د.سلطان المعاني - قصائد حيدر محمود في مجموعته في البدء كان النهر وقائع تعج بالأبطال، وميادين طراد تتقد حماسة، ومدارات ارتباك و وجع و تباريح و حزن معتق ، تلال من أسئلة الحيرة التي تستحضر الشاعر ثائراً ورافضاً، يدخل في دوائر طوباوية، ما إن يقترب فيها من باب النار حتى يرتجل توبته.
أرضية الغلاف الحائرة بين الزمردي والفيروزي، تجعل القاعدة حياراً بين قطرات الماء المتساقطة رذاذاً على ضفاف النهر، والتربة المزروعة حصى وحجارة تُكرِّس التشبث بالأرض، وتستنطق شريان النهر فوقها، وهو يرتسم في امتدادات الحروف المتكئة على السطر، والصاعدة في انسياب رشيق متداخل في الأفق. وقد جاءت كلمات العنوان في البدء كان النهر تموجات تسبح إثر أخرى، تتناوب الصعود اقتراباً، والاختفاء ابتعاداً، لا تغادر أرض الكتار المغروسة حصى، والمشبعة قطراتٍ برذاذ النهر.
شخوص القصائد في حراك نهضوي ونشيد متعال، لا تلمس حيزا للمهمشين فيها، تأنس للأعلام أشخاصاً وقبائل ومضارب وأمكنة، تتعاطى الخطاب معهم بتشاركية حميمة، تقترب فيها من نبضهم ونبض الشاعر، وتجد فيه المبتغى والضالة، أو يعرج بك إلى مداركها، ففي القصائد قبس من نور ونار، وهي في عنوناتها مشروع خطاب موجه، يمخر صاحبه عباب المتلاطمات، وهو الذي خبر ركوب بحرها... فالشاعر يعبر عتبة مجموعته بمبتدى تكوين الضفاف، مُجيِّشاً التاريخي والديني ودلالات التعلق، حيث أجراس النهر تدعو الحيارى، وتُشَرِّع لهم الأبوابَ نحو صفاء الروح، وَتَحَدُّرِها نحو الشريعة، حيث يلتقي على طُهر مائها الأنبياء والقديسون والشهداء، وبدر بن عمار ، فحيثما كان الماء كانت الحياة.. وكان الحلم مشبوبا، بأزمان هذا النهر، روحاً عروبيةً ومدىً إنسانياً كونيا. وقد تسابق دفقه ليغسل درن الأحقاب وسنين طغيان الجبابرة العتاة، فينغدق ماء الأردن طهراً على الغرقى بأدران العيش.. المشتعلة ضمائرهم حمأً مسنونا.
في البدء كان النهر
واللغة التي اختصرت
تفاصيل الكلام..
والزعتر البري، والدفلى
وقلبي شرفة أولى..
لهدهدة الحمام
ودمي .
يتحدر النهر سريعا يخالط ملح الأرض.. فترتفع قامات الدفلى ريانةً جذلى، إنه النهر أصيلا وضحى.. يأسرك الشوق ماضياً مُخَضّباً لدم المسيح وبدمه، في كل خطوة يُرَدِّدُ الرجع نشيداً، والأرض توشك أن تنداح تحت قدميه، مباركة خطاه، ومبارك ثراه، ومباركة أحقابه الأولى واللاحقة ما تملَّت من يأس.. ولا لاح بها سقمُ ..
يمارس طقسه في الماء:
- هل يدري الغمام
بأن هذا الماء
ليس من الغمام؟
المسافر فيَّ
من رئتي..
إلى .. رئتي .
على جنبات النهر، حيث كان البدء، تشطُّ المسافةُ، وتقترب من تضاعيف الوقت، وقد تهادى بأنبيائه ورسله حيث الحقيقة، وقد شدَّ سحْرُها حجى البشرية كلها بخدين صباحاتها ومساءاتها، وهي تنتقل بين زهو الربى لذراعي الغور وتل الأربعين وتل قمران، وعلى مقربة من الكرامة منتشيا وقد ضم في أهدابه نبيا يدفق الحنان والطيب والسماحة من جانحيه، مباركا لها وفيها دون وحشة الوادي، وقد ساجلته الزمان فوفّى له ووفّى به...
وهذا المعبر الشوكي
-بين الزعتر البريّ
والدفلى-
يقاسمني
تفاصيل العظام .
يا أيها النهر الذي ينتظمُ الوطن رهافة أنغام، ويرسمُهُ خرائطَ حافلةٍ بالحلم.. ومُخضَّر الآمال، ويغرس فوق كل شاهق فيه سموَّ بيارق.. ويمنحُ لنسوره وبواشقه إيقاع رحلته فوق ذراه. ويكتب أسماء ربوعه أبواب فجر.. وأسرار قداسة.. لقد منحت الأرض في الخافقين فضاء ليلكياً وشلالات ضوء، وكسوتها ما بين أسوار القدس ودير صفصفا جدائل كروم وسرمديات نهوض للمعالي..
يا نهر أقرؤك السلام
فأعد نشيدك
مرة أخرى
لأخرجني
من الأرق الذي يقتات
من ورقي .
ووفق أطروحة العتبات لجينت تأتي عنونات القصائد؛ أرض وناس وأوليات خطاب، تُشكِّل سوياتٍ معرفيةٍ تُكثِّف ثيمات النصوص، وبؤرة الدفق الشعري الوجداني، فلم تأت عناوين القصائد تكلفاً ولا تجملاً، بل مطلباً أوليا للولوج في عالم القصيدة.
المكان في العناوين هو ذاته أو ما يشير إليه؛ ففي المسح الأولي الذي يسبق الحفر المعرفي، نجد شواهد الأمكنة في: حجارة جرش.. لم تأت من روما ، القصيدة والمؤابية ، الخرطومية ، في الأزرق ، آه.. يا جبل النار و .لآءسصلآ وتصل عنوانات غيرها تَلوُحُ فيها الأمكنة: أرض ما... ، قصيدة السرايا ، و من قاع البئر .
وينسحب أثير القصيدة في العناوين الدالة على الناس: من أبي محسَّد ، آخر ما قاله أبو الطيب ، امرأة ، لست من مازن ، من يوميات بديع الزمان الطلياني ، يا ولدي ، إلى طفلة تتوهج ، جدي الطيب ، ولم أكن أنا .. أنا ، عن الجعفي أيضاً ، و لي.. أنا وحدي .
أما في عناوين الملامح وأوليات الخطاب فنلتقط نتيجة مسح المؤشرات الدالة على الخطاب: .. الدعوة عامة ، الجائزة ، هو الذي كان ، لم يسلم عليّ ، أقلي عليّ اللّوم ، ارتباك ، قصيدة الأرقام ، وجع الأرقام ، مرثية للحقيقة ، مرثية للبراءة ، تنهيدة الحزن المعتق ، عن الحزن المختلف ، قليل من الحزن ، تباريح وغيرها.
وفي منحى النظر إلى المجموعة كتلة واحدة بعيني ميشيل فوكو في اركيولوجيا المعرفة، لا بد من التكويمات الثلاث أعلاه، التي يقتضي رصدها الأولي، رسم ملامح الخطاب الشعري الاستباقيّ في المجموعة جُملةً، وفي قصائده مُنَجَّمَةً.
ويبدو أن التسجيل الرصدي لعنونات القصائد يبرز كثافة طبقة الملامح وأوليات الخطاب على حساب الطبقتين الأخريين، فقد جاء المكان في عناوين تسع قصائد، والشخوص في عناوين إحدى عشرة قصيدة؛ في حين فاقت قصائد الملمح والخطاب ضعف مجموع الطبقتين الأخريين، إذ جاءت ثلاث وعشرون قصيدة مُعَنوِنَةً فئات هذه الطبقة. وهو أمر ينسجم تماما مع موضوعية التناول الوجداني أو الفكري عند الشاعر، فهذه الكثافة تتوزع هويةً على قاعدتي الحفر المعرفي الأساسين، المكان والإنسان.. مقوما الوطن والهوية.
وفي المجس الاختباري، الذي نتتبع فيه تمرحلات القصيدة في سوياتها المعرفية والوجدانية والبنائية، نرصد الملامح والشواهد التي تفجؤنا في قصائد الديوان مجتمعة، وجمل القصيدة منفردة، بهدف تعرية النص وتنحيته من جهة، والولوج إلى عالم الشاعر الداخلي، قبل طفو مكنوناته على صفيح قصائده من جهة أخرى.
يُبرِزُ الشاعر في قصيدة حجارة جرش... لم تأت من روما المكان تعملقاً حضارياً فاق سواه، وانفتاح آفاق الألق الثقافي الذي يدفع إلى عمق الطرح في استحضار التعاقب والحركية والتواصل الذي عاشته جرش، مدينة الطرقات المرصوفة والأعمدة والمسارح المشبعة بالتبتل والعابقة بالنجوى.
حجارة هذي المدينة
من جبل كان
يسكن فيها
وقد أبدعت كل هذا الجمال
أيادي بنيها... .
مَنْ ترى أبقى طفولتها كدحنونة تهبط إليها على أنغام رعاتها، وهم عند مسائها عُشاقها الحالمين.. وقد رقرق الدمع عيونهم الحرى بعمق جذورها وألفة ملامحها، تاركة وراءها التاريخ.. وصانعة حاضرها.. بل تشتهيها مسلات الغد حية على أفقها تقصُّ الحكايا.. الولادة والبعث بين تكبيرات سحرها وغسقها.. إنها جرش.. انفلات السرد وشجر الخلود.
... وتكثر أسئلتي
كُلّما زرت هذي المدينة
تكبر أسئلتي..
كلما قال لي حجر
من حجارتها:
(يا هلا!)
وأحلف: أن الذين بنوا (جرشاً)
جرشيون... .
وتشي أسماء الموقع الجغرافية من مدن وقرى ومظاهر طبيعية عامة ومحلية بنظرة الناس الذين أطلقوها على المكان نحو زاوية المدلولات التي تنطوي تحتها المفردة.. وهي في التبونوميا دلالات ترتبط بالجغرافيا في بعديها البشري والطبيعي.. ولا تتعداهما إلى سواهما. ففي منحى الجغرافيا البشرية لك أن تسرح الفكر بدءا من العصر البرونزي والعصر الحديدي وتعريجا على حضارات اليونان والرمان والبيزنطيين والعصور الإسلامية المتعاقبة، وفي منحى الجغرافيا الطبيعية لك أن تسامر شجر البلوط والزيتون وتسألها عن السواعد التي غرستها لنأكل ونتفيأ، ولك ألا تحار من جوابها وهي تشي بسر غرسها...
فيا أيها الجرشيون..
هذا المكان لكم،
والزمان لكم..
ومدينتكم هذه (أُردنية)
وكل الحروف التي حفرتها
أظافر أجدادكم
(عربية)! .
ولا يملك المار بجرش أن يقرأ بعضها ويمضي.. فالوقوف على عتبات بواباتها يستغرقك من هدريان في النصف الأول من القرن الأول الميلادي حتى هذه اللحظة.. وقد حار الدارسون في تلك العظمة ذات الأقواس الثلاثة.. أهي بوابة المدينة أم قوس النصر.. وها هو هدريان يدخل المدينة منه ويمضي.. وتبقى جرش ويبقى قوس النصر مدخلا للولوج إليها بكل العنفوان والألق..
ولعل زيوس قد اختار لقومه المكان فتخيروه له.. وهو الذي تحكم بالريح وجمع السحاب وأعطى الرعد دويِّه وصداه.. وانهماره رهاما فوق ذرى جرش وسهولها.. وهو الذي ارتضى فضاءاها مساحات تحليقه نسرا في الأعالي.. ولعله تخير جرشاً اقترابا من شجر البلوط أحبُّ الأشجار إليه، فمن ذا الذي اقترب من صاحبه؟.. هذه المغروسة في الأرض تجذرا وفرعها يعلو متساميا في سماء الوطن.. أم ذاك الوافد برطانته وجهالته من جبال أولمبوس ينشد وطنا هنا؟.. وما درى أن بيتا واحدا له سيكون شاهدا على مروره العابر.. في أرض لفظت كل الغرباء وظلت تنشد ود جذورها ولسانها وعشقها في يعرب والأردنيين.. وإن خطب ودَّها أبناء العصور الكلاسيكية ونعتوها باسم بومبي الشرق.. وزينوها بكل ما يليق بالمدينة الزاهية فقد انطوت جرش في نسيج الوطن الحضاري صفحة وضاءة مشرقة تدلل على عبقرية المكان.
كُلُّ الغزاة غزاةٌ
لا تقابلهم بوردها الأرض
إن عاثوا..
وإن بطشوا!
وكُلُّهم، مثل روما، راحلون
ولا يبقى سواك على التاريخ..
يا جرشُ! .
قصيدتا آخر ما قاله أبو الطيب ، و حجارة جرش.. لم تأت من روما مدلاج القارئ لقصائد الديوان، وهما متكأ وفاتحة لتناوله بمجمله، غير أنهما لا تشيان، ضرورة، عما يسكن كل قصيدة من مفاتيح الخطاب، ولكنهما تجاوز العتبات والنص الموازي إلى عالم الديوان الداخلي، نثراً لأزاهير ورياحين شاعرٍ نال شرعية الانتساب إلى جدِّه أبي مُحَسَّدٍ المتنبي.. علوَّ همةٍ.. وشاعرية عزّ نظيرها.
* ناقد أردني