يقسم د.محمد مفتاح كتابه تحليل الخطاب الشعري الصادر عن المركز الثقافي العربي-الدار البيضاء، إلى قسمين، يبرر في الأول تعامله مع المنهج السيميائي اللساني في دراسة النصّ الأدبي خلال جولة غنية في تطور هذا المنهج، ورؤيته الخاصة له. ثمّ يطبّق كثيرا مما جاء في هذا القسم التنظيري في قراءة رائية ابن عبدون التي احتلت القسم الثاني من الكتاب.
يستعرض الباحث أولاً النظريات اللسانية ومدى صلاحيتها لدراسة الخطاب الشعري. فيبدأ من التداولية بنزعتها الاختزالية ذات التقسيمات الثنائية (خيالي/لا خيالي، حرفي/لا مباشر،...)، وإبعادها الأدب من مجال اهتمامها، لأنه لا يملك قوانين خاصة تتوافق مع العلمية. ويمرّ بالسيميائية التي قرأت الشعر من وجهيه (التعبير والمضمون)، وطبقت مفهوم التشاكل، وعدّت النصّ الشعريّ لعباً لغوياً، ومنغلقاً ذا حياة خاصة به، وهو خارق للواقع. ثم نظرية ياكبسون الشعرية التي اعتمدت التقابل (شعر/ نثر). ثم يقدم محاولة تركيب على ضوء فهمه للنظريات المتقابلة المتناقضة؛ وذلك باستغلال عناصر من النظريات اللغوية الوضعية والذاتية، والتوفيق بين الذاتية والمجتمعية. مؤمناً بتعايش العناصر المختلفة، وبخصوصية النصّ الأدبي.
في الفصل الأول (التشاكل والتباين) يقدم مفتاح تحديدا لمفهوم التشاكل في الخطاب، محاولا تقريبه من الخطاب الشعري، فالتشاكل كان في العلم يهتمّ بالمعنى، ثم أصبح في الأدب يهتمّ بالشكل أيضا. وهو عنده: تراكم مستوى معين من مستويات الخطاب هو المستوى التركيبي. وهو متنوع تنوع مكونات الخطاب، فهناك تشاكل صوتي، وتشاكل نبري، وإيقاعي، ومنطقي ومعنوي. أما التباين فهو اللاتشاكل. ويعدّ مفتاح مفهوم التشاكل أكثر فعالية في تحليل الخطاب، وقدرة إجرائية من مفاهيم بالغة التعميم أو التخصيص مثل التكرار والتوازي.
في الفصل الثاني الصوت والمعنى يقول مفتاح: برز الاهتمام بالصوت منذ الأقوام البدائية، واهتم به الشعراء. وهو تشاكل حرّ يقوم بدور أساسي في الخطاب الشعري، وإلى جانبه تشاكل مقيد يتجلى في القافية والوزن والإيقاع والوقفات، وكلها تستعصي على الدراسة الدقيقة، لذلك لم تلق اهتمام اللسانيات التي اهتمت بعلم الأصوات الفيزيائي والوظيفي وبالتركيب المتداول . ويتابع: على أن الصوتيات ليست مستقلة عن التركيب، فالتشاكل الصوتي لا يؤدي وظيفة كاملة إلا إذا تجلى في التركيب .
في الفصل الثالث (المعجم) يتحدث كاتبنا عن التشاكل والتباين على مستوى المعجم قائلا إنّ الناقد الأدبي يشترك مع النحويّ بالاهتمام بالجملة، لكن النحويّ يقف عندها بينما يتجاوزها الأول إلى تحليل نص كامل ليكشف أبعاده المختلفة، مما يحتم عليه الاستعانة بقنوات معرفية وطرق إجرائية مختلفة. ثم يتعرض لاستعمال أسماء الأعلام بين القصدية والاعتباطية في علاقة الدال بالمدلول.
ويضيف: إذا كان المعجم يقوم بدور مهم في تركيب الجمل وفي معناها، فإن الشعر يخرق قواعد اللغة بالتقديم والتأخير وربط صلات واهية بين الأشياء، لكنه يخلق قوانينه الخاصة، والأنسب له -كما يرى الكاتب- القراءة الباطنية التي تعدّ الكلمة مدخلا متعددا للمعاني، وذلك ضمن السياق لا خارجه، مع الوعي بأن النصّ يخلق سياقه الخاص.
ويتعرض مفتاح في الفصل الرابع (التركيب) إلى التشاكل والتباين على مستوى التركيب، ويقول إن تشويش الرتبة في التركيب النحوي -الذي يظهر عادة في الأدب- يؤدي إلى نتائج معنوية تداولية. فالتركيب النحويّ في الشعر يؤدي دوراً في معنى وجمالية القصيدة متناغما مع باقي العناصر. وهو يوضح أنّ وراء الخطاب بنى نفسية وسياقا عاما يلعب دورا في التركيب؛ فتقديم بعض الألفاظ يعكس الاهتمام بها.
وينتقل الباحث في الفصل الخامس (التركيب البلاغي) إلى المستوى البلاغي قائلا: إن هناك فارقا بين حدّي التشبيه يدعو إلى تحليل كل طرف على حدة، لرصد المقوم المشترك بينهما، سواء كان ملاصقا أو تفاعليا، مما يؤدي إلى إبراز مقومات دون أخرى حسب سياق الكلام ومساقه. والتحليل الذي لا يكون انتقائيا ينبه إلى تعابير المجاز عامة سواء أكانت علاقتها المشابهة أم لم تكن، ويعفي من كثرة التقسيمات التي تملأ كتب البلاغة.
ويرى أن الاستعارة ليست تعبيرا عما هو كائن وحسب، لكنها تخلق ما ليس كائنا أيضا. وهذه القابلية للخلق تجعل منها أكثر من عملية لغوية، فهي مرآة لثوابت الذات الإنسانية ونماذجها العليا ورموزها، فدراستها -إذن- يجب أن لا تقتصر على التحليل اللغوي البحت.
ثم يقول: يبنى الخطاب اللغوي من مادة الألفاظ التي تؤلف بينها آليات التركيب بنوعيه النحوي والبلاغي، والوسيلة التي تستوعب هذه الآليات جميعا وتمططها هي موضوع الفصل السادس . وفي هذا الفصل (التناص) يحدد مفتاح أولاً مفهوم النصّ بأنه مدونة حدث كلاميّ ذي وظائف، وهو تواصليّ تفاعليّ مغلق لكنه توالديّ معنويّاً. ثم يحدد التناص بأنه تعالق نصوص مع نصّ بالمعارضة أو بالمحاكاة. على أنّ التناص لا مناص منه، لأنه لا فكاك للإنسان من شروطه الزمانية والمكانية ولا من ذاكرته (تاريخه الشخصي). فأساس إنتاج النصّ هو معرفة العالم، ولا حياة للأدب دون التناص. بعد ذلك يقدم سؤالاً مهما هو: أيكون التناص في الشكل أم في المضمون؟.
التناصّ يكون في المضمون أساسا، وذلك بإعادة إنتاج ما تقدم، لكنّ مفتاح يقول: لا مضمون خارج الشكل. ثم يتحدث عن المقصدية في التناص موضحا أنها ظاهرة معقدة يعتمد تمييزها على ثقافة المتلقي. على أن هناك مؤشرات تجعل التناص يكشف عن نفسه أحيانا. وهو يرى أن العمل الأدبي عمل جماعي أولا وشخصيّ ثانيا، وإذا أحدث بعض الرواد قطيعة فإنهم لا يلبثون أن يصيروا سلفاً ذا قوة إيحائية تحول نماذجهم إلى طرق لمن بعدهم. فالتناص وسيلة تواصل لا يحصل القصد الأدبي من الخطاب من دونه.
ويحدد مفتاح التفاعلَ في الفصل السابع بأنه التأثير المتبادل بين مرسل ومتلقٍّ في حال حضور أو غياب باستعمال الأدلة اللغوية، مطابق لمقتضى المقام والمقال. ثم يستقرئ التداولية من تيار موريس ، فتيار فلاسفة أكسفورد الذي تداخل مع سابقه، لكنه اهتم بدراسة الأفعال الكلامية، إلى تيار التوليديين الذين اهتموا بالتفاعل بين النصّ والسياق دون تفريق الخطاب الشعري عن غيره.
بعد ذلك يقول مفتاح: إن اللغة غير العلمية مليئة بالتعابير الذاتية، فالشعر مستودع الذاتية، لكنها ذاتية موجهة للتأثير والتفاعل، فهو -إذن- أكثر تداولية من اللغة العادية، ويمتلك قوانينه الخاصة إلى جانب القوانين العامة للغة . ثم يتحدث عن تيار السرديين على اعتبار أن كل نص شعري هو حكاية، أي رسالة تحكي صيرورة ذاتية، وعلى الدارس البحث عن المكونات السردية، أي الأفعال الكلامية للسارد، وهيئة المسرود، والعلاقة الحوارية بين الأشخاص مع الانتباه إلى التفريق بين مستويين: الحكاية كمسرود، والخطاب الذي هو كيفية السرد. ويخلص إلى أن التيار السيميائي هو الأكثر صلاحية لتحليل الخطاب الشعري بوصفه منفتحاً على نظريات اللغة المختلفة، وعلى التركيب والمعنى.
ويصنف الباحث في الفصل الثامن (المقصدية) علماء اللغة -الذين نجد هذا المفهوم عندهم- إلى تيارين: كرايس الذي وضع إطار المفهوم وأنواعه، وسورل الذي فرق بين المقصد الذي وراءه وعي، والمقصدية التي تجمع بين الوعي واللاوعي، وتكون لغوية وغير لغوية. ثم يعلق: أهمل سورل الطرف المجتمعي الذي يخلق التعابير اللغوية ويعطيها معناها. لكن النظرية التفاعلية ساوت بين المرسل والمتلقي واهتمت بالطرف المجتمعي. ومفتاح لا يرفض المقصدية لكنه لا يجعلها العلة الأولى في الخطاب.
ويلخص مفتاح الجزء النظري من كتابه في الخاتمة بالقول: إن البحث اللساني والسيميائي يحكم بنظريتين أساسيتين هما الوضعية والذاتية. وقد صاغت الوضعية قوانين علمية لتفسير الظواهر، ولذلك أبعدت من اهتمامها ما ليس قابلا لصياغة القواعد، فلم تهتم بالوقائع النغمية أو المجاز، أي روح الخطاب الأدبي والشعري، وركزت على ما هو قابل للإحصاء والتكميم .
وإذا كان للغة اللاعادية (الشعر) آلياتها وقوانينها الخاصة فإن مادتها هي اللغة الطبيعية التي يمكن أن تصاغ لها قواعد مجردة تنطبق على كل خطاب دون استثناء. وقد قدمت الذاتية نظريات ومقاربات هتكت حجب اللغة، وأبرزت خصبها من خلال اهتمامها بالرمزية الصوتية، وب اللعب بالأصوات والمعاني والمجاز. لذا فنحن أمام بناء منسجم يستطيع أن يدرس كلّ أنواع الخطاب.
في القسم الثاني من الكتاب، استراتيجية التناص ، يقوم الباحث بتحليل رائية ابن عبدون على الأسس التي حددها في القسم النظري من كتابه، وقد كان وفياً لمنهجه إلى حدّ بعيد، مع ملاحظة اختياره نصاً بسيطاً، لا يمتلك إيحاءات فنيةً راقية، وتقلّ فيه الشعرية لصالح التاريخية. ومن هنا كثرت التناصات التي أعطت للدراسة عنوانها، وإن كانت تناصات فقيرة، تسرد بالنظم لأخذ العبرة، كأنما القارىء في حصة تاريخ أمام مدرس عجوز.
* شاعر أردني