حوار علي المومني - نجوى شعبان كاتبة وروائية مصرية, ولدت بمدينة دمياط, وهي حاصلة على بكالوريوس اعلام - جامعة القاهرة. وحصلت على دبلوم مكتب العمل الدولي, وتعمل محررة ثقافية بوكالة انباء الشرق الاوسط, ولها اهتمام بالفن التشكيلي وانجزت بحثين في هذا الصدد في اميركا.
ترجمت عن الانجليزية العديد من الموضوعات السياسية والسيكولوجية والفنية ونشرت مقالات نقدية مهمة من اعمال روائيين مصريين, صدر لها مجموعة قصصية بعنوان جدائل التيه وصدر لها روايتان هما الغر 1998 ونوة الكرم ,2003 وهي بارعة في كتابة الرواية التاريخية, وقد فازت بجائزة الدولة التقديرية - مصر العام .2005
ولا تكمن اهمية روايات نجوى شعبان في الحكايات المدهشة والفنية التي تتالى على لسان شخصياتها الروائية, او التي تفرضها الاحداث العجيبة في الرواية او تأتي بين تداخلات الحكاءة, رواية (نوة الكرم) خاصة, بل تبدو الاهمية - بداية - في التركيب المعقد/السلس الذي تنساب فيه كل عناصر الرواية, الحكايات والشخصيات والاحداث, وتترابط في نسيج فني وتنتهي بنا الى عمل روائي ثري وغني ومزدحم بتقنيات وعادات وتاريخ وافكار, وليس ذلك عرضا ادبيا, روائيا لمرحلة تاريخية, لاحداث هذا الزمان, وان كان التسجيل والرصد لا يخلوان من ممارسة ابداعية, فالتسجيل والرصد الروائيان لا يلعبان دور الكاميرا المحايدة, الكاميرا التي تعرض دون ذكاء, ان الاسئلة التي تطرها الرواية لا تحتاج الى اجابة بل تحتاج الى طرح اسئلة اخرى.
هذه هي الروائية نجوى التي تجيب عن الاسئلة الكبرى في الرواية والتي كان لنا معها هذا الحوار:
* هل لك ان تحدثينا عن بداياتك الادبية, وبمن تأثرت في البداية من الادباء والكتاب?
- كان كتابي الاول مجموعة قصصية جدائل التيه صدرت عام ,1995 وحملت سمتين من سمات كتابتي فيما بعد, وهو الاتجاه للكتابة عن العالم وتجلياته الواسعة دون ان اركز على ذاتي, فانا انظر الى نفسي كجزء من العالم ولست بالضرورة محوراً يدور العالم حوله, والسمة الاخرى هي النفس الطويل والدأب, وهو الأمر الذي تتطبه كتابة الرواية.
القصة القصيرة ومضة, لمحة, الهام لحظي, كثافة في اللغة, ونهاية مفارقة, غير ان الاحتشاد لها لا يأخذ مني وقتا او جهدا, وكذلك متعتها واشباعها الابداعي لا يدوم كثيرا, بعد صدور مجموعتي الاولى كنت اكتب قصصا قصيرة, فاذا بها تطالب بالافاضة, اركنها قليلا, لا تفارق مخيلتي حتى تصبح هيكلا او مخططا لرواية, فاتقاعس عن نشرها.
اجمالا, تقدم القصة القصيرة نسيلة واحدة من نسائل لوحة مطرزة بالحياة البانورامية.. اما الرواية فتتطلب مني الاحتشاد والتأمل, ربما لسنوات, لتتحدث عن عدد محدود من تجليات الحياة.. فشرعت في كتابة الرواية ولم اعد لكتابة القصة القصيرة حتى الآن.اما عن من تأثرت بهم, فلقد قرأت للكثيرين من الادباء والكتاب, واحببت كتاباتهم, لكني اجد نفسي منجذبة لكتابات الراحل عبدالرحمن منيف الذي قرأت له ارض السواد وبعض اجزاء من مدن الملح لكن الرواية التي فتنتي هي سباق المسافات الطويلة عن التسابق المحموم بين الولايات المتحدة وبريطانيا لاسقاط حكومة مصدق في ايران بغرض تسهيل استغلال البترول الايراني, لكن الغلبة كانت للاميركيين, مصدر هذه الرواية وثائق كما كتب منيف في نهاية الرواية, لكن كلها مشاهد وشخصيات من لحم ودم, يكاد صوت تنفسها الواهن ان يصلك, كأن زفرة الاحباط ملء اذنيك.. هذا هو العمل البديع والخيال الطيع للكاتب.
تعجبني ايضا اعمال امين معلوف, انه كاتب فذ ومنتم, انه صوتنا كعرب الى الغرب, حيث يكتب بالفرنسية, ذو نزعة انسانية وموضوعية عالية في كتاباته.. احب اعماله الروائية كلها.
احب ايضا اعمال توني موريسون الكاتبة الافرو-اميركية التي يعتبرونها شكسبير السود في الولايات المتحدة, فهي تؤرخ لهم وعنهم, اضافة الى خوسيه ساراماغووروايته الرائعة تاريخ حضار لشبونة وامبرتو ايكو في اسم الوردة.
* يقول النقاد انك كاتبة للرواية التاريخية بامتياز, ما مدى صحة هذا الكلام, ولماذا التركيز على التاريخ في رواياتك? وهل الكتابة التاريخية برأيك محاولة للانفلات من الواقع الذي يعيشه الكاتب?
- الكتابة التاريخية ليست محاولة انفلات من الواقع, بل انغراس في الواقع بسبل جديدة - قديمة, انها تقدم الماضي في موازاة الحاضر, ومن ثم تكون اللحظة الماضية التي تم اختيارها للكتابة في حالة تماس ومشابهة ما للحظة الآنية, فثمة امران نحن في اشد الحاجة اليهما وهما: فهم الحاضر, واستشراف المستقبل, وهما لن يأتيا دون معرفة الماضي فقط, بل وقراءته قراءة جديدة وبعقلية جديدة بعيدة عن استظهار النصوص وحفظها واجترارها بلا داع, او قراءة الهوامش على المتن, او قراءة العنعنة اي قال المؤرخ الفلاني نقلا عن المؤرخ العلاني.. الاهم هو قراءة التاريخ وسط ظرفه الخاص وتأويله بأفق واع.
واني اركز على الكتابة التاريخية في كتابتي, حيث يخيم على ذهني سؤال ملحاح: لماذا وصلنا كعرب ومسلمين الى هذا الحد? لم نحن هكذا الآن, هناك عوامل خارجية, نعم.. لكن حضارة لا تأفل الا اذا كان السوس قد نخرها من الداخل.. كتبت الروايتين الغر ونوة الكرم لأكتسب معرفة وجوابا عن سؤالي المؤرق.
* حدثينا عن روايتك الغر الصادرة عام 1998 من حيث المضمون, وكيف استطعت تحويل الرواية الى نموذج للبحث والتقصي?
- نحن لسنا بعيدين عن مسألة الرق, الفارق الزمني يزيد عن القرن وربع القرن منذ اصدر الخديوي اسماعيل قانون ابطال تجارة الرقيق عام 1875 وفقا لنظرته التحديثية وايضا لضغوط دولية اوروبية, واقتضي القانون فترة سماح 12 عاما اخرى حتى يتم ابطال الآثار المترتبة على هذه التجارة كلية, ويصبح كل الناس احرارا.
في رواية الغر تابعت مسيرة صافيا من العبودية الى الحرية, اذا جاز التعبير, فلقد تم اختطاف صافيا التي اعدت كسرية من غرب السودان, صافيا يتلخص في دمها عدة اعراق, فهي نوبية وبجاوية من ناحية الأم والاب وولدت في السودان, يتم تهريب صافيا الى الصحراء الشرقية في مصر, ويقابلها الضابط الارمني المكلف من قبل الخديوي باحباط غارات خطف وتجارة العبيد, اعلمها الضابط الارمني بحقها في الحرية, احست بالرعب داخلها, لان الحرية مجهولة بالنسبة لها خلافا للعبودية واضحة المعالم, وتمر صافيا في رحلتها باسيوط, فالقاهرة, ثم تستقر في دمياط, وتتزوج لكنها تبدي في زواجها الخضوع والتضحية خوفا من الطلاق, بالرغم من ذلك كانت صافيا قادرة على ان تشع انسانية على من حولها, كانت ذات حضور وعطاء وتواصل مع اهل دمياط مختلفي الجنسيات والديانات في تلك الفترة.. وتعمر صافيا حتى سن التسعين, لم تكن كالارقاء الذين يتوفون في شرخ شبابهم اجهادا وكمدا.
لكن الرواية تمضي وحضور صافيا الجدة يرين على احفادها المعاصرين, فثمة صافيا اخرى معاصرة تختلف قضاياها كلية عن الجدة, غير انها ممزقة, مستقلة وتابعة, لم تتخلص من عقلية الحريم المرتكن الى حماية وهمية من قبل الرجل, حملت صافيا المعاصرة ازدواجيتها في الوقت الذي تخوض في الحياة العملية بقوة شخصية.
في الغر اهتممت بشخصيات لم تنتزع من اوطانها, بل وليس ثمة امل في العودة اليها, مثل الصديقة الارمينية لصافيا الجدة التي كانت تختلف معها الى الكنيسة وتعمل بالتطريز الذي يمنحها مأثرة معرفة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمرأة من درجة تطريز ملابسها.. وتناولت الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان 1982 واسر احد احفاد صافيا وعودته لمصر وفق اتفاقية تبادل الاسرى, بالرواية ايضا شخصية كردي حاولت فيها ان اتعمق في فهم مسألة الهوية لديهم في الوقت الراهن ورغبتهم في اقامة دولة مستقلة, ستؤثر على خمس دول بالشرق الاوسط بها اقليتان كرديتان, يختلفان حتى في اللغة.. اي اني طرحت في الغر الماضي في موازاة الحاضر.
وتطلب هذا الامر اعدادا, فاثناء بحثي عن استفهام ما, يتبلور السؤال على نحو واضح, تتطلب اجابة توجد في بطون كتب تتعلق بفرع من علوم الانسان كالتاريخ او الفلكلور او التاريخ الاثني لعرق ما.. قد تستغرق القراءة عامين, اكتسب فيها معرفة وبالتالي القدرة على وضع الانامل على موطن القصور والبلاء, اثناءها تتخلق شخصيات عادية من عامة الناس هي بنت المخيلة من الالف الى الياء, وتكمن مصداقيتها في رسمها وفق ظرفها التاريخي.
* هنالك تعدد لانواع السرد وفق مستويات لغوية متعددة بين البليغ والفصحى والعامية واللغة الافرنجية الاوروبية وبقايا من لغات النوبة وتسمياتها, ما الذي افادته الرواية (برأيك) من خلال تنوع مستويات السرد?
- اعتقد ان الذي افادت منه هنا هو المصداقية فطالما اعبر عن شخصيات متباينة وبيئات مختلفة هنا يبرز التنوع الخلاق الذي يبرز الخلفية الثقافية المتفردة لبعضهم, فقد نهلت في الروايتين من العامية المصرية جملها الثرية بالمجاز الشعبي الذي ينطوي على شاعرية لا تنفذ, وتضمينها بعض المفردات والجمل التي كانت سائدة في القرن السادس عشر مثلا كما من نوة الكرم, اعتقد ان الالتزام بالفصحى على طول الرواية هو نوع من المخاتلة, لان الالفاظ والجمل العامية لابطالي سواء كانوا مصريين او وافدين, تحمل شحنة اصدق في الدلالة ووقعها الشفاهي.. ومن الثراء الاعتراف بهذا التعدد في اللهجات وتفاعلها, فهذا من قبيل الانفتاح على الآخر داخل انفسنا.
* اعتبر الناقد ابراهيم فتحي روايتك الغر انها تنتمي الى كتابة الاختلاف بمعنى انها تختلف عن الكتابة السائدة, الى اي حد عبرت هذه الرواية عن حرية الانسان وتحرره من الاغتراب?
- اذا كان مضمون الادب بأكمله هو الانسان وحريته في المقام الاول - حرية تفتح طاقاته ازاء العوائق وتحرره من الاغتراب - فالرواية هنا تدخل مباشرة في نطاق قضية مهمة للغاية, ليست حرية المرأة معزولة عن الرجل, بل ايضا الحرية بمعناها المباشر سادة وعبيد حينما بدأت الرواية بفصل عنوان الأم الابدية عن صافيا الجارية, علاوة على افتتاحها معظم الفصول باقتباس يعمل كمؤشر ومرشد للنصوص.
والرواية تضمنت شخصيات متباينة ذوات رؤى عقلية مختلفة, لكن الرواية اجمالا, هي عن حرية المرأة والرجل معا, وتناغمهما مع الحياة ومع بعضهما بعضا.
* تحتفي رواية نوة الكرم ببضعة شخصيات متمردة, كما تهتم بميتافيزيقا البحر.. كيف كان ذلك?
- يبدو هذا جليا في تحايل البطلة ليل كي تكسب عيشها في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة, مما اضطرها في احدى المرات الى ان تلبس ملابس الغلمان حتى تستطيع ان تعمل وتنفق على اخوتها.. واذ طفح الكيل تتمرد شخصيات الرواية وناس دمياط عبر النقش بالأنامل وبالروح, بالنقش سواء على المخبوزات, على الخزف, على اقدام الناس وعظامهم, بالكتابة وصناعة الاحبار, كبعد وجودي, وان لم يؤتيا اثرهما الفوري او القريب, تمردوا عبر النزق كما في ليلة يوم القيامة في الخرابة التي حاصرتها المياه فيما بعد لتندثر.
في هذه الليلة سخر الدمايطة بخيالهم الصافي من السلطان والوالي وكبار العسكر العثمانلية بفخر لايدانيه سوى عشق نرسيس لجسده وجماله, ولم ينسوا الرقصات المعربدة في ضوء القمر الفضي.. ثملوا وانسطلوا.. عاشوا لحظة خارج زمان الوعي والمنطق لحظة في بؤرة منطقة الظل والعتمة في الجماعة الا شعورهم.
هؤلاء هم الذين يحتملون الحياة ويبنونها, ويحافظون ويعيشون ويحبون الحياة حتى لو قامت القيامة فانهم سيقيمون في الخرابة لاستحلاب المباهج, لا ينسحبون من الحياة رغم ازاحتهم, حتى وهم مزاحون راغبون بالحياة, لان مصر حضارة تعرف قيمة الحياة وبناءها والاستمتاع بها.
ميتافيزيقا البحر تغمرني بتجلياتها اللانهائية في شعابه وفي اعماقه, في طيات تياراته, في صخب وسكون امواجه, رياحه, وانوائه, فهل دخلت عرض البحر بعبور مياهه المعتمة احيانا? ام كررت لفظة البحر خمسا وستين مرة عبر صفحات الرواية? علني اتوحد مع موسيقاه الآراجو والكريشندو في حركة الامواج, اصف انواء الكرم:
موجة واحدة كالجبل داهمت سفن القافلة فردمتها, بعثرتها, اهاجتها, فقدت الاتجاه والتوازن, انفتح كهف داخل الامواج, فظلت تدور حول بعضها, حتى توقفت الرياح والامطار واصطحاب الامواج مخلفة البرد القارص, احدث ارتطام سفن القافلة ببعضها البعض خسائر افدح من انواء الكرم نفسها, تتطوح سفينة لتأخذ اتجاه العرض فتأتي اخرى مندفعة تضربها في منتصفها لتتحطم وتغرق في حين تتهشم مقدمة الثانية وتتسرب المياه الى جوف السفينة.. كانت سفينتنا الاحسن حظا اذ لفظت الى الحبر كل مؤونتها والبضائع في الخن وبعض البحارة ثم استوت متوازنة ثم مالت يمينا فانزلقت اندفاعات الامواج الى البحر من جديد.
ومن الحلم الرئيس في الرواية يعن للبحر ان ترسم خطوط القدر عبره, وكما نصح جدي حفيده ذات يوم بعيد في طفولتي, استدعى غياث الدين في نوبة اغمائه نصائح الترجمان في التعامل مع البحر في مواقف صعبة ثلاث, وايضا يشف الماء والبحر في احلام ليل عن رغبة ايروتيكية.
* يبدو اللايقين مفتاحا لنص روايتيك الغر ونوة الكرم كيف تعاملت معه?
- نعم اللايقين هي الكلمة التي اعتبرها مفتاحا لنصوصي, من بداية رواية نوة الكرم وانا اشير الى اللايقين عبر اقتباسات قيلت في ازمنة واماكن متعددة, ولم يقتصر هذا على بداية الرواية, بل كمقدمة لبعض الفصول, فنقلت عن التراث الفرعوني قول ايزيس انا ما كان, وما هو كائن, وما سيكون, وما من انسان بقادر على رفع توقعي وتساءلت انا: اليست الحقيقة نفسها كذلك?.
ونقلت عن ديورانت قوله: معظم التاريخ ظن وتخمين والبقية الباقية تحامل وهوى, وعن جاك دريدا: الوهم اشد رسوخا من الحقيقة, بل انه متجذر فيها بالدرجة التي يضحي فيها متطابقا معها ومطابقا لها تماما.
لذا ارى ان الراوي العليم بكل شيء وببواطن الامور, لا يناسبني كتركيبة شخصية, ومن ثم لا يناسبني فنيا لانني اخترت الابتعاد عن التاريخ الرسمي, لهذا كانت الاصوات الثلاثة الراوية: الذات الراوية غير محددة الهوية, والترجمان, الشاهد على العصر وحفيدته المعاصرة.
وفي الغر كانت كل شخصية تسرد الاحداث من منظورها الشخصي مما يعني نسبية الحقيقة لدى كل منها, ومن ثم فاحوار قائم دوما بينها, ليضيء روافد الخبيئة الماضية في نهاية القرن التاسع عشر وبين الحاضر يمتد منذ ثمانينيات القرن العشرين وحتى الآن, وكتبت شخصية يمنى, تلك الشخصية القلقة والمقلقة في آن, تعلن عن نفسها بجلاء انا لا انتمي لاحد, لا احد ينتمي الي.
* لماذا كتبت الروايتين عن مدينة دمياط, ولماذا تعدد الابطال في كل رواية على حدة?
- لقد كتبت الروايتين عن مدينة دمياط/التاريخ ليس لانها مدينة طفولتي التي تختلف عما كتبته في الروايتين, فتاريخ على هذا النحو يأتي بحمولته من الغواية بالحرية وارتياد لمنطقة خصيبة غير مجرفة في فن الرواية.
وفي هذا اتذكر في طفولتي بدمياط اني صعدت سلالم حجرية مرهقة لبيت حجري عتيق وعال يعود الى قرون مضت, دلفت الى شرفة في الدور الاعلى, فشعرت بشيء غريب: تتغلغل في بهجة ساكنة واحساس لم اسمه يومها - الحرية - وبأني اعرف اشياء لم يسبق لي ان سعيت لمعرفتها حقا.. وان هذه اللحظة لن تتكرر كثيرا. ولاني افكر بمنطقية اعتبرت ان المشهد البانورامي لمدينة دمياط الذي يبدو واضحا من الشرفة هو السبب.
غير اني بدأت السؤال والاستفسار والقراءة, ولم يكذب حبوري آنذاك, فخلفي في هذا المشهد كانت تقع قصبة الثغر في القرن السادس عشر ومسجد البحر والوكالات والقسياريات التجارية والخانات ومكاتب القناصل الاوروبية بدمياط, وبمحاذاة النيل البيوتات الثرية لاعيان دمياط: كبير التجار, القاضي, كبير الصاغة, يهودي الجمرك, ارمني الصرافة, قبودان ثغر دمياط, وعلى مدى النظر سوق اللبن وبه كنيسة مارجرجس التي بنيت في القرن السابع عشر.
عن يساري يقع سوق الحسبة الذي لا يزال يحمل اسمه حتى الآن, حيث المحتسب وشيوخ الطوائف كافة, هذه الطوائف التي اقتضتها الحاجة من قبل الحرفيين في مصر, والتي كانت تعد شكلا اوليا لممارسة ديمقراطية من بيئتنا, وفي البعيد تربض اوقات السلطان قنصوه الغوري فوق جزيرة القصبي التي طمرتها الفيضانات, وثمة خليج يخاصر المدينة ويصب في قرية شطا.
البيت الحجر في طفولتي اعاد لذهني الاحجار الضخمة التي القاها الظاهر بيبرس الاغلاق مدخل مصب دمياط امام السفن التجارية الكبيرة تحسبا من اية هجمات حربية بعد الصليبيين, فدمياط هي مفتاح النيل الموصل لقلب مصر.. في هذا كله احب دمياط التاريخ, اذ كانت مدينة كوزموبولتيانية تضارع مدينة البندقية آنذاك, تعرف بنسيجها الدقيق كالحرير والقباطي وكسوة الكعبة المشرفة, وقلعة عسكرية حصينة صدت الكثير من هجمات الصليبيين التي ارخ لها, وغارات القراصنة التي لم تسجل بوضوح فهي في حكم المهمل والمهمش, ولان الاهالي من البحارة هم من يتصدون منذ ما قبل الميلاد وحتى عصر الحكم العثماني للقراصنة.. فليس من المستبعد ايضا ان يكون من بين سكان المدينة قراصنة, وبخاصة ان حركة القرصنة في بحر الروم كانت تعكس بدقة مدى توازن او اختلال القوى لدول حوض البحر المتوسط, ولا ننسى الاصول الشامية (الفينيقية) والقبرصية واليونانية لاهل دمياط.
اينما وليت وجهك تجد المياه تضمك, فانت في دمياط, التي نحت اسمها من الماء باللغة الهيروغليفية ثم اتى اي مدينة المياه او مدينة مجرى المياه.. وقبل قرون كانت ذات ثغرين: نهري وبحري كشبه جزيرة يحدها شمالا بحر الروم/البحر المتوسط, نهر النيل, وبحيرة المنزلة, ويالثرائهم جميعا, في الغر كان الصيادون القدامى يرتجفون فرقا لدى انبثاق نافورة من اليران على فترات متباعدة في بحيرة المنزلة ويرون هذا من اعمال الجن والشياطين, غير متنبهين الى ان رائحة النيران تشير الى النفط المخبوء في البحيرة.
وهنا استعير وصف د. ثناء انس الوجود في وصفها لدمياط في رواية نوة الكرم بانها واسطة عقد من حيث المكان, ففي لحظة تاريخية في القرن السادس عشر يمتد فضاء الحكي من دمياط الى المشرق وتمتد الى الصحراء في الغرب والى القسطنطينية والى البحر المتوسط, وتنزل ناحية الجنوب في الصحراء حيث القوافل الذاهبة للتجارة شمالا وجنوبا وحيث قوافل الحجيج.. في مسعى لفتح نوافذ الحكاية على اثر من هواء لكي يدخل, لاقتناص اللحظة ومحاولة الاحتفاظ بها.. هل اللحظة مهددة? ان الوجود مهدد, ومهدد في العمق.
في كتابتي الروائية لم يحدث ان كان لها بطل واحد, بل هم عدة ابطال تتواصل وتتوازى مصائرهم وخياراتهم في الحياة. هذا يتيح لي ان اظهر تعددية المجتمع الدمياطي بين مسلم ومسيحي ويهودي, وايضا شخصية لا تزال تخايلها بعض ممارسات وثنية من الكرنفالات الاوروبية السلافية.. لكني ارى ان المايسترو في نوة الكرم المتحكم والمسير لنغمات الشخصيات ونجواها - من اطراف انامله - وهو المطراوي ذو الحنين القهري اى جنة الطفولة المفقودة.
ان اكتب امرأة من القرن السادس عشر معناه ان احدس ايضا بمشاعرها.. لذا كتبت عن ليل الفتاة المكافحة التي تعول اخوتها الصغار بعد وفاة والديها.. ليل ايضا مشاغبة لها شقاوات لا تخلو من براءة, وائدة لانوثتها التي لن تتفجر الا في مرحلة لاحقة من عمرها, عمر الجدات آنذاك, وتحايلها على المعيشة بارتداء ثياب الغلمان في اوقات صدور قرارات - وقتية او لحظية او مزاجية - بمنع خروج النساء من بيوتهن, فاذا بزيها الغلماني يفضح تهتك مجتمع يعاني الاضمحلال.
والرواية تسائل التاريخ عن مسار ومصير الحضارة العربية والاسلامية وتسأل: هل نحن نحتضر? ومن آيات الافول ما جاء على لسان صاحب سفينة اجنبية قبيل ابحارها: كما اني لا استغل الشح في قمحكم, ويعترف ائمة الجوامع في صلاة الجمعة.. بالرغم من شح القمح الآن, ولذلك حظرت السلطات العثمانية على الغريب ان ينقل قمحا الى خارج البلاد المصرية او عبر ثغر دمياط, لكن التلاعب سار من قبل قبو دان الجمرك وكبير تجار دمياط معا. وقد ظلت اللحظة التاريخية التي شح فيها القمح مسيطرة حتى نهاية الرواية.