في رواية «على فراش الموز»، لعبدالستار ناصر، التي اقتربت كثيرا من السيرة الذاتية، توقفت عند قوله «تساءلت حينها مع نفسي، كيف حصل نجيب محفوظ على كل تلك الشهرة والمجد، وهو الذي لم يعش ابدا، اي تجربة استثنائية، تستحق الذكر، وقلت: ان الدنيا حظوظ، مع انني احب نجيب محفوظ وجلست الى جانبه عشرات المرات في مقهى ريش وكذلك في كازينو قصر النيل، برغم انني على يقين لا نقاش فيه، ان الرجل لم يكن غير موظف مجتهد في دار الاهرام طوال حياته، والدليل انه هو نفسه لم يصدق بانه فاز بجائزة نوبل حين اخبروه بذلك، الحياة في اساسها تجارب، وحياة نجيب محفوظ محصورة بين الوظيفة والاصدقاء والحرافيش والعائلة، حتى انه لم يسافر طوال حياته الا مرة واحدة، فكيف افسر ذلك؟»
حتى لو افترضت، ان المقطع السالف، هو رأيي بنجيب محفوظ، فلست بصدد مناقشة هذا الرأي، وسأتوقف عند قضية السفر، واعرف ان عبدالستار ناصر، يولي السفر من الاهتمام، بحيث يظل حاضرا في معظم كتاباته، وفي حياته اليومية، لكن لا بد من توضيح، ان المواهب الكبيرة، تحول التجربة الذهنية الى تجربة ابداعية، وهذا ما فعله نجيب محفوظ في رواياته وقصصه، وان المواهب الضامرة لا ترى في تجربة السفر، اكثر من بعدها السياحي.
وليس نجيب محفوظ هو المبدع الوحيد، الذي لم يكن مولعا بالسفر، فديستوفسكي كان كذلك، والشاعر الاسباني فيثنته الكسندره، الحائز على جائز نوبل، ما كان السفر احد مصادر تجربته، وممن نعرف من الادباء العرب ممن يشترك مع هؤلاء في الحالة هذه، الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح والروائي المغربي محمد شكري والقاص العراقي محمد خضير الذي جعل من تجاربه الذهنية خصوصية ابداعية تقترن بكتاباته، فكانت ميزة لها.
ان السفر، او الاغتراب، وعلاقته بالابداع، امر لم يكن غائبا عن الحياة الثقافية ويختصر هذا الحضور، ابو تمام في بيته الشعري المعروف.
«وطول مقام المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فأغترب تتجدد»
اي انه كان يرى ان الاغتراب، يجدد حياة المرء وفكره، وان المكوث في مكان واحد وطول المقام فيه يجعل الحياة رثة، وكذلك فكر الانسان.
ان الاغتراب لغة، هو الابتعاد، والذهاب بعيدا، والتنحي عن الناس، ويقال: اغرب عن وجهي، اي ابتعد، والتغريب هو النفي عن البلد، ومن المفارقة ان شرق «بتشديد الراء» لا تنصرف الى مثل هذه المعاني، وتعني السير باتجاه الشرق. ثم دخلت مفردة الاستشراق في حياتنا الثقافية منذ قرنين بالمعنى الذي نعرف وهو دراسة الشرق والتخصص في معارفه وتاريخه وتحولاته الاجتماعية والسياسية.
ان موضوع الغربة والاغتراب، من اكثر المواضيع حضورا، ليس في النص الادبي حسب، وانما في بحوث الاجتماع والفلسفة والفنون، وعندي ان من مفاجأت المعنى، حين يتعلق الامر بالاغتراب، ما قاله الشاعر هادي دانيال:
«لقد اوفدتني بلادي
قبل نمو عظامي.. الى غابة الصخر»
فهادي دانيال، هنا، يطلق صرخة وجع، ضد اغتراب مبكر، لكن يكفي انه خرج منه بهذه التجربة.
اما القاصة انصاف قلعجي، فهي الاخرى، انتزعت من الاغتراب معنى موجعا، في قصة قصيرة بعنوان «الحب في مدار السرطان».. «انا سين من الناس، كل وجع النساء في، كل وجع الانسانية في».
اذ اكتشفت في الاكروبوليس. حيث ليل الاغريق، وفينوس التي تغادر التمثال الى الشارع، ان «الوهج كبير، اكبر من هذا الجسد الضئيل»، وحين سألتها يوما عن السفر والابداع، اجابت: «ان اهميته تأتي من الكيفية التي تختزن بها التجربة، وليس من اهمية للسفر، ان كان سيأتي بتجربة ضحلة، ان المغترب، يرى المقاهي والشوارع والناس، وطالما كان الماضي معه وفي اهابه، وتكون الشرارة، في محاولة الابتعاد عن موجات الغربة».
اما الناقد طراد الكبيسي، فهو ممن يقولون باهمية السفر في اغناء تجربة الانسان «قيل، ليس من رأى كمن سمع، وقيل هو الذي رأى، بعد ان سلك طرقا بعيدة، فالاغتراب يعني الترحال واكتشاف الآخر والعالم، بل اكتشاف المرء نفسه ايضا، وفي السفر يتجدد لفكر والمخيلة والنظر وتنشط الذاكرة، وتشكل متاحف الآثار ومتاحف الفنون، بل والاسواق والعمارة، ثقافة ومعرفة قد لا يحصل عليها في كتاب او صحيفة».
في بداياتنا الستينية، حيث كنا نظن ان قصائدنا ستغير العالم، وكان فوزي كريم، الاكثر حلما بالرحيل، قلت له يوما، ونحن في مقهى البرلمان بشارع الرشيد في بغداد، مازحا، عليك بالسفر داخلك، فاجابني جادا: لقد تعبت من السفر داخل نفسي.
واخيرا، كنت اقرأ كتيبا بعنوان «في ضيافة هنري ميلر» وهو حوار طويل اجراه الكاتب بسكال فريبوس، حيث يقول ميلر: «انا اسافر في داخلي، يمكنني ان اكون في الصين، في التبت، في باريس، اسافر داخل رأسي، وهذا اكثر غنى واقل ارهاقا».
ومما لا انساه في الحديث عن السفر، ما سمعته من المثقفة العراقية لمعان البكري، هي ذات الغمازتين وواحدة من النساء السبع، اللواتي قال عنهم السياب:
«احبيني.. فمن احببت قبلك ما احبوني
ولا عطفوا علي.. عشقت سبعا»
يومها كنت بمطار بغداد، في الطريق الى اسبانيا، اذ قالت لي: عش الحياة هناك، ولا تشغل نفسك بالقراءة، حينذاك ستتغير فيك اشياء كثيرة، حتى ملابسك، ولم ادرك لحظتها، ما كانت ترمي اليه، بل احسست بشيء من الانزعاج، لكن حين عشت حياتي هناك بعمق، تغيرت اشياء كثيرة عندي، وظهر ذلك جليا في كتاباتي الشعرية، على صعيد الموضوع، وما ترك الموضوع الجديد من متغيرات على اللغة، حتى ان معظم النقاد، اشاروا الى مرحلتين لكل منهما مقوماتها وسماتها، ما قبل الرحلة الاندلسية وما بعدها.
لكن، ليس التجدد نتيجة حتمية للسفر والاغتراب، فنجيب محفوظ الذي لم يسافر، كان الاكثر تجديدا بين كتاب الرواية العرب، وان آخرين ما قر بهم قرار، ولكن تجاربهم في الكتابة الابداعية ظلت اسيرة الاعادة والتكرار والتقليد.
* شاعر عراقي مقيم في عمان