في طبعة أنيقة مزينة برسوم داخلية للفنان حسن جوني، صدر كتاب «شيرازيات» لدى «اتحاد الكتاب اللبنانيين». الكتاب، الذي هو تعريب لبعض غزليات حافظ الشيرازي، أبرز شعراء إيران العرفانيين من زمن ظهوره في القرن الرابع عشر للميلاد حتى يومنا هذا، أنجزه الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين الذي انطلق، إضافة إلى الموقع الأكبر للشيرازي في الثقافة الإيرانية، من غواية ذاتية قامت على مصادفة تمثلت في وحدة الاسمين. فالاسم الأصلي للشيرازي هو شمس الدين محمد، وقد لقب حافظا بسبب حفظه القرآن، ونسب إلى مسقط رأسه ومدينته شيراز في بلاد فارس، التي ينسب إليها سعدي أيضا. ثم إنه «لكل امرئ من اسمه نصيب»، كما أثر في الحديث النبوي. بعد ذلك يكون في استطاعتنا القول في هذا الكتاب: محمد شمس الدين مترجما شمس الدين محمد.
إذا كان ثمة من اعتبر حافظ الشيرازي عارفا وليس شاعرا، لجهة أن «العرفانية»، أو «العرفان»، مقام أعلى من مقام الشعر، فإن لهذا الشاعر موقعا أصليا في الثقافة الشعبية اليومية للإيرانيين، رغم مرور أكثر من ستة قرون على وفاته عام 1389. به تأثر كل الذين كتبوا شعرا عرفانيا في بلاد فارس من سعدي الشيرازي والعطار النيسابوري وصولا إلى الإمام الخميني. حتى أن طبعات ديوانه الكثيرة تشبه لجهة إخراجها وزخرفها وخطها المنمق، إخراج آيات القرآن وسوره. كما أن الإيرانيين يستفتحون بأبيات من ديوانه كما يستفتحون بالذكر الحكيم.
هذا المقام المقدس هو الذي جعل منه ومن شعره موضعي اختلاف بين الناس أثناء حياته ولدى موته. ولعل في هذه الحكاية التالية عن الاستفتاء بشعره يوم دفنه، الأصل الشعبي المستمر حتى اليوم، للاعتقاد بفأل الرجوع إلى أشعاره الموجودة في كل بيت إيراني تقريبا. فقد قيل إن الفقهاء أوقفوا جنازته منتصف الطريق، متسائلين: أين يدفن؟ وهل خمرته وحانته ووثنية أشعاره ومجوسيته وبيت النار وشيخ المجوس التي يحتشد بها شعره، هي أشياء حسية أم رمزية؟ وهل الظاهر هو المقصود بها أم الباطن؟ للخروج من حيرتهم هذه، قرر هؤلاء الفقهاء استقراء أحد أبياته كيفما اتفق كي يفهموا مراميه، فوقعوا على قوله: «أيها المختلفون في جنازتي، اعلموا أني غرقت في الخطايا، إنما طريقي إلى الجنة». فدفنوه في مدافن الأخيار. لذا صار قبره مزارا شعبيا، محاطا بهالة من القداسة، شأنه شأن الأولياء وأصحاب الكرامات. كما أن تمثالا نصفيا له موجود في حديقة الشعب في طهران بين تماثيل عظماء الشعراء والفلاسفة الإيرانيين.
بعد أشعار الرودكي، وجلال الدين الرومي، وسعدي الشيرازي، وسواهم ممن أسسوا للمعاني العرفانية، أو للنهج العرفاني في الشعر الفارسي، جاء شعر حافظ الشيرازي متوجا شعر الحكمة، خالصا إلى زبدتها.
للحكمة في هذا المقام معنى يتجاوز ظاهر الحلال والحرام في الشريعة. أيضا، يتجاوز أحكام العقل وترتيباته. فقد أسس العرفانيون معانيهم على أصل الحكمة في القرآن: حديث موسى وسورة الكهف. هذه الأخيرة التي تحوي خمس عشرة آية يختلف فيها نوع الحكمة عما هو موجود في القرآن. في معنى ظهور حوادث تتجاوز في كنهها ترتيبات العقل، وتغوص إلى أصل الحكمة: إن لدى العرفانيين ما يمكن تسميته «موطن الأسرار» في الكون وفي القلب البشري على حد سواء. ولعل في هذا البيت تقريبا للمقصد:
«فلما شربناها ودب دبيبها
إلى موطن الأسرار قلت لها قفي»
على ذلك كانت خمريات حافظ الشيرازي التي استغرقت معظم شعره أعلى درجات التصوف التعبدي. يقول حافظ:
«واشرب على خدها حمراء صافية
يا عابد الخمر يا صوفي يا رجل
هذا زمان صلاة الحان قائمة
لا فرق عندك من صاموا ومن ثملوا».
في مكان آخر يقول مطالبا بالعدل في توزيع الشراب:
«لو بائع الخمر بالقسطاس وزعها
لكان أقرب من غفران مولاه
عدل الشراب أساس في شريعتنا
فمن تملكه تمحى خطاياه».
استطاع «لسان الغيب وترجمان الأسرار»، كما لقبه الشاعر الفارسي جامي، أن يصالح بين عمق النظرة الإسلامية للشعر وشموليتها المتمثلة بالزمان، وأن يجعل من الشعر الديني الإسلامي شعرا إنسانيا كما فعل جلال الدين الرومي في «المثنوي»، وفريد الدين العطار في «منطق الطير». ذلك كله من خلال القول بوحدة الوجود، ووحدة الألوهة المعبر عنها بعبارة «لا إله إلا الله»، وتغلغل هذه الألوهة كي تشمل جميع المخلوقات من دون استثناء.
لذلك لا مجال في التوحيد العرفاني لاثنينية من مثل: الله والشيطان، المسجد والحانة... فذلك كله يقع في مجال اللاهوت: الخمرة وبيت النار والحانة والوثن غير خارجة على هذه الوحدانية.
أشعار الشيرازي الرقيقة في الحب والعرفانية، والتي كتبها في زمن وحشية التتار والمغول، والتي لم تجمع إلا بعد مرور عشرين عاما على وفاته، هي أشعار معان ومفردات إسلامية وقرآنية في جوهرها حيث ترد عبارات العبادة والتوحيد والصلاة والصيام. فضلا عن الرموز المستلة من القصص القرآني. لكن هذا الشعر، في الوقت نفسه، شعر المكان الفارسي واللغة الفارسية. فقد داخلته رموز فارسية تاريخية من العهد الساساني الوثني بخاصة، فوردت أسماء جمشيد وتخته الشهير والكأس التي قيل إنه كان يشرب منها الشراب ويتملى، وهو ينظر داخلها، أحوال العالم. كما ورد في شعره ذكر المجوس وبيتهم وشيخهم ونارهم وأوثانهم، وأسماء العشاق الفرس التاريخيين مثل شيرين وفرهاد: شعر تعبد إسلامي بأدوات من تاريخ وثني، على ما يقول محمد علي شمس الدين.
«هات كأس الخمر حتى نرتوي/ قبل أن يسبقنا كأس القدر»، صلاة حان، وخمرة روح، وعدل شراب... خمس وسبعون قصيدة مختارة من غزليات الشيرازي الفارسية، أعاد شمس الدين إنتاجها في لغة صوفية ومخمورة في آن واحد، مستلهما روحها، في معنى أنها أقرب إلى أن تكون مستوحاة منها مترجمة. تعريب وليس ترجمة، يؤكد شمس الدين، عاقدا المقارنة بينهما، في معنى اشتراط التعريب بروز شخصية المترجم جنبا إلى جنب مع شخصية الشاعر.
وإذ يطرح هذا النوع من الترجمة أو التعريب مسألة بالغة الحساسية أثارها الجاحظ في «البيان والتبيين» حين قال باستحالة ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى، وأوصلها بودلير الى الذروة عندما رفض ترجمة أشعار إدغار الن بو إلى الفرنسية، قبل أن يعود ويترجمها بنفسه، فإن محمد علي شمس الدين يرى إلى المسألة من منظار التخاطر بين شاعرين، لا التناظر بينهما: كان جلال الدين الرومي قد كتب في رفيقه شمس الدين التبريزي، الذي جمعته به علاقة بلغت حميميتها حدود الالتباس، كتابا كاملا هو «ديوان شمس تبريز»، جاء فيه: «أنا وأنت/ نقشان لوجه واحد».
* كاتب سوري