عندما كانت السفينة تمخر ضباب السماء ومضيق البسفور كانت تترك وراءها ذكرى «سنوات الورد» التي سميت على اسم السلطان أحمد الثالث الذي أوقف الحروب وزرع بيوتات استنبول بالورد، وأقام الحفلات والأفراح ثلاثين عاما متواصلة على ضفاف البحر قبل أن تعود تركيا إلى الحروب مجددا، والغريب أن الشعب نفسه مل من سنوات الهناء والدعة واختار الحرب والصدام، كأن الانسان يسعى وراء عوامل الدمار لا عوامل الاستقرار.
انتقلنا لصعود الجبال وصولا إلى «بورصة» أبعد النقاط عن سطح البحر صاعدين في عربة «التل فريك» ما يقارب 1500 متر عن سطح البحر فوق غابات من الكستناء والصنوبر داخلين إلى لوحة من خلق الخالق لا يشبه جمالها جمال، بعد أن تركنا خلفنا المدينة الصناعية التي تشبه قرية ولم يبق منها في الذهن إلا خيالات المواطنين، أولئك الذين لا يبدو أن لهم علاقة تذكر بأجواء السياحة التي تمر من مدينتهم الصناعية الصغيرة، والتي تنتهي إلى أشهر منتجعات التزلج على الجليد، ويزورها سنويا أثرى أغنياء العالم ليستجموا في ثلجها أو مياهها المعدنية، في أقدم حمام تركي تركه العثمانيون مدموغا ب«الطغرة»، وهي ختم السلطان الذي أنشأه ليستمر عطاؤه حتى يومنا هذا في منطقة خلابة مذهلة تتعدد فيها الحنفيات التي تشكل ثراثا تركيا اسلاميا مهما، والتي تمنح المارين الماء وشرابا حلوا في الأعياد والمناسبات الدينية كشهر رمضان مثلا. أما في المدينة حيث المواطنين انفسهم، فيمكن أن ترى وجوه الصبايا اللواتي يقفن بانتظار الحافلات وقد ارتدين الحجاب، يذكرنني بفتيات «قارص» اللواتي كتب عنهن أورهان باموق وسماهن «فتيات الايشاربات»، ليكن رمزا لذلك الصراع الخفي بين المتعصبين والعلمانيين. وتعكس ملامح البورصيات ووجوههن قلقهن وهن يحترن بين تعليمات أسرية ودينية تفرض الحجاب من جهة، وتعليمات رسمية سياسية تطالبهن بخلعه من جهة أخرى. وبدا كما لو أن شقاءهن يتصاعد ونحن نصعد فوق الجبال التي يتحول لونها كل دقيقة لتمتلئ أرواحنا وذاكرتنا بخمسمائة لون تتدرج وتتمازج بين الأخضر والأصفر والأحمر، مخلفين وراءنا مدينة تبدو على بيوتاتها ملامح الفقر والحياة الأصعب رغم الوقوع في منطقة منتجة كهذه، لا أعرف لماذا تذكرت حينها مواطني جرش الذين لا يعرفون من المهرجان السياحي إلا اسمه.
في الجنة المعلقة فوق قمة الجبل تنسلخ من ترهات الحياة، ولكنك وبإرادتك تعاود الهبوط إليها مستخدما الوسيلة نفسها (التل فريك). وأثناء الهبوط تمر بمسجد «بورصة» الذي يزهو بعشرين قبة، هي ما تبقى من احلام سلطان أراد قبة من ذهب، وأشفق المهندس على الخزينة من هذا الإسراف، فاحتال بتعدد القباب مدعيا أنه فهم أوامر السلطان مغلوطة، فعدد القباب ولم يذهبها!
«بورصة» الفقيرة التي تغفو في أحضان أجمل المناظر التي يمكن رؤيتها، وتكتظ بأهم مصانع النسيج والجلود، وتغالب فقرها ولا تغلبه، لم يمنعها واقعها من أن تكون الاولى في صناعة أحلى ما يتعرف إليه السائح: «الراحة» التركية، أو الحلقوم الشهير الممزوج باللوز والفستق والجوز، وكأن الهم الأول لأناس يعيشون الظرف الأصعب هو أن يحلوا مرارة أيامهم، ويتركوا للزائر تلك الحلاوة ذكرى لا تختفي وهو يبتعد عن مدينة الثلج والكستناء.
* كاتبة أردنية