في جزيرة مهجورة من جزر الهند التي تحت خط الاستواء، وفي وسط ظروف طبيعية طيبة، تولد طفل من بطن ارض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مر السنين دون ان يكون له أم أو أب.. وفي قول آخر ان تيار البحر حمله على هذه الجزيرة ي صندوق خشبي بعد ان أروته أمه من الرضاعة وكانت أميرة مضطهدة في جزيرة مجاورة، فاستودعت طفلها الصغير الأمواج لتنجيه من الموت.
وهذا الطفل هو (حي بن يقظان) فتبنته غزالة وأرضعته وصارت له كأمة.. ونما الطفل وأخذ يلاحظ ويتأمل.. وكان الله قد وهبه ذكاء وقادا فعرف كيف يقوم بحاجات نفسه بل استطاع ان يصل بالملاحظة والتفكير الى ان يدرك بنفسه ارفع حقائق الطبيعة وما وراءها.. وقد وصل الى ذلك بطريقة الفلاسفة بطبيعة الحال.
وقد ادت هذه الطريقة بحي بن يقظان الى ان يحاول عن سبيل الاشراف الفلسفي الوصول الى الاتحاد الوثيق بالله.. هذا هو العلم الغزير والسعادة العليا المتصلة الخالدة في وقت واحد. ولكي يصل حي بن يقظان الى ذلك دخل مغارة وصام اربعين يوما متوالية، مجتهدا في ان يفصل عقله عن العالم الخارجي وعن جسده بوساطة التأمل المطلق في الله لكي يصل الى الاتصال به، حتى ادرك ما أراد. وعندما بلغ ذلك المبلغ لقي رجلا تقيا اسمه ''أبسال'' أقبل من جزيرة مجاورة الى هذه الجزيرة يحسبها خلاء من الناس وقام أبسال بتعليم الكلام لصاحبه المنفرد بنفسه والذي ابتكره حي بن يقظان لنفسه تعليلا علويا للدين الذي كان يعتقده، وتفسيرا كذلك لكل الاديان المنزلة. ثم أخذ ''أبسال'' صاحبه الى الجزيرة المجاورة وكان يحكمها ملك تقي اسمه ''سلامان'' وهو صاحب أبسال الذي كان يرى ملازمة الجماعة ويقول بتحريم العزلة!! فقد طلب اليه ان يكشف ''لأهل الجزيرة'' عن الحقائق العليا التي وصل اليها!! فلم يوفق، ووجد عالمانا نفسيهما مضطرين آخر الامر الى ان يعترفا بان الحقيقة الخالصة لم تخلق للعوام، اذ انهم مكبلون بأغلال الحواس، وعرفا ان الانسان اذا اراد ان يصل الى التأثير في أفهامهم الغليظة ويؤثر في ارادتهم المستعصية فلا مفر له من ان يصوغ آراءه في قوالب الاديان المنزلة.
وكانت نتيجة هذا ان قررا اعتزال هؤلاء الناس المساكين الى الابد ونصحهم بالاستمساك بأديان آبائهم وعاد حي بن يقظان وصاحبه الى الجزيرة المهجورة لينعما بهذه الحياة الرفيعة الالهية الخالصة التي لا يدركها الا القلائل من الناس.
والأساس الفلسفي لهذه القصة او الرسالة لمؤلفها (ابن طفيل) هو الطريق الذي كان عليه فلاسفة المسلمين على مذهب الافلاطونية الحديثة، وقد صور ابن طفيل الانسان الذي هو رمز العقل في صورة حي بن يقظان وقد رمى ابن طفيل من ورائها الى بيان الاتفاق بين الدين والفلسفة، وهو موضوع شغل أذهان مفكري المسلمين كثيرا.
وهذا الكتاب (حي بن يقظان) طبع لأول مرة عام (1947) لكن دار المدى للنشر والتوزيع اعادت طباعته مرة أخرى عام (2002) وهو من تحقيق وتعليق الاستاذ احمد أمين اذ يقول: ان القالب القصصي الذي اتخذه ابن طفيل سبيلا لعرض آرائه الفلسفية كان قد درسه الاستاذ (غرسيه غومس) دراسة علمية عميقة شاملة، ذهب فيها الى ان هذا الهيكل العام للقصة مأخوذة من (قصة الصنم والملك وابنته) وهي احدى الاساطير التي نسجت حول شخصية (الاسكندر الاكبر) ولا بد انها كانت معروفة عند اهل الاندلس فتناولها ابن طفيل وصاغها في قالب رمزي.. وفي هذا يقول (غرسيه): ''وقد وجد ابن طفيل في هذه الفكرة الادبية ذات الحيوية المتصلة والتي تبدو حقيقية وان كانت من نسج الخيال، السبيل الى عرض نظرية المفكر المتوحد ونظريات فلسفية أخرى.
واخيرا وبعد ان تم نضج حي بن يقظان تعرف بـ (أبسال)، وكان قد تثقف ثقافة دينية من تعاليم النبي فلما علّم (حي بن يقظان) الكلام وعرض عليه ما وصل اليه من تعاليم نبية، وعرض حي بن يقظان عليه ما وصل من تعاليم عقله وجدا انهما متفقان في الاصول، وان اختلفا في الفروع.. يشير بذلك الى تعاليم (العقل) متفقة مع تعاليم (الشرع)، غير ان الدين يوجب تفاصيل لا يصل اليها العقل كالصلاة والصوم والزكاة والحج، ويبيح امورا قد لا يرضى عنها العقل كادخار الاموال واباحة ما تقتضيه بعض الشهوات علما ان الدين بأن اكثر الناس لم يبلغوا مبلغا رفيعا، كالذي وصل اليه حي بن يقظان وابسال، وان الدين يجب ان يراعي الجمهور لا الخاصة وحدهم، ولذلك لما ظن حي بن يقظان انه يستطيع ان يعلم الناس اكثر مما علمهم الدين فشل في ذلك كل الفشل، واضطر الى الانسحاب من جزيرة ابسال الى جزيرته الأصلية.
وعن المفكر والفيلسوف والعالم ابن طفيل نقول انه عاش بين (1110 -1185 ) ميلادي ويقال انه كان تلميذا لابن رشد، وكان طبيبا في غرناطة الاندلس، وعمل كاتبا لعامل غرناطة، ثم طبيبا لخليفة الموحدين ابو يعقوب يوسف المنصور.. ومن المعروف ان لابن طفيل كتبا في الطب والفلك.. لكن لم يبق لنا من مؤلفات ابن طفيل الا رسالته او كتابه هذا (حي بن يقظان).
حي بن يقظان
12:00 15-12-2007
آخر تعديل :
السبت