامعة الألمانية الأردنية
بالتنسيق مع الجمعية الأردنية للبحث العلمي Safa.shweihat@gju.edu.jo
نحو تجويد التعليم والتعلم فـي مؤسسات التعليم العالي
12:00 14-1-2008
آخر تعديل :
الاثنين