د.نضال الشمالي - مع أنّ رواية «محاكمة كلب» للتونسي عبد الجبار العشّ صدرت منذ أربعة أعوام عن دار الجنوب التونسية، ومع أنّ تونس مرّت بتجربة ثورية يمكن أن نقول عنها إنها نموذجية وديمقراطية وخصبة أعادت تشكيل مشهدها السياسي وواقع الحريات فيها، إلا أنّ الحديث عن هذه الرواية الفريدة في طرحها السياسي قبيل مشهد الثورة ما يزال قائما، لأن الرواية كانت تهجس بالتمرد والاعتراض على معطيات الواقع الظالم.
هذه الرواية غريبة الأطوار حقا، بدءا من عنوانها اللافت وانتهاء بحاشيتها المذهلة المكللة باعترافات للكاتب لم نعهدها في أدبنا الراهن، إنها في صراحتها تنافس واقع أدب السيرة الأوروبي، وتدفع بكاتبها إلى أن يتبوّأ بطولة الرواية برمتها.
يستهل راوي العمل وبطله في الوقت نفسه الحديث ضمن مستوى عالٍ من التشويق قائلا: «يوم محاكمتي كان يوما مشهوداً. رأيت صورتي في الصحف تتصدر الصفحة الأولى، ورأيت الحشود التي جاءت لرؤيتي. أنا لم أخيّب ظنهم، فقد رأيت بريق الخوف والإعجاب في عيونهم، حين سألني رئيس المحكمة عن هويتي. طفقت أصرخ قائلا وقد غصّ فمي بالنباح: أنا كلب ابن كلب وأعتزّ بذلك، ولا أتشرف بالانتماء إلى فصيلة بوكرعين (يقصد الإنسان).. أنا كلب ابن كلب من خيرة الكلاب» (ص 21).
تتلخص الرواية في أجواء كافكوية تشبه فضاء روايتَي «المحاكمة» و»المسخ» للألماني فرانز كافكا، فهناك شخصٌ سيحاكَم دون سبب منطقيّ، بل يوجه له الادعاء لائحة اتهام يجهل أبعادها وحيثياتها، خصوصاً أنه يعاني من انفصام شديد في شخصيته، يتوزع بين صورة الإنسان المظلوم والمقهور والمقموع، وصورة كلب يأنف من البشر ويترفع عليهم ويعرف سوءاتهم ويحتقر دونيتهم وغدرهم وأنانيتهم. ولعل الشخصية الثانية كانت المنتصرة على شخصيته الأولى إلى حدّ كانت تدفعه فيه إلى تمثل سلوك الكلاب الفسيولوجي والحركي وربما السيكولوجي أيضا، وإلى حدّ أنها دفعته أيضا إلى رصد امتياز الكلب على بني البشر وأفضاله ومميزاته وسلوكاته الفطرية الصادقة المبنية على الوفاء، معزّزا ذلك بأطر تاريخية مديدة تؤكد وجهة نظره.
النمط الثاني من الغرابة في هذه الرواية أن بطلها «عرّوب الفالت» المنفصم على ذاته المتكولب في تفكيره قدّ نصّب محاميا للترافع عنه وإقناع المحكمة بأن تحكم عليه بالموت لا بالحياة، وهنا يكمن التناقض والتعقيد، فليس في حياة «عرّوب الفالت» ما يستحق الحياة في ظل تمادي السلطة بالقمع وتكميم الأفواه والاحتراز والتوقيف والاعتقال ومصادرة الحريات... عندها سيصبح الاستمرار في الحياة ضربا من العقاب الجائر الذي ما عاد يليق بتحرره، وقد غدا كلبا ناضجا حرّا رفيع المقام منزّها عن فساد الإنسان لا يجدر به مخالطتهم أو الانتساب إليهم.
والرواية حيال هذه الطروحات الغريبة تحاول تشكيل الواقع بأسلوب استفزازي غير مألوف، وتعمد إلى مقارنات ماراثونية بين سيرة الكلاب وسيرة بني الإنسان وتسعى للمفاضلة بينهما. فيستغرق الراوي في حالة من الحصر التسجيلي الممتع وبلغة فيها من الوثائقية ما فيها لحشد سمات الكلاب وامتيازاتها التي تجعله يعيش بشخصية كلب متنكرٍ لإنسانيته، يقول في هذه المعرض مخاطبا رئيس المحكمة بعد أن أمر بمسح اللعاب المُنساب منه على رخام الأرضية: «رجاءً سيدي الرئيس، انا لم أتعمد إسالة لعابي.. فهناك روائح هيجت غددي، ولو كنتَ كلبا مثلي، لحصل لك ما حصل لي، فما تسمّونها الحضارة أفقدتكم حاسة الشم، لقد حصل كبتٌ لهذه الحاسة سيدي الرئيس. أين هي تلك الحياة البسيطة الحسيّة؟ أما أنا فأفتخر بكوني كلبا لمّا تزل حواسي مستفزة» (ص 32).
مثل هذا الجدل راوي القصة وبطلها «عروّب الفالت» لسرد مميزات فصيلة الكلاب وتفوقها على الإنسان، كأنه اختار فصيلة الكلاب أهلا له دون بني البشر تماما كما كان الشنفرى قد قال في الجاهلية غاضبا من قومه:
«ولي دونكم أهلونَ سيدٌ عملّسٌ
وأرقط ُزهلولٌ وعرفاءُ جيألُ
هم الأهلُ لا مستودعُ السرّ ذائعٌ
لديهم ولا الجاني بما جرّ يُخذلُ».
إن انفصال «عرّوب» بطل «محاكمة كلب» كان مذهلا وقاسيا، لقد أغرقنا ببراعة في الإيهام بصدق تحوّله، ودفعنا لإتمام العمل دون ملل تحت تأثير تحوّله المفاجئ مع أنّه تحوّلٌ سيظهر ف يما بعد بأنه متركز فقط في دخيلة «عرّوب»، لقد أظهر إصراراً عجيبا على التماهي في الكلاب والارتقاء معها على بني الإنسان الذين وُجّهت لهم هجائية مقيتة كشفت عن عوراتهم الأخلاقية وغدرهم ووضاعة قدرهم في تعاملاتهم البينية.
هذا الإصرار على التماهي هو من قبيل الانتماء إلى الطبقة المهمّشة المنسيّة المستثناة في المجتمع، تلك الفئة التي لا يحفل بها أحد إلا إذا طالبت بحقوقها عندها تُقاوم وتُحاسب وتُتهم بصغار المنزلة ودونيتها إلى مرتبة الكلاب، وهنا يردّ «عرّوب»: «نعم، أفخر أنني كلبٌ ابن كلبٍ، فالاستكلاب براءة وسموّ»، لذلك لا يجد حرجا من استعراض أفضال الكلاب عبر التاريخ والخدمات التي قدمها للإنسان، مقابل تخاذل الإنسان وخسرانه للقيم والمبادئ وجشعه وطمعه وتنكيله بالآخرين. ومن جهة أخرى يحاول أن يؤكد تراجع فاعلية المثقف العربي أمام جور السلطة.
من هنا نجد أنّ هذه الرواية تتوزع اهتماماتها على بعدين؛ ذاتي وجمعي. فالبعد الذاتي يؤكد أنه إنسان مهمّش منذ أولى ساعات الولادة عندما حاولت أمّه التخلص منه، فهو ليس ابنا شرعيا، إنما ابن لأحد المتنفذين فعل فعلته وتنكر لها؛ إنه ابن من طرف واحد. بقي «عرّوب» يفتقد لأبسط معاني الحبّ والحنان، فنشأ وحيدا في مشاعره متوحّدا مع همومه يعيش حالة عميقة من الاغتراب، ما دفعه لأن يستظل بقيم الكلاب وممارساتها التي يفخر بها.
أما البعد الجمعي فيظهر في طرح إشكالية المثقف أمام السلطة، وهي إشكالية أزلية سجالية لا تنتهي، تبرز واقع جيل مأزوم مغلوب على أمره، لقد دفع «عرّوب الفالت» الرافض لكل أشكال الترويض والتدجين أمام قيم السلطة والعولمة إلى أن يحاول الانتحار، بالانفصام على نفسه واستحداث شخصية أخرى من نسج خياله اسمها «المورتو» أي الموت بالإيطالية، وهي شخصية منفصمة عن ذاته صنعها حتى تقتله، وللأسف حتى هذه الذاتية في القتل لم يُكتب لها النجاح دلالة عجز المثقف وسيطرة السلطة التي اكتشفت هذه المؤامرة ووضعت «عروب» في قفص المساءلة. ثم حاول «عرّوب» أن يشبّ عن طوق السلطة بالخروج من سياج السياط في هجرة سرية على مراكب الموت إلى شواطئ أوروبا في الشمال الحرّ المتحضر كحال المئات من الشباب الإفريقي، إلا أن محاولته هذه باءت بالفشل ووُضع مجددا في قفص المساءلة مع أن مقاومته للسلطة في الحالتين كانت سلبية تتخذ من الهروب وإزهاق الذات طريقا للتخلص من سطوة السلطة دون إبطال مفعولها.
لقد أصبح المنظر معتما جدا في وجه «عرّوب» الذي بات يرى الموت ملاذا للوصول إلى حياة جديدة لا مكان للعجز فيها، فتكون أشبه بولادة جديدة. لم يحصل «عرّوب» على مُراده في نهاية المحاكمة رغم كل حيثيات المرافعة التي تناوب فيها مع محاميه، فجاء حكم رئيس المحكمة مفاجئا، إذ لم يحكم عليه بالبراءة ولا بالإعدام بل بالحياة مدى الحياة. إذن عليه أن يبقى أسير حياة السلطة الجائرة مقموعا مذموما موصوفا بأقذع الصفات وأكثرها دونية.
لقد كثّف عبدالجبار العش في روايته هذه –وهي الثالثة في إنتاجه الروائي- مأساة المواطن العربي في هذه اللحظة الذي يجبر على الحياة كما يريدها السلطان لا كما يجب أن تكون، ولكن ما خفّف على بطل الرواية وقلّص من سلبيته ويأسه تلك النهاية الجمعية في المحكمة، فبعد الاستماع للحكم هبّ «عروب» نابحا بأعلى صوته وسرعان ما أصبح النباح جماعيا يشترك الحضور كلهم في أدائه في وجه رئيس المحكمة ومعاونيه.
لقد أفلح «عرّوب» في نقل عدوى الرفض إليهم، وكانت مرافعته بمثابة إيقاظ لنا ولهم. يقول «عرّوب»: «انطلق صوتي مدويّا: أطلب الموت، أطالب بالإعدام، لا تعاقبوني بالحياة مدى الحياة، أريد ال... تبدّد صوتي، انتصبت أذناي، وفار النباح والعواء في أحشائي، فصعد حمما ونارا إلى حلقي. غدوت أنبح ولا من مجيب، وإذا بمحاميّ وعميد المحامين العرب ورئيس الرابطة الدولية لحقوق الحيوان يشرعون في النباح، فسرت عدوى النباح في صفوف الجماهير إلى أن عمّ النباح كل أرجاء القاعة، فترددت أصداؤه في الخارج. وما هي إلا ثوانٍ معدودات حتى تناهى إلى مسمعي صوت النباح وهو ينبعث من حناجر الجموع المحتشدة أمام قاعة المحكمة» (ص 166).
لقد تحول «عرّوب» إلى مركز لهذه الثورة وكأن في الانفصام تتجلى الحقيقة، إن مثل هذه الرواية وغيرها أسهمت في تحضير المثقف التونسي لحيثيات ما قبل الثورة، فشكلت مشهدا قاتما وصعبا لا ينفرج إلا بالنظر إلى الواقع الثقافي لتونس اليوم، واقع منفتح على الآخر وعلى الذات معا، ولا أدلّ على ذلك من أنّ كاتب الرواية عندما تلا علينا شهادته الإبداعيّة التي قدّمها قبل أسابيع في ندوة الرواية السياسية في كلية الآداب بجامعة سوسة تساءل: «ماذا ساكتب الآن؟».