أن يكون للفكر تاريخ مستقل نسبيا فهذا مما لا جدال فيه، كما إنه لا جدال في أن الأفكار تنتقل من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى آخر. ولا يخالجنا الشك أبدا في أن هناك منطقا خاصا بتطور الفكر وعملية الانتقال هذه. لكنا نعتقد أن النظر الى تاريخ الافكار وتطورها كعملية توالد ذاتي، وبالتالي اعتبار أن الفكر اللاحق يفسر بالسابق عليه، أمر لا يمكن أن يكون مقنعا.
أما وجه الاعتراض هنا، فيتم من موقع النظر الى أن طرح المسألة مسألة العلاقة بين فكر سابق وفكر لاحق في إطار العلاقة السببية الميكانيكية (أي أن هذا الفكر ولد ذاك)، يقضي على إمكانية اكتشاف العلاقة الحقيقية التي تربط فكرين أو الفكر في عصرين متتاليين، يقضي على الجدل الحقيقي للسيرورة التاريخية كجدل تواصل وانقطاع في آن واحد. وكما يقول طيب تيزيني من أن الانطلاقة تأتي من منطلق منهجي مبدئي مؤسس على «أن الفكر يتضمن ليس فقط ميلا لأن يكون مستقلا تجاه الواقع المادي... إنما يحتوي أيضا وبعلاقة عضوية، مع ميله ذاك، ارتباطا انطولوجيا بهذا الواقع. وبذلك فهو يحتوي في آن واحد استمرارية ولااستمرارية، اتصالا وانقطاعا. إنه يجسد على هذا النحو، آفاقا متموضعة نهائية (تاريخية) وأخرى لانهائية (تراثية)».
إلا أن ما يجب التنويه والاهتمام المبدئي به، في هذا الخصوص، هو أننا إذ نعلن هذه الانطلاقة، إنما نعلنها، بتعبير تيزيني، من موقع التمثل الجدلي التاريخي التراثي للواقع الاجتماعي المادي ذاته، ذلك أن «لحظتي الاستمرارية، واللااستمرارية في الفكر، هما في الخطوة الاخيرة في التحليل الاجتماعي الميداني، تكثيف معقد وغير مباشر، أي ذو صيغة لآفاق التحرك في ذلك الواقع الاجتماعي المادي».
هذه المسألة، يمكن توضيحها، في أنها ترتكز الى المقولة التاريخية التراثية التالية: تلك هي أن البشر إذ يقدمون على أنسنة محيطهم الطبيعي والاجتماعي، يجدون انفسهم أمام موروث من العلاقات الانتاجية والمنجزات التقنية والافكار السياسية والأخلاقية والعلمية «متكونة قبلهم وبصورة مستقلة عنهم، وعلى ذلك فهم يجدون أنفسهم مرغمين على الانطلاق من واقع هذا الموروث محتفظين في هذا السياق ببعض عناصره، أو معتدلين فيه عموما، والمهم في الأمر هو انهم لا يستطيعون الانطلاق من الصفر. فبما أن كل جيل جديد يجد أمامه قوى انتاجية مكتسبة من قبل الجيل الماضي، فإن هذه القوى الانتاجية، تلعب دور المادة الخام لانتاجه الجديد، وهذه العملية تقيم ترابطا في التاريخ الانساني، بل وتشكل تاريخ البشرية».
إلا أن تاريخ التقدم البشري في المجالات المختلفة، لم يكن عنصرا تدريجيا متصلا، بل تطور تحققه على مراحل متعاقبة تتسم فيها كل مرحلة بسمات خاصة، وتتحكم بها قوانين خاصة، وثمة قفزة تحدث لدى الانتقال من مرحلة الى أخرى، تقطع السير التدريجي البطيء للنمو التاريخي المتصل، مما يسمح بالحديث عن تحول ثوري، تتسارع فيه على نحو غير مألوف خطوات التطور. إن التاريخ البشري يتم وفق جدل النمو والثورة، الاتصال والانقطاع، بأنه عملية انتاج المجتمع، وإعادة انتاجه تتم دائما في إطار شكل تاريخي أرقى. أو بعبارة أدق من تشكيلة اقتصادية للمجتمع الى تشكيلة أخرى. وليس تاريخ البشرية ككل سوى مسار نشوء هذه التشكيلات وازدهارها وانحلالها، مسار تعاقب التشكيلات الاجتماعية على أساس التطور المتعاظم للقوى المنتجة.
والأمر أكثر تعقيدا هو أن يجرى الحديث حول التعاقب في الحياة الفكرية والروحية للمجتمع حسب حسين مروة. فالعلاقات المادية في المجتمع، لا تحدد بشكل مباشر مضمون حياته الروحية، فمهما كانت التغييرات الاجتماعية راديكالية، فإنها لا تخلو من بصمات الماضي، بل إن كل جيل جديد من الاجيال البشرية، يجد نفسه امام مجموعة من المعارف والأيديولوجيات، تطورت قبله وبصورة مستقلة عنه، أي أن «كل جيل جديد تسلم كمية معينة من الافكار، التي تكونت في أجيال متعاقبة، على نحو مستقل عن رغبته وتأثيره، لذلك لا نعد هذه المنجزات الفكرية التي يجدها الجيل الجديد جاهزة أمامه من الماضي انعكاسات للمثل الذي تكونه الظروف المادية القائمة في حاضر هذا الجيل».
إلا أن المسألة لا تنحصر بضرورة التسليم بهذا المبدأ أو الغرض، كشرط من شروط تطور المعرفة الانسانية بشكل عام، إنما هي أيضا مسألة رفض من منظور الجدلية التاريخية التراثية نفسها، لكل محاولة بسيطة ميكانيكية ترى أن بإمكانها أو من واجبها تفسير معرفة لاحقة بمعرفة سابقة دون توسط للعامل التاريخي.
ولعل ما يمكن الاعتراض به هنا -مبدئيا على الأقل- هو أن الظواهر الفكرية والايديولوجية «الموروثة» لا تفهم بذاتها، رغم استقلاليتها النسبية، «ولا بما يسمى تراثيا الفكر والمعرفة، بل بما لها من تأهيل مباشر وغير مباشر في الأوضاع المادية الجديدة بنية ووظيفة، والصورة الخارجية لآلية استقبال عصر لمنجزات عصر سابق عليه، تدل فيما لا يدع مجالا للشك أن القوى الاجتماعية قوى الحاضر، ولا تحدد فقط المطلوب من الماضي، لانجاز مهام المستقبل حسب، بل تحدد ذلك الجزء من الماضي المطلوب استعادته لتحقيق مثل هذه المهام. وهكذا تنتصب الخيارات أمام الفكر المعاصر، خيارات استعادة الماضي، في صورة استمرار وفي صورة قطيعة، دون أن يعني ذلك استمرار مطلق أو قطيعة مطلقة.
لسنا هنا طبعا في صدد البحث في علاقة الفكر بالواقع بكل تعقيداتها، وتعدد تجلياتها، إنما حسبنا هنا التأكيد على تاريخية الفكر والمعرفة، فالقيمة لفكر عصر من العصور لا تتحدد بجملة الحقائق التي يرثها من عصر سابق عليه حسب، بل بالقدرة على امتحان تلك الحقائق والانطلاق منها الى المعرفة بصورة أعمق وأشمل تتناسب وحركة التاريخ الاجتماعي الاقتصادي والمناخ الثقافي القومي والعالمي.
ولعل ما سبق ذكره يصح تطبيقه بشكل عام، على علاقة الفكر العربي المعاصر، بالفكر العربي النهضوي، فإذا كان صحيحا وهذا ما يجب تأكيده أن الفكر العربي قد وجد في فكر النهضة، مقدمته التاريخية المعرفية والأيديولوجية، وبالتالي عناصر الاستمرارية فيه، فإن هذا لا يعني أن فكر النهضة وحده، قادر على تفسير نشأة وتطور الفكر العربي المعاصر، ومن ثم على اسباب نجاحاته، وإخفاقاته في تناول مشكلاتنا المعاصرة.
ومن هنا لا نجد ما يدفعنا للموافقة على الرأي الذي يقول إن الفكر العربي المعاصر، ليس إلا مادة مكررة بلغة معاصرة لفكر النهضة. وإن أزمة هذا الأخير هي ازمة الأول. ولا يجب أن تفاجئنا هنا أطروحة بعض النقاد المعرفية التي تنبعث من منطلق منهجي بنياني، عن ثوابت معرفية يفسر بها تاريخ الفكر العربي، ولا تفسر هي بتاريخية هذا الفكر. نقول لا يجب ان تفاجئنا هذه الاطروحة. ذلك أن العلاقة بين الفكر العربي المعاصر والفكر العربي النهضوي، شأنها شأن أية علاقة بين فكر سابق وفكر لاحق، علاقة جدلية تابعة في آخر الأمر لصراع أعمق اجتماعي وسياسي، أي إنها ليست علاقة فكرية خالصة. بعبارة أخرى أن الافكار لا تتعارض وتتصارع بسبب مشكلتي حداثتها وتقليديتها، بل بفعل مضمونها الاجتماعي والسياسي والايديولوجي، وهذا يحدث لسبب هو أن الجماهير تتطلع الى حياة افضل، وهي لا تستطيع لفترة طويلة أن تعبر عن تطلعها هذا إلا في إطار الفكر التقليدي وبإدخالها التمايز والتأويلات الجديدة عليه. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يغدو من الخطأ النظر إلى الأفكار بمعزل عن بعدها الاجتماعي والايديولوجي، أي دون اعتبار للعلاقة بين المعرفي والايديولوجي ومعالجة هذه العلاقة معالجة جدلية تاريخية.
ولعل طرح المسألة على هذا النحو، يدفعنا إلى القول، إنه لا سبيل إلى قراءة واعية للفكر العربي المعاصر إلا بصياغة أولية لمجاله التاريخي وللأرضية الاجتماعية التي اتخذت هذا المجال بالذات.
يشير الفكر العربي في عصر النهضة إلى أن هذه النهضة، كانت في جوهرها تعبيرا عن اكتشاف العرب واقع التخلف، وعلاقته بالركود الاقطاعي بهيمنة الدولة العثمانية والمصالح الاستعمارية وبالتكريس الديني للجمود التاريخي. كما يشير إلى أن هذه النهضة جسدت من حيث الاساس التحرك الاجتماعي البورجوازي والقومي العربي الحديث، الذي بدأ يفصح عن نفسه مع بدايات تفكك جهاز الدولة العثمانية الاقطاعي، ودخول العلاقات الرأسمالية الى قلب التشكيلة الاقتصادية الاقطاعية السائدة.
وهذا ما يوضح أن هذه النهضة الفكرية، اتخذت في البداية طابع حركة اصلاح ديني غلب عليها تدريجيا، الاتجاه البورجوازي العقلاني الذي استمر ينمو الى حد بعيد في إطار الدعوة الاصولية السلفية ولغتها، إلا أنه تطلع في حالات معينة الى افساح المجال للقيام بنشاط تنويري. وقدمت من خلال ذلك قراءة جديدة حيث ميزت هذه الحركة الاسلام الاول من الاسلام المتأخر الجامد. وقدمت من خلال ذلك قراءة جديدة للإسلام، استقت منها الاوساط العلمية والقوى الاجتماعية المتطلعة الى التقدم حلا مهما لمسألة التراث، يعد على الصعيد الفكري أول أشكال علاقة الأصالة بالحداثة، والشرق بأوروبا، وأحد أهم اشكال مواجهة مهمات الحاضر ومخاطره. إن اشتداد وعي التخلف ووعي ضرورة مجابهة الركود والأخطار الجديدة، قد فرض هذه القراءة الجديدة الطموحة للإسلام، والعودة الى روحه الأولى، عودة تخدم انجاز مهمات الحاضر (الاصلاح والاستقرار والتحديث). أما النزعات العلموية والتحديثية التي خرجت نهائيا عن الفكر الديني التقليدي، ودعت الى القطيعة التامة معه فلم تنجح بصرف النظر عن مضامينها المعرفية التنويرية في الاسهام اسهاما كبيرا في حل هذه المهمات، وقد ظلت لمدة طويلة محدودة التأثير في الحياة الفكرية العربية، ولم يقيض لها أن تقوم بدور إيجابي على الصعيد هذا، إلا بعد أن حلت الحركة القومية في المشرق العربي في الفترة ما بين الحربين محل الاصلاح الديني بوصفها استمرارا مباشرا له، وغدا مطلب العلمنة جزءا من البرنامج القومي الساعي الى بناء الدولة القومية الحديثة.
وعلى هذا الاساس يمكن القول إن السيطرة النسبية للرؤية القومية العلمانية، وشيوع الافكار التحديثية (الليبرالية) والاشتراكية، في هذه الفترة خطوة نوعية في معالجة التراث وتحديات العصر أملتها عوامل موضوعية أهمها: أولا، التحولات الجديدة التي عرفتها الحركة الوطنية والقومية بعد الحرب العالمية الأولى؛ ثانيا، تعزيز مكانة البورجوازية الاكثر تقدما واستنارة في قيادة هذه الحركة، سواء في النضال من اجل الاستقلال السياسي، أو في السعي إلى دفع العلاقات الرأسمالية إلى الأمام، وتقويض النفوذ الاقطاعي ومؤسساته التقليدية؛ ثالثا، تعاظم انفتاح المثقفين العرب على روافد الفكر العقلاني الليبرالي والأفكار الاجتماعية العالمية، خصوصا بعد انتصار الثورة الاشتراكية العام 1917 في روسيا، وهذا العامل التاريخي، كان مترافقا مع انتشار التعليم الحديث والمدارس الاجنبية، ونشوء طبقة من المثقفين الحديثين، من قضاة واداريين وحقوقيين ومعلمين، من أوساط الناس، ومن أبناء السادة، وانتقال الكثير منهم إلى الغرب للتعليم والاطلاع، واتصالهم بمدارس الفكر الغربية الجديدة في مصادرها، واكتشافهم معطيات هذه الحضارة، وما تتضمنه من اسباب العظمة ومن إمكانات النمو والتطور. وقد تم ذلك على يد مجموعة من المثقفين الليبراليين المستنيرين. وآخرين اشتراكيين ثوريين في نطاق البورجوازية المتوسطة بشكل خاص.
ما يهمنا أن ننوه إليه هنا أن فترة ما بين الحربين، كانت فترة صياغة جديدة، أرقى لشعارات النهضة وتحولها الى مشروع سياسي واجتماعي لحركة وطنية تحريرية، اخذت في الاتساع، من خلال انضواء فئات وطبقات اجتماعية جديدة تحت لوائها، اضفت عليها شيئا فشيئا طابعا شعبيا، حيث كانت هذه الحركة، رد فعل وانعكاسا لدخول الاستعمار مرحلة الامبريالية الاستثمارية، وتسلطه الواسع والعميق على مقدرات البلاد وارادتها وسلتطها، واقتصادها وثقافتها وادارتها ومصيرها، ورد فعل كذلك على فشل الاصلاح الديني، الذي قاده جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان، والعودة الى التراث في مواجهة هذه الهجمة، الغربية المتسلطة والاستعبادية.
إن هذه الفترة التي مر بها الوطن العربي، تختلف عن أية مرحلة سابقة تعرض لها، فقد أدرك العرب ان ما يتعرضون له، ليس هجمة عسكرية وتفوقا بسبب العدد والسلاح الغربي فقط، بل هو أيضا تفوق حضاري أصيل، ذو معطيات حضارية جديدة ومتجددة معا، مستندة الى العلم والى التنظيم والى الديمقراطية، ثم إلى الإدارة الحربية والصناعية والسياسية التي خلقها تضافر هذه العوامل، وأدرك التراث وحده، ومجرد إعادة النظر فيه ليس بإمكانه أن يقف أمام هذه الهجمة الحضارية الضخمة متجاهلا كل معطياتها وكل اسباب تفوقها.
كما إن هذه الفترة كانت مترافقة مع تغيرات اجتماعية وسكانية واقتصادية هائلة، حدثت في البلاد العربية، نتيجة حاجات الاستعمار الأمبريالي وتأثيراته، وبسبب زيادة اهمية المدن في التركيب الاجتماعي، سواء في القطاع الصناعي أو الخدمي أو التجارة البسيطة الذي أدى الى تكوين «معظم كوادر الطبقة العاملة في المدن العربية من الفلاحين المهاجرين من الجور وانعدام العمل في الريف، وسقوط سيطرة الريف المعتادة في البلدان العربية».
إن بدء نشوء طبقة جديدة في المدن، وهجرة كثير من ابناء الريف إلى المدن وفسح المجال أمامهم للدخول «في المدارس التي أسستها الدولة» جعلهم، حسب وليد قزيها «يلعبون تدريجيا دورا سياسيا واجتماعيا مهما في المنطقة من خلال عملهم في أجهزة الدولة، كما ان توسع الطبقة الوسطى ودخولها شؤون الحياة في التجارة الداخلية، والمناصب الادارية، ثم تغير وضع الفلاحين بالنسبة لعلاقتهم مع صاحب الأرض، وبقاءهم معلقين في فراغ اجتماعي، حيث تحول الاقطاع في المجتمع الجديد إلى علاقة اقتصادية محض، وقطاع رأسمالي، اصبح فيه السادة للأرض مجرد ملاك، والفلاحون مجرد أجراء، أدى الى تخلخل النظام الاجتماعي القديم -وعلى نحو كامل-، وبدأ في التكوين مجتمع تسيطر فيه المدينة.
هذا التغير الاجتماعي العميق ادى بنظر «قزيها» الى ازدياد البؤس والحرمان والفقر في الطبقات العاملة من الشعب. ولذلك فقد أتاحت هذه الفرصة، والتي نشأت خلالها الطبقة المتوسطة المؤلفة من المثقفين وصغار التجار والموظفين والعاملين في قطاع الخدمات والصناعة، للطبقة الوسطى، من أن تقود الحركة الوطنية التحررية. فانتهجت نهجا مختلفا عن الطبقتين البورجوازية والاقطاعية في كسب الجماهير الشعبية الى جانبها، فنادت بعدم فصل النضال السياسي عن النضال الاجتماعي، «وساد اتفاق في التحليلات الاجتماعية أن الطبيعة الطبقية للحركة القومية المعاصرة هي العنصر المؤثر في مجراها».
إن عدم مقدرة البرجوازية العربية، التي قادت الحركة الوطنية، عن تحقيق مشروعها في التحديث وفي الدفاع عن الديمقراطية والعلمانية، الذي سعت إليه، يعود في الأساس الى الشروط الاجتماعية التاريخية في تطورها. فمن المعروف أن تطور العلاقات الرأسمالية في الوطن العربي، قد جرى وما يزال يجري، تحت تأثير حاسم وتدخل كبير من قبل النظام الرأسمالي العالمي، «فانطلاقا من أحد قوانين الامبريالية، وهو إعادة بناء العالم الآخر (اللارأسمالي) وفق حاجاتها الاقتصادية، والايديولوجية وغيرها، فقد تحتم على الوطن العربي، وهو جزء من هذا العالم الآخر، أن يخضع لعملية اعادة البناء تلك، أي الإستسلام لقانونية عالمية الامبريالية. وهكذا فقد نشأت علاقة غير متكافئة بين البورجوازية العربية الناشئة، وبورجوازية المركز الرأسمالي الإمبريالي، وهي علاقة تبعية، وبسبب هذه العلاقة اللامتكافئة، فقدت البورجوازية العربية، امكانية تحولها إلى طبقة تقدمية صاعدة قادرة على حمل أعباء التنوير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمع العربي.
وعلى هذا ظلت هذه الطبقة تدور، رغم شعاراتها المناهضة للامبريالية والاقطاع، في أسر هاتين القوتين، فهي من جهة (أي البرجوازية العربية) ليست مهيمنة بذاتها، بل بتعبيتها للبورجوازية الاوروبية، وهي من جهة اخرى وبسبب تلك التعبية، لم يكن لها سوى دور «الوسيط» في نظام انتاج رأسمالي تابع، لا يتطلب بالضرورة صراعا مصيريا مع القوى الاجتماعية المسيطرة في النظام القديم، أي الاقطاعي، لذلك فإن البورجوازية في موقعها كطبقة مسيطرة وتابعة في آن واحد، لم تجد بدا والحديث يدور هنا بشكل خاص حول الشرائح العليا لهذه الطبقة من أن تنتهي الى حيث تمكث الامبريالية والاقطاع.
فقد خلف الاستعمار وراءه، حين رحل عن البلاد العربية، مجتمعات، لا هي مجتمعات قديمة قادرة على انتاج الكفاية الاقتصادية، ولا هي مجتمعات حديثة قائمة على الآلة والمصنع والزراعة الممكننة والانتاج المكثف. انما ترك بتعبير منيف الرزاز، مجتمعات متخلفة في معظم جوانبها، وجزرا متقدمة صناعية أو تعدينية أو زراعية أو تجارية أو مالية، حديثة الادارة والاسلوب، ولكن تابعة للاقتصاد الغربي، مرتبطة بخدمته، ممولة بالمواد الخام، مستوردة منه منتوجاته المصنعة، وهو فوق ذلك محصور ضمن طبقة محدودة، انتعش اقتصادها بدل ان ينتعش اقتصاد البلاد على حساب الاكثرية.
ومن هنا، وبحكم هذا التطور الهجين، وجدت البورجوازية العربية نفسها، وبعد الاستقلال مباشرة في مواجهة طبقية ايديولوجية مع الفئات الوسطى، ذلك أن التغييرات الاقتصادية التي فرضها الاستعمار على المجتمعات العربية المستقلة، وانهيار الاقطاع بالمعنى التاريخي، وبروز دولة حديثة على شاكلة الدول الغربية، كان لا بد أن يرافقها تغييرات في العلاقات الاجتماعية وفي القيم الثقافية والخلقية السائدة. والعلم القديم لم يعد يفي بمقتضيات الحياة الجديدة ومتطلباتها. والعلاقات العائلية، والقبلية، والطبقية، والطائفية والمذهبية، بدأت تنهار فعلا أمام علاقات الانتاج الجديدة، وما رافقها من تغييرات قانونية وإدارية. وتوسعت دائرة التعليم كحاجة ضرورية للدولة (الأمن والجيش)، ونمت فئات المثقفين بعامة: «تعلمت ولمست ما يطرحه الغرب في بلاده، من مبادىء ديمقراطية، ومن شعارات في الحرية ومن فكر جديد وأدب جديد وعقل جديد». هذا كله جعل الفئة البيروقراطية في الدولة، في ظل كبت حرمها حقوقها، وسلب منها سلطتها، وجعل مصادر الثروة الأساسية في البلاد ملكا لغيرها.
وهنا لا بد من الاشارة الى أن هذه الفئات لا تشكل في الأساس اقتصاديا واجتماعيا، وحدة متجانسة، انها مجموعة من الفئات يتحدد موقعها في التركيب. فالبورجوازية الصغيرة المدينية والريفية (الحرفيون الصناع، صغار التجار، اصحاب المؤسسات الصغيرة، الفلاحون الصغار والمتوسطون) تشترك مع الرأسمالية بصيغة أساسية وهي حيازتها الملكية الخاصة، ولكنها لما كانت تعيش من عملها الخاص فإنها تشترك في ذلك مع طبقة العمال. أما المثقفون، فهم على خلاف البورجوازية الصغيرة يعيشون من ثمرة نشاطهم الفكري، أي أنهم يتقاضون أجرا كالعمال.
إن البورجوازية العربية الوطنية، التي وصلت الحكم إبان تحقيق الاستقلال النصف الثاني من هذا القرن، وما انكشف عنه من وهم وضياع، جعل المجتمعات العربية، تعيش حياة هجينة لا هي بالمجتمعات القديمة ولا هي بالمجتمعات الصناعية، وإنما مجتمعات تستعمل فيها الطبقة الحاكمة الجديدة المعطيات القديمة، حين ترى في العودة إليها مصلحة لها، والمعطيات الجديدة حين ترى فيها مصلحة لها. فالتحديث التي نادت به الدولة الوطنية بعد الاستقلال، لم يقد الى القضاء على الفقر، ولم يقد ما قدمته من فكر جديد، إلى تجاوز الثقافة الدينية، وإنتاج وتمييز ثقافة قومية جديدة تتجاوز الدين، بعد أن تستوعبه، بل الذي حصل على العكس من هذا، «في ظل التحديث تعاظم الافقار وترسخت علاقات التبعية، وتكدست ثروات في يد الفئات الطفيلية، وتدهور الانتاج، وتكدس نمط الاستهلاك البذخي، مقابل الفاقة والانسحاق لطبقات الشعب، وفي ظل فكرها الجديد هذا، استحالت الثقافة القومية الموروثة، على علاتها، ثقافة اقليمية طائفية فمذهبية عصبوية، قادت الى الانغلاق الفكري والتحجر والتكلس والانسداد».
أما الفكر الآخر الذي نما في ظل هذا الشرط التاريخي، المعبر طبقيا عن هذه الفئات الجديدة والذي هو فكر الفئات الوسطى العربية التي خلقتها البورجوازية، فقد اتخذ هذا الفكر صيغة معادية للرأسمالية ومعادية للبورجوازية وللإمبريالية بشكل عام، فإذا كان فكر النهضة العربية طرح بصورة أو بأخرى في خطابه، الاخوة والتحرر والعدالة، مستعيرا هذا الخطاب من ثورات الغرب البورجوازية فإن الفكر العربي المعاصر، سيطرت عليه شعارات الوحدة والقومية والحرية والاشتراكية، والتقدم والأصالة والمعاصرة بأشكال مختلفة أفادت من الغرب أقل بكثير من قبل، إنها شعارات الفئات الصاعدة ذات العقلية البورجوازية الصغيرة، المعادية للغرب، وبمستويات مختلفة دون أن يعني ذلك أن الفكر البورجوازي قد انحسر كلية.
وهكذا يمكن القول إن هذه الشروط التاريخية، وما قادت اليه من ردود فعل، أعادت الى الفكر العربي نشاطه وحتمت عليه أن يبحث عن مرتكزات ومرجعيات في خطابه، منها ما انتمى الى تاريخ هذا الفكر ومنها ما اعتمد على الفكر الاوروبي مرتكزا له. بالرغم من تنوع الاجابات المتعلقة في مرجعية كل خطاب. ومن هنا نشأ داخل الفكر العربي، تيارات مختلفة، تحكمت في الصراع الفكري مدة طويلة، معبرة عن مصالح وتطلعات القوى الاجتماعية، داخل المجتمع العربي، وعكست طبيعة التفكير الفلسفي في بنية هذا الفكر، فدفع ببعض المؤلفات الفلسفية الى محاكاة التيارات الفلسفية الغربية، حيث لم يتبلور لأي منها، مذاهب فلسفية بالمعنى المتعارف عليه. وإن كان هناك تطور نسبي، وبطيء على صعيد الفلسفة. واكتفت هذه المؤلفات والكتابات بالنصية الوثوقية في مجال الفكر ونظم الموروث ونقل القديم، حيث كانت هي الأفكار السائدة. وبقي الفكر الفلسفي العلمي هيابا في اقتحام المقدسات.
* باحث أردني