هناك أسلوبان لتفسير النجاح في المشروع العراقي، وفي ضوء مواجهة التمرد السني النشط - وإن كان محدودا- معززا بالفظائع التي ارتكبتها القاعدة، فإن ذلك يغري المرء بالتركيز على العنف لتقييم النجاح، ومن ثم الحكم من منطلق تحليل جدوى التكاليف.
ضع في عامود مجموع القتلى من الأميركيين والبريطانيين ـ والذي يبلغ 3000 أميركي و مائة بريطاني، ثم حاول أن تستخلص معنى لفقدان أرواحهم، ستجد أنك ستفشل في هذه المعادلة عندما تتطرق للأمن الذي أدى لفقدان الأرواح. المنطق الوحيد الذي ستتوصل إليه في النهاية هو الانسحاب.
لكن، هناك الأسلوب الآخر في الحساب والذي يتطلب تعرية مسألة العنف وحساب التقدم في العراق ليس من منطلق عدد القتلى من الجنود الأجانب أو من العراقيين، بل من منطلق مدة تحقيق تجذر الديمقراطية في العراق. يجب عدم الإجابة على سؤال ما إذا كان يجب أن تبقى القوات البريطانية والأميركية من منطلق عدد القتلى من الطرفين، بل إذا كان لوجودهم أية فائدة.
فات الأوان على الجدل حول ما إذا كان الاحتلال على حق أم على خطأ. بدلا عنه، وبعد إزاحة صدام، هناك التزام بمحاولة فرض استقرار عام في العراق. وأستخدم هنا عبارة «عام» للدلالة على واقعية طرحي للقضية ونظرا لأن تاريخ العراق حافل بالعنف اليومي. فإنني لا أؤمن بإمكانية حل مشاكل العراق في عقدين من الزمن، فما بالك بعامين؟
لكن نتائج التخلي عن دولة قد سقط نظامها وتقف على عتبة مواجهة عنيفة بين الشيعة والسنة له تبعاته على المنطقة برمتها، مما سيؤدي إلى إثارة أسئلة أساسية: ما الذي تم تحقيقه، وما الممكن القيام به قبل أن تغادر القوات البريطانية والأميركية ؟
تتوفر الإجابة في مسار القوتين السياسيتين المتنافستين : تستخدم مؤشرات التنافس من قبل المتفائلين الراسخين في العراق والمتشائمين.
شهدت الانتخابات العراقية في كانون الثاني الماضي مشاركة واسعة، وكما تؤكد قوائم الذين سجلوا للمشاركة في الانتخابات في المناطق السنية ، فقد كان من الممكن اشتراك السنة في العملية الانتخابية، لو أن المقاطعة لها لم تتم. كما تؤكد المساهمة الاجتماعية والسياسية للشرطة، العاملين في المستشفيات، أساتذة الجامعات والمحامين، على الرغم من التهديد بالاغتيال، أن للمجتمع العراقي إمكانيات غير مطروقة.
لكن معظم السياسات التي ظهرت في العراق إما علمانية، أو فئوية أو عنيفة، مهتمة بالسيطرة على السلطة في المدينة، على مستوى الأقاليم والمدن والوطن عامة. الاغتيال السياسي أمر اعتيادي، التعذيب منتشر، العملية القانونية خدعة، وقد اخترقت صفوف أفراد الشرطة والجيش من قبل الميليشيات المسلحة. بعد عامين من النصح والتدريب، ومن بناء الديمقراطية ومؤسساتها، لم يكن لهذا أي تأثير في تجاوز السياسات الفئوية، وقد أنتجت كذلك أحجية مثيرة للقلق في خضم رفض محتمل للدستور الجديد الذي وضع بإلهام شيعي في المحافظات الثلاث التي يسيطر عليها السنة.
المعضلة هي ما إذا كان من الأفضل الاندفاع قدما بمزيد من الأمل للوصول إلى نقطة البدء، أو أن يكون التقهقر لخلف العملية السياسية أفضل. في هذه المرحلة التي يبدو أن المثالين يتداخلان ـ ليس من خلال العنف الذي تمارسه القاعدة، بل من خلال استراتيجية مغادرة يكون أساسها دعما طويل الأمد مصحوبا بانسحاب يعتمد التنمية السياسية والأمنية. عملية كهذه ستعترف بأنه في الوقت الذي يجب الإعتراف فيه بالتمرد السني الواسع وبطموحاته، إلا أن القاعدة في العراق، على الرغم من سفك الدماء الذي قامت به، لن تشكل إلا تحولا صاخبا عما يجري فعلا وسوف تذبل وتنتهي.
هناك مؤشرات أن بعض القيادات العراقية الجديدة أخذت تعترف بأن مستقبل دولتهم الجديدة يعتمد على جهدهم ، وتقوم وكالة تقودها الحكومة بمصاحبة السفيرين البريطاني والأميركي بوضع شروط أمنية وسياسية لانسحاب مرحلي للقوات متعددة الجنسيات ومن المتوقع أن تصدر الوكالة خطة هذا الخريف لخروج معظم القوات الأجنبية من العراق.
في الوقت ذاته، ينادي رئيس الوزراء العراقي السابق ـ إياد علاوي، وهو شيعي علماني، بعقد منتدى للجمع بين مختلف الجماعات العلمانية المعارضة. وقد قال علاوي للإعلام العربي أن عدم التصويت على الدستور قد يزيل عائقا أمام ظهور جماعة أكثر شمولية واعتدالا في انتخابات كانون الأول القادمة.
إن هذه استراتيجية طويلة الأمد محفوفة بالمخاطر. قد لا ينجح أي منها، وقد تعصف بالعراق حرب أهلية بكل ما تحمله من ألم وعدم استقرار إقليمي، لكن هذا ليس أمرا محتوما، ومن المبكر جدا الهرب من الساحة.