د. احمد النعيمي - بعد كتابيه (طه حسين) و(العقاد) اللذين اصدرهما العام الفائت، يواصل الاكاديمي د. محمود السمرة مشروعه البحثي عن اعلام النقد والفكر العربي ويتناول في كتابه الجديد شيخ النقاد في الادب الحديث محمد مندور.
صدر كتاب الدكتور محمود السمرة الجديد عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وضمن منشوراتها لعام 2006، وعنوانه «محمد مندور (1907 - 1965) شيخ النقاد في الادب الحديث».
واذا كان السمرة في الفصل الاول من الكتاب يروي سيرة مندور، فانه يروي هذه السيرة باسلوب اقرب ما يكون الى الاسلوب القصصي، ولغته - في ذلك - بالغة التأثير، بحيث يبصر القارىء الاجواء التي عاش فيها مندور، كما لو كان شاهدا على حياة هذا الرجل وزمانه.
ويبدو ان نبوغ مندور قد ظهر جليا اثناء دراسته الجامعية، اذ يروي لنا السمرة انه في عام 1925، تحولت الجامعة المصرية الاهلية الى جامعة حكومية، وانشئت كلية الحقوق الى جوار كلية الآداب، وكان طلبة الكليتين يدرسون معا في السنة الاولى برنامجا تحضيريا، وذات يوم دخل عليهم استاذهم الدكتور طه حسين، وقال لهم انه سيلقي عليهم محاضرة في ثلث ساعة عن «الشعوبية وانتحال الشعر». وعلى كل طالب ان يكتب ملخصا لما يقوله في مدة لا تزيد على خمس دقائق.
وبعد ان انتهوا من كتابة ملخصاتهم حملها الاستاذ، وعاد في اليوم التالي ليعلن ان احسن تلخيص قرأة هو للطالب محمد عبدالحميد موسى مندور. ودعا الاستاذ الطالب الى مكتبه، وعلم منه انه مسجل في كلية الحقوق، وحثه على ان يسجل ايضا في كلية الآداب، وفي قسم اللغة العربية، وكانت الدراسة في الحقوق في الصباح، وفي الآداب بعد مساء.
بعد ذلك نجد مندورا يسافر الى باريس، غير انه يعود منها دون ان يحصل على شهادة الدكتوراة، ثم نجده يحصل على هذه الشهادة من بلده مصر ففي «عام 1943 قدم مندور بحثه لنيل شهادة الدكتوراة من كلية الآداب - جامعة فؤاد الاول. وكانت باشراف الاستاذ احمد امين، وعنوانها (النقد المنهجي عند العرب) وهذه الرسالة في النقد القديم، وقد زاد عليها، ونشرها في كتاب عام 1948» ص27. وهي الرسالة التي نجد لها مناقشة عميقة في الفصل الثاني من كتاب السمرة.
جاء الفصل الثالث من هذا الكتاب تحت عنوان «منذور والنقد الفني وفيه نعثر على كثير من آراء مندور المتصلة بهذا الشأن، فقد ذهب مندور في كتابه «في الادب والنقد» الذي نشره عام 1949 الى «ان الادب، والشعر بخاصة، معنيان بالسعي الى تحقيق الجمال. فالأدب لا يهدف الى ان يعلم، او الى ان يهذب الاخلاق. وهذا لا يعني انه ليس للأدب رسالة اجتماعية، وانما يعني ان التعليم وتهذب الاخلاق ليسا الغاية العليا للادب» ص49.
ويعيد الدكتور محمود هذه الآراء الى الحركة الرومانطيقية، فيذكرنا بقول كولردج: «ان القصيدة مغايرة للأعمال العلمية، لأن هدفها المباشر اثارة المتعة، وليس السعي وراء الحقيقة. وهذه كلها تجسدت في نظرية الفن للفن» ص49.
ويربط السمرة بين بعض آراء مندور وآراء طه حسين، حيث «يتفق مندور مع طه حسين في ان الشعراء يعرفون من اسرار الشعر ما لا يعرفه النقاد» ص49.
في الفصل الرابع من الكتاب، والذي حمل عنوان «مندور والمسرحية» يخبرنا السمرة بان انتاج مندور النقدي في مجال المسرح غزير «وأفكاره النظرية في مجال المسرح متناثرة في اعماله التطبيقية كمسرحيات شوقي وعزيز اباظة او المسرح النثري، ومسرح توفيق الحكيم. وقد بلور هذه الآراء النظرية المتناثرة في كتيب صغير باسم (المسرح). وفي هذا الكتاب يؤكد مندور اننا تلقينا الفن المسرحي عن الغرب عند نهاية القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين. وقد طبق مندور آراءه هذه على شوقي، وعزيز اباظة، وتوفيق الحكيم وغيرهم، وقد تحول ما كتبه عن هذه الشخصيات الى كتب مستقلة» ص77.
ويحدثنا السمرة عن رؤية مندور للمسرحيات العالمية، اذ «يرى مندور أننا لو نظرنا في المسرحيات العالمية، فاننا نجد ان التجربة الانسانية ماثلة فيها في صورة من الصور التالية: الاسطورة، والتاريخ، والحياة المعاصرة للكاتب، والخيال، وتجربة الكاتب الشخصية، واللاوعي، ولأن مندورا يعتقد ان ثقافة القارىء العربي محدودة في هذا الموضوع، فقد افاض في شرحه» ص86.
يواصل الدكتور محمود السمرة في هذا الفصل متابعته لآراء مندور النقدية في المسرح، فيصل الى الخلاصة التالية: «ان نقد مندور للمسرحيات لم يكن دائما عميقا. ولكن علينا ان نتذكر ان المسرحية كانت فنا جديدا دخل في الادب العربي، وليس هناك تراث نقدي حولها. واذا قارنا نقده للمسرحية بنقد معاصريه. وجدناه متفوقا عليهم» ص128.
يأتي الفصل الخامس والاخير من هذا الكتاب تحت عنوان: «منذور والشعر العربي الحديث». وفي هذا الفصل يستعرض السمرة آراء مندور في الشعر، ويصل الى استنتاجات متعددة منها ان مندورا في دراسته «لشعر مطران، وشعر شعراء الديوان، وشعر شعراء مدرسة ابولو، نراه يؤكد في الشعر على التجربة العاطفية، واستعمال المجاز، واللغة العذبة، ويرى فيها مكونات الابداع في الشعر ونقده هذا متفق مع نظريته في الشعر» ص148.
جملة القول: ان كتاب «محمد مندور (1907 - 1965) شيخ النقاد في الادب الحديث لمؤلفه الدكتور محمود السمرة كتاب يتتبع سيرة مندور الشخصية، ويناقش آراءه وكتبه وابحاثه مناقشة عميقة يندر ان نجدها عند اي مؤلف آخر كتب عن مندور، لذلك فان اي قراءة في هذا الكتاب لن تغني عنه.
د. محمود السمرة غني عن التعريف، غير ان التذكير قد يجدي.. انه واحد من ابرز المؤثرين في وجداننا الثقافي العربي منذ عقود خلت الى اليوم.. وهو واحد من ابرز المساهمين في تشكيل البيئة الاكاديمية الاردنية، وارساء تقاليدها العريقة، وحيادها الايجابي حتى وصلت الى ما وصلت اليه من مهنية عالية وآفاق بعيدة.
ود. محمود السمرة يعد اليوم مدرسة في التحليل والاستنتاج والتقويم، فهو يمتلك رؤية خاصة وثاقبة في ربط ماضي الظواهر الفكرية والنقدية بحاضرها، لذلك لا يكاد يستغني باحث عربي عن العودة الى آرائه والاستشهاد بها، سواء أكان موافقا لهذه الآراء ام مخالفا لها.
يقع هذا الكتاب الجديد في (150) صفحة، ويضم خمسة فصول هي: سيرة مندور، مندور والنقد العربي القديم، مندور والنقد الفني، مندور والمسرحية، ثم مندور والشعر العربي الحديث