هل يمكن النظر في أحداث التاريخ وتطوراته وشخصياته بواسطة أدوات التحليل النفسي؟ وهل يمكن للمحلل النفسي أن يدس أنفه في هذا الحقل العلمي الذي قد يبدو للكثيرين من أبعد الحقول عن دائرة عمل المحلل النفسي وغير متوافق مع أدواته؟
بغض النظر عن اختلاف الإجابات المتوقع عن هذا السؤال بحسب اختلاف مدارس واتجاهات المجيبين، فقد تصدى مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد لهذه المهمة مرارا وتكرارا؛ وحاول أن يعيد كتابة سير بعض الشخصيات الأدبية والفنية والسياسية والميثولوجية من زاوية نفسية، وخصوصا بأدوات التحليل النفسي. لقد فعل هذا في دراسته لشخصية الأديب الروسي الشهير فيدور ديستويفسكي، ودراسته لشخصية الرسام الإيطالي القديم ليوناردو دافنشي، ودراسته لشخصية الرئيس الأميركي وودرو ولسون ولدور هذا الأخير في عقد معاهدة صلح بريست في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ودراسته عن النبي موسى التي توصل من خلالها إلى بعض الاقتراحات التاريخية المغايرة في هذا المجال. ولا شك أن دراسات فرويد، هذه وسواها، قد ألقت إضاءة مفيدة ومن زاوية مختلفة على بعض الأحداث والشخصيات التاريخية البارزة. بيد أن إقراري بأهمية تلك الدراسات لا يعني أنني أوافق تماما على الأطروحات الأساسية التي استند إليها فرويد في فهمه لحركة التاريخ ولسيرورة الحضارة البشرية، وخصوصا فكرته التي ملخصها أن الحضارة البشرية تأسست على كبت الدوافع الإنسانية العدوانية المتمحورة حول الدافع الجنسي. حيث يؤدي الكبت، إلى التسامي، والتسامي يودي إلى توليد الانجازات الحضارية، ولكن هذه العملية بمجملها تؤدي من ناحية أخرى إلى حالة عصاب إنساني شامل، وكلما تقدم الإنسان باتجاه الحضارة كانت حدة العصاب أشد. ولكنني من ناحية أخرى لست مع الرفض المطلق لمنهج فرويد أو لأي منهج علمي آخر لمجرد أن مكتشفه أو بعض أتباعه توصلوا من خلاله لبعض الاستنتاجات الخاطئة أو غير الدقيقة أو التي تعاني من بعض النواقص والعيوب. وفيما يتعلق بمنهج فرويد تحديدا، فقد برهن العديد من أتباعه المعاصرين له أو اللاحقين به أنه قابل للاستخدام بصورة مغايرة تماما لتلك التي استخدمه فرويد بها، وأنه يمكن التوصل بواسطته أيضا لاستنتاجات مختلفة بصورة جذرية عن تلك التي توصل لها فرويد. ففرويد، من دون شك، شق طريقا كان مجهولا قبله، وهو عندما سار فيه لم يجد بطبيعة الحال أية علامات أو إشارات تقوده إلى الأماكن التي يرغب بالوصول إليها، ولذلك فقد حاول أن يعتمد على حواسه وتجربته الحياتية والعملية وتأملاته في الحياة الاجتماعية من حوله خصوصا واقع الحياة النفسية المرضية لبرجوازية فيينا في مرحلة أفول الإمبراطورية النمساوية الهنغارية وتأملاته في الأدب والفن والأسطورة والأحلام وجوانب مختلفة من النشاط الإنساني، محاولا أن يجد، بواسطة هذه كلها، العلامات والإشارات التي ترشده إلى الطريق الصحيح. وعندما وجد طريقه الخاص لم يكتف بهذا، بل حاول أن يفيد الآخرين الآتين بعده للسير على الطريق نفسه، فوضع لهم بعض العلامات والإشارات التي تساعدهم وتسهل الأمر عليهم. وقد استفاد هؤلاء من الجهد المهم الذي بذله فرويد ومن الكثير من المعارف والمعلومات التي قدمها آخرون وقدمتها الحياة وقدمها التطور العلمي والتكنولوجي فيما بعد، فبادر العديد منهم إلى استبدال علامات أخرى من عنده رأى أنها أكثر دقة وصوابا في الإيصال إلى الأهداف العلمية المطلوبة، ببعض تلك العلامات أو معظمها.
على أية حال، ليس غريبا على فرويد أن يهتم خصوصا بالسياسة وبتاريخ الأحداث والشخصيات السياسية؛ فهو كان أصلا قد جعل من مذهبه في علم النفس حركة؛ إذ أسماه حركة التحليل النفسي، وجعل لهذه الحركة جمعية دولية الأخوية الدولية للتحليل النفسي لها مؤتمراتها ومداولاتها وانتخاباتها وإدارتها المنبثقة من هذه المؤتمرات بناء على تزكية الزعيم فرويد، أو المعلم، كما كان يسميه مريدوه وأتباعه. ولذلك، فمثل أي حركة سياسية عانت مدرسة التحليل النفسي من الانشقاقات والتمردات، ووقع على المنشقين عنها سخط الزعيم المعلم، ومثلما يفعل أي زعيم سياسي في مثل هذه الحالة أصدر المعلم أوامره وتعليماته بفصلهم وإقصائهم وحرمانهم من رعايته وتبريكاته.
وفي تحليل إريك فروم، أحد أبرز تلاميذ فرويد اللاحقين، لشخصية معلمه، يلقي ضوءا على هذا البعد المهم من أبعاد تلك الشخصية المركبة، كما إنه يرى أن هذا البعد من ناحية أخرى إنما هو أيضا ملمح أساسي من ملامح مدرسة التحليل النفسي بوجه عام، ذلك لأن فرويد -كما يوضح فروم- كان ينظر إلى هذه المدرسة ليس بوصفها فقط صاحبة منهج علمي في مجال علم النفس، بل أيضا بوصفها حركة إصلاحية دولية. وعلى هذا الأساس فقد سمى الجمعية المنبثقة عن هذه الحركة الأخوية الدولية للتحليل النفسي، وكان يحرص على أن لا تظل عضويتها محصورة بأبناء بلده من علماء النفس النمساويين. ويكشف فروم أيضا في دراسته لشخصية معلمه عن بعض المؤشرات القديمة للميل السياسي العميق لدى المعلم؛ ومن ذلك تقمص فرويد لبعض الشخصيات التاريخية المهمة.. القائد الفينيقي الشهير هاني بعل، على سبيل المثال، وبعض الرموز والشخصيات السياسية البارزة في زمن فرويد نفسه.
لقد ساد المنهج المادي التاريخي الذي جاء به ماركس في الدراسات التاريخية والسياسية والاجتماعية ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر ولا يزال تأثيره مستمرا. حيث كف الباحثون والدارسون الجادون في هذه الحقول جميعا عن النظر إلى التطورات التاريخية والسياسية والاجتماعية الأساسية بوصفها قائمة على التجاور والتتابع العشوائي، أو مبنية على الأهواء الشخصية للقادة العظام، أو انعكاس لأفكار إرادوية باهرة، أو أنها مبنية على سلسلة من المصادفات والمؤامرات؛ فأصبحوا يبحثون في الواقع المادي الاجتماعي الاقتصاديعن الروابط بينها وعن قوانين حركتها وعن العوامل المادية المؤثرة في تفاعلها وتطورها، وعن كيفية تجلي الضرورة في المصادفة والعام في الخاص.. الخ. وبغض النظر عن الخلافات المنهجية والسياسية والفكرية بين الباحثين والدارسين والمنحى الذي يوظفون فيه أبحاثهم ودراساتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتأثير هذا على مدى دقتهم واتجاهات أبحاثهم واستنتاجاتهم ومدى التزامهم بصرامة المنهج العلمي وكيفية استخدامهم له، إلا أنه بالمحصلة لم يعد هناك باحث أو دارس جاد يستطيع أن يتجاهل في أبحاثه ودراساته حقائق ومعطيات المنهج المادي التاريخي واكتشافات ماركس في مجال علم الاقتصاد.
ولكن بدا في الكثير من الأحيان أن ثمة نوعا من التزمت غير العلمي والتشدد الدوغمائي لدى البعض في استخدام هذا المنهج؛ وهنا ظهرت الاتجاهات الاقتصادوية على هامش هذا الاتجاه لتعطي العامل الاقتصادي أهمية مطلقة وتنظر إليه بوصفه العامل الوحيد المتحكم بالتغيرات الاجتماعية الاقتصادية، وتهمل ما عداه من العوامل. وكان هذا بخلاف ما توصل إليه ماركس، أصلا، من أن الاقتصاد عامل حاسم ولكنه ليس وحيدا. وفي السياق نفسه ظهرت أيضا الاتجاهات التي تعطي أهمية مطلقة للعامل الموضوعي وتهمل إلى حد بعيد العامل الذاتي، والاتجاهات التي تركز على دور الجموع الشعبية فقط وتغفل دور الفرد في صنع التاريخ، والاتجاهات التي ترى أنه بالإمكان دراسة المجتمع وفهمه علميا ولكن ليس من العلم الحديث عن بعض الآليات الداخلية لسلوك ومشاعر واتجاهات الفرد، والبحث فيها. وحجتها في ذلك أن الفرد هو أولا وأخيرا كائن اجتماعي. ومن هنا فقد كان هؤلاء يقدرون كثيرا علم الاجتماع ولكنهم لا ينظرون بصورة جدية إلى علم النفس؛ كأن هذا يمكن أن يكون بديلا لذاك وذاك بديلا لهذا!
هذه الفجوة حاول أن يردمها الفرويديون الجدد، وخصوصا الماركسيون منهم، كل من زاوية مختلفة. بل لقد خطا إريك فروم في هذا المجال خطوة كبيرة إلى الأمام من خلال سعيه للكشف عن بذور نظرية نفسية في بعض كتابات ماركس، وخصوصا الكتابات التي تنطوي على بعض جوانب اكتشافات ماركس في مجال الاستلاب السلعي، رغم أن الكثيرين ممن يرفضون التحليل النفسي يستندون إلى أطروحات ماركس ذات البعد الاجتماعي. بخلاف ذلك، حاول فروم أن يدمج البعد الفردي لدى فرويد بالبعد الاجتماعي لدى ماركس.
على أية حال، كاتب هذا المقال يعتقد منذ وقت بعيد أن موقف الرفض المطلق لمنهج التحليل النفسي ولاكتشافات فرويد في هذا المجال واكتشافات تلاميذه الذين اختلفوا معه، إنما هو موقف غير جدلي وغير علمي. وأعتقد، على العكس من ذلك، أنه يمكن، بل من الضروري، الاستفادة من هذه الأداة العلمية المهمة من خلال دمجها في إطار المنهج المادي التاريخي. حيث نتمكن عندئذ من استخدام منهج التحليل النفسي بنجاح لرؤية بعض المناطق المعتمة في الدراسات الإنسانية التي لا يستطيع المنهج المادي التاريخي أن يسلط الضوء عليها. إنها مناطق أشبه بالمنطقة الميتة في مرآة السيارة؛ فإذا لم نع وجودها، وإذا لم نلق نظرة جانبية فاحصة عليها عند انعطافنا أو استدارتنا، واعتمدنا فقط على ما تمدنا به المرآة من الصور، فقد تغيب عنا حقائق أساسية خطيرة في مسارنا المروري وتترتب على ذلك نتائج بالغة الخطورة.
ليس من الضروري أن يوافق المرء على مبالغة فرويد في أهمية ومركزية الدافع الجنسي ويأخذ بما بناه على هذه المبالغة من مفاهيم واستنتاجات. الأهم بنظري هو ما توصل إليه فرويد من أن واقع حياة الإنسان ومحيطة ونوعية ردود فعله تجاه المؤثرات المختلفة، كلها تنعكس بعمق على عملية بناء وتطور شخصيته ويتأسس بناء عليها عالم داخلي شعوري ولاشعوري معقد وغني وله خصوصيته. ولا نستطيع أن نفهم الإنسان الفرد إذا لم نفهم خصائص وآليات هذا العالم الداخلي.
ويستطيع الباحث والدارس أن يستفيد أيضا من مدارس أخرى مختلفة في علم النفس.. مثل السلوكية والجشطلتية.. الخ، ويوظف أدواتها واكتشافاتها في حقول علمية مختلفة. ذلك لأن كل واحدة من هذه المدارس نظرت إلى الشخصية الإنسانية وإلى الواقع وحركته ومسار تطوره من زاوية معينة، تختلف عن الزاوية التي نظرت منها سواها، وركزت نظرها على بعد معين وأعطته عناية خاصة وألقت عليه إضاءة كاشفة لأدق تفاصيله وتشعباته وارتباطاته؛ بحيث أننا إذا ما أردنا دراسة هذا البعد أو ذاك فسنحتاج حتما للاستعانة بما توصلت إليه المدرسة التي تخصصت بدراسته وتوصلت فيه إلى بعض الاكتشافات والاستنتاجات. ولكننا لا نستطيع أن نكون عشوائيين أو انتقائيين في هذا المجال وإلا أصبح عملنا بلا معنى وبلا جدوى. ما أميل إليه هنا هو التعامل مع هذه الأدوات العلمية الفرعية في إطار شمولية المنهج المادي التاريخي.
* كاتب أردني