تنازعت الفكر العربي المعاصر لاكثر من نصف قرن مضى تيارات بارزة خمس، التيار الاسلامي السلفي او الاصولي، التيار الاسلامي المنفتح او المعتدل، والتيار القومي الاشتراكي، التيار القومي الليبرالي، التيار الشيوعي، على تفاوت بينها في القوة او الضعف من اونة لاخرى، او القدرة على بلورة رؤى واضحة محددة، واستراتيجيات وسياسات وبرامج عملية مجدية، فضلا على انقسامها الى العديد من الاتجاهات المتناحرة حتى ضمن التيار الواحد.. ويبدو ان مثل هذا التدافع الصاخب كان ضروريا لتجاوز واقع الحال المؤسف الذي رزحت تحته المسيرة العربية ردحا من الزمن.. ولكن هل من الضروري ان يستمر هذا التدافع بكل صخبه الى وضع تحسم فيه الامور تلقائيا.. او يسود فيه اتجاه دون اخر بنحو من القسرية، او الخضوع لتأثير العوامل الداخلية والخارجية؟ ام انه يمكن الخروج من كل هذا الى تدافع ايجابي يجد له في التقارب دون التباعد، والتفاعل دون التناقض، وتنفسا باتجاه عصر جديد واعد.
ما يبدو الان، من وجهة نظرنا، ان هذه التيارات جميعا لم تعد من خلال طروحاتها التقليدية مناسبة لتجاوز حالة الحراك العشوائي التي انتهت اليها نسبيا، بل حالة الركود احيانا، بفعل التطورات الجارية على الساحة الدولية وتحولات العصر الجسيمة التي باتت تلوح في الافق، فمن جهة، فان ثورة المعرفة والاتصالات وما يدعى بالعولمة بكل مظاهرها، بات تأثيرها يفرض نفسه على الجميع دون استثناء، فيما لم تسهم هذه التيارات، بل لم تستوعب بعد، او تأخذ بالحسبان هذه التطورات والتحولات، ولا ادل على هذا من ان معظم الطروحات التقليدية لهذه التيارات ما زالت مثلما نشأت في النصف الاول من القرن الماضي، الا من رتوش لا اثر لها في تغيير الصورة القائمة او تعديلها، ولهذا بقيت هذه التيارات جميعا مناط تأثر وانفعال يكاد يكون سلبيا تماما بازاء ما يجري.. ولم يعد لها من تأثير وفعل ايجابي، سواء اكان الامر يتعلق بتمثل ما يجري واستيعابه، ام بتقصي ما سيؤول اليه الامر، ام نقده، ام تطوير المواقف او تعديلها بما يتناسب والوضع المستجد.. هذا من جهة، اما من جهة اخرى، فان العصر ينذر بتحولات جسيمة طارئة يفرزها عصر الحداثة وما بعد الحداثة، والتي لا شك بان تأثيرها البالغ سيترك اثره على جميع التوجهات، بما فيه التيارات السالفة، التي يبدو انها لم تستطع بعد رصد هذه التحولات واستيعابها والتوصل الى كيفية التعاطي معها، او اتخاذ مواقف فاعلة بازائها.
والتحولات التي ينذر بها العصر عند محاولة استقصائها كبيرة وخطيرة، لعل من ابرزها ما يدعى بالعولمة، وهذه باتت غنية عن الشرح والتحليل، وما يدعى بالعلمنة، وهذه تعني عدم العناية الا بما هو «هنا» و«الان» اي تصميم للمستقبل وفق النظرة العلمية البحتة بالابتعاد عن اي مصدر آخر، وما يدعى بالأتمتة، التي تفيد استغلال المكننة والتكنولوجيا والآلات الذكية لتلعب دورا بارزا يسلم الانسان قيادته لها، لعلها تنقله النقلة النوعية التي تجعل منه سوبرمانا.. ثم ما يمكن ان يسمى بالتسارعية، من حيث ان ثورات فعلية تشق طريقها بتسارع كبير في مجالات المعرفة، والتكنولوجيا، والاتصالات، والمال، وغير هذا من ثورات بات من الصعب رصدها فضلا على مساوقتها، وما يمكن ان يسمى بالتخايلية، اي استعمال الخيال بشكل يفوق الاحتمال لا سيما في الانتاج العلمي والادبي والفني، وما يمكن ان يسمى بالعنفوية، اي اتجاه استعمال العنف بغير حدود في كثير من السلوكيات المعاصرة.. فهذه التحولات وغيرها جسيمة وتفترض ان يصار الى الاستعداد الكافي لمواجهة تأثيرها او الحد منه، مما يلزم بان تتولى التيارات العربية المنوه بها التفكير فيها ومعالجتها، واتخاذ المواقف والخطوات الفاعلة بازائها، سلبا كان الامر ام ايجابا، والمقصود هنا، اما مقاومتها مقاومة فعلية بحسب ما يرى انه سلبي منها او الانخراط فيه ايجابيا بحسب ما يرى انه ايجابي منها، او تقديم بديل عملي لها.
واذا ما استعرضنا ما ينخرط فيه كل تيار على حدة، خلال العقود الاخيرة مثلا، لوجدنا ان التيار الاسلامي السلفي الاصولي، يكاد لا يحفل بشيء مما يجري لصالح نموذج يحاول استعادته من التاريخ واحلاله في الحاضر، وبهذا فهو يتجاهل كل ما يجري ويحدث، ولا يحفل بمستوى الوعي بالذات المعاصرة وتطويرها، وانما ينشط بمحاربة كل التيارات الاخرى، بما فيه التيارات الخارجية، كالحداثة، وما بعد الحداثة.. وتبعا لهذا بقيت قضاياه معلقة بالماضي وحده، وسلوكيات عفا عليها الزمن، ولا نرى حاليا مجالا كبيرا امام هذا التيار لتقديم نموذج يمكن اعادة قبوله وتعميمه.. اما التيار الاسلامي المنفتح المعتدل، وهو تيار يحاول الاستفادة من الماضي الى جوار الحاضر، فهو رغم المحاولات الجادة له نحو التطور والتقدم النسبي لبلورة اتجاه يؤسس او يؤدي الى نقلة نوعية في التفكير والفعل، الا انه لم يوفق بعد تماما في وضع انصاره على طريق الحداثة المناسبة التي يدعو اليها، بما يحتفظ بالاصول النقية، وعدم الممانعة في الاستفادة من بعض مقولات الحداثة الغربية.. وتقديري ان هذا التيار سيلقى قبولا اكثر، وسيفلح في النمو والازدهار اكثر حين يبلور اتجاهه بشكل اوضح، بحيث يكون اكثر احاطة وتأثيرا فيما يجري، وحين يهضم بعض الطروحات الحداثية دون التفريط في الاصول النقية المعول عليها، وحين يعالج تطورات العصر وتحولاته.
اما التيار القومي الاشتراكي، فهذا التيار، مع انه كان الابرز خلال حقبات مضت، الا انه يكاد ينزوي نظرا لاخفاقاته المتتالية في تحقيق شعاراته، واخذه بالاشتراكية التي اصيبت بنكسات موجعة، مما لا يدع له فرصة في ان ينتعش خلال الفترة المنظورة، المليئة بالتدافع والحراك والتطورات، التي تتطلب خطوات سريعة باتجاه التعاطي معها، لا الجمود المذهبي والحراك البطيء.. يضاف الى هذا انه ما زال بعيدا عن التطور لاكثر من نصف قرن، ومن التواصل مع الاتجاهات الاكثر حيوية الان كالاتجاه الاسلامي المنفتح، وهو شبه مدهوش بين ان يبقى على اصوليته او ان يتقارب مع التوجه الاسلامي المنفتح او التوجه الليبرالي.
اما التوجه القومي الليبرالي، وهذه تسمية مجازفة تجمع قوى عديدة نافذة ومسيطرة حاليا ليبرالية في توجهها، فلا شك بانه لم يتقدم خطوة واحدة الى الامام على مستوى الوعي بالذات والاستقلالية المفترضة، الامر الذي ابقاه شبه تابع لليبرالية الدولية التي ازدهرت فيها الذرائعية بشكل كبير ويكاد يجاريها حسب وهو على اي حال لا تأثير كبيرا له على المستوى الشعبي ولا بازاء ما يجري في العصر نظرا لتبعيته، والخسائر التي يتسبب بها ماديا ومعنويا، بانصياعه لارادة القوى الدولية الفاعلة بشكل يكاد يكون قسريا، وفقدان الدعم والتحالف محليا.
اما التيار الشيوعي، فقد انتهى الى وضع مؤسف بانهيار منظومته الدولية، ولم يعد بوسعه ان يكون حاضرا، فضلا على ان يكون مؤثرا، ومريدو هذا التيار، في ضوء ما آلت اليه الشيوعية، يجدون انفسهم امام موقف صعب حقيقة، بين ان يتمسكوا بمواقفهم التي لم تعد تحضى بالاهتمام الشعبي، وبين ان يقتربوا من التيار الليبرالي، الاقرب اليهم من جهة الحداثة الغربية، او التيار الاسلامي المنفتح، الاقرب اليهم من جهة العدالة والنضال.
ان هذا يبين ان تيارات الفكر العربي المعاصر، على الفروق التي بينها، مقصرة من نواح عديدة: ناحية الوعي بالذات، وناحية السعي الى التطور الطبيعي الذاتي الضروري لاستئناف المسيرة، وناحية استيعاب ومعالجة تطورات وتحولات العصر التي ستترك اثرها على سير المستقبل.. والحقيقة المجردة، انه ليس امام بعض هذه التيارات كالاصولي، والقومي الاشتراكي، والشيوعي، من مجال ولو محدود بان تلاقي النجاح على المستوى العام والدخول في المستقبل في المدى المنظور، الا ان تساوق الاتجاهيين الحيويين في هذه المرحلة، اي الاتجاه الاسلامي المنفتح والاتجاه القومي الليبرالي، فهذان التياران اذا ما تعايشا معا على اساس من التكامل فان لهما الفرصة في تلافي الوضع القائم والدخول في المستقبل على اساس ان يتعايشا فيما بينهما على نحو من الاعتراف بالقبول والتعددية، والابتعاد عن المناهضة القمعية، او التمترس على غير طائل، وان يراعيا المبادئ والمصالح معا لا الانفراد بأي منهما.
ما نخلص اليه من خلال هذا التحليل هو ان جميع التيارات العربية المعاصرة، التي تكاد تفقد فاعليتها وحضورها، او تدخل في صراعات غير مجدية، لديها الفرصة لمراجعة مواقفها واتخاذ قرارات صعبة واجراءات سريعة وحاسمة لما ينبغي لها ان تتحرك في اطاره، ولا يعني هذا سوى مناصرة الاتجاه الاسلامي المنفتح على اساس من اخذه بعناصر ايجابية من جميع التيارات الاخرى، كالقومية، والديمقراطية، والتعددية، وتفهمه ومعالجته لتطورات وتحولات العصر، واخذه بالمصالح الى جوار المبادئ، ومعالجة بعض طروحات التيارات الاخرى بما يكفل التوصل الى قناعات بازائها.. فهل من تبصر واستبصار بما يمكن ان تؤول اليه الامور، ومن ثم اتخاذ المواقف والخطوات الكفيلة، لا باجتراح المعجزات، ولكن للسير في طريق اكثر امنا وجدوى في الحفاظ على الاستقلال والثروة والدفع اللازم لعملية التطور ومواكبة التطورات الجارية؟ بطبيعة الحال فان هذا لا يتم بالتمنيات والابتهالات دون الاستيعاب والعمل الدؤوب المخلص باتجاه وضع الامور في انصبتها، وهنا يمكن توجيه الدعوة لانصار التيار الاسلامي المنفتح، الاكثر قبولا وشعبية، ان يوجد لديه متسعا لطروحات تنادى بها بعض الاتجاهات الاخرى بما لا يتعارض والاصول النقية التي ينطلق منها، ومحاولة تبني معادلة توافقية، ضمن جبهة واسعة تلتقي فيها جميع التيارات ولو ضمن الحدود الادنى، ولا نحسب ان اتجاه الانفتاح اساسا لا يسعى الى الاستفادة من مختلف التجارب والافكار العملية، في سبيل الدخول الى المستقبل بتعاون وتظافر وقوة وتحديث الثقافة العربية الاسلامية.
والمطلوب من جميع التيارات الاخرى تقديم بعض التنازلات ايضا لصالح خلق جبهة قوية تسعى لمجابهة التحديات والاستجابة لها في ذات السبيل، اما ان يبقى كل شيء على حاله، والاستمرار على وضع التنابذ والفرق، وادعاء الحقيقة المطلقة، فهذا سيكون مآله وخيما، لا يسغر الا من ضياع الذات، وتدمير الهوية، وفقدان القدرة على الخيار، والانتهاء الى وضع مؤسف لا حول لنا فيه ولا قوة، فهل هذا مما يرضى به عاقل؟ بقي علينا ان نقول ان على التيار القومي الليبرالي، او اجهزة الحكم ونخبها، ان تعترف بما يجري على الساحة، وان تدعم تقارب جميع القوى، وتكسبها انصارا لها، بدلا من مصانعة الغرب واعوانه والذهاب بعيدا عن المسار المجدي، فماذا يجدي ان تربح العالم وتخسر نفسك!
ان لنا هنا في الاردن في تجربة الميثاق الوطني الرائدة، اذا ما اخذت بمصداقية ومن ثم حظيت بالتفعيل والتطوير، ما يشكل منطلقا حقيقيا في سبيل ما هو اجدى وانجع يعد بتحقيق الكثير مما لفتنا النظر اليه في هذه المقالة، فهل من استجابة؟!