مجدي ممدوح - دخل فكرنا المعاصر في حلقة مفرغة بعد أن وقع أسيرا لثنائية زائفة تقوم على التناقض الحاد بين قطبي هذه الثنائية: «التراث» و«المعاصرة»، وتم التعامل مع قطبي الثنائية وكأنهما نقيضان، فإما التمسك بالتراث وإما اللحاق بركب الحداثة والمعاصرة، وباتت المعاصرة تفهم من قبل بعضهم وكأنها نقيض للتراث أو أنها تسعى دائما إلى تقويض التراث والقفز عليه بينما يطرح التراث دائما بصفته عائقا وحجر عثرة في سبيل الانتقال بالمجتمع إلى المعاصرة والحداثة، وباتت هذه المشكلة مثارا لجدل لا ينتهي ومناظرات واتهامات بين أنصار قطبي الثنائية، ولا ادري كيف وصل الأمر لأن يطرح بهذه الطريقة المبتسرة: «إما تراث وإما معاصرة».
الواقع أن هذه الثنائية لم تظهر في أية أمة كما ظهرت في أمتنا العربية وربما الإسلامية عموما، وبهذه الحدية، ولو تتبعنا هذه المشكلة بين بقية الأمم لما وجدناها بهذه الحدية أو أنها غير موجودة على الإطلاق، ونلاحظ أن هذه المشكلة غير موجودة في اليابان مثلا، حيث نشاهد تعاليم كونفوشيوس منقوشة على جدران أحدث المصانع والمختبرات الحديثة في تزاوج مبدع بين الماضي والحاضر، وهذا يؤشر بوضوح على عدم وجود صراع من النوع الذي يوجد في أمتنا .
ويبدو أن هذه الفجوة في واقعنا العربي فجوة هائلة لا تردم بحيث أنها باتت تشكل المعلم الأساسي للصراع على المستوى السياسي والفكري والعقائدي، صراع يتفاقم بين حماة الماضي والتراث والهوية وبين دعاة التحديث والانفتاح على العصر المتمثل بالآخر الغربي، ونود هنا تقصي وتوضيح الأسباب التي أدت إلى اتساع الفجوة بين ماضينا وحاضرنا، بين تراثنا وواقعنا الراهن، بين هويتنا وواقعنا المعاش.
ربما يكون السبب الرئيسي في هذا التناقض الذي نحياه هو توقف العقل العربي عن الإنتاج منذ ما يقارب العشرة قرون، بالطبع نحن لا نعني التوقف التام، فهناك مجهودات متفرقة وفردية استطاعت أن تقدم تجارب منضجة في مقارباتها للواقع العربي، ولكننا نستطيع القول بكل ثقة أن هذه التجارب كانت واحات متباعدة وسط صحراء، وبقي التيار المهيمن في واقعنا هو تغييب العقل وتوقفه عن الإنتاج المتجدد المواكب لحركة التطوير الاجتماعي.
لقد حقق المجتمع العربي تطورا ملحوظا على صعيد قوى ووسائل الإنتاج وتطور البنى الاجتماعية، ولكن هذا التطور لم يرافقه أي تطور في البنى الفكرية والعقائدية والعقلية مما أدى إلى نتيجة متوقعة وهي وجود فجوة كبيرة بين الواقع المعاش والمنظومة الفكرية والعقائدية السائدة، مما يجعل هذه المنظومة لا تصلح لمواكبة وتفسير هذا الواقع المتسارع وبالتالي قيام الدعوات المتطرفة من كلا القطبين بين داع إلى العودة إلى المنابع الأولى وإلى شروط الحياة الماضية ونبذ كل ما هو مستورد وحديث بدعوى أن الأسلاف لم يفعلوا كل ذلك وتنادي هذه الدعوات إلى العودة إلى أساليب الحياة القديمة مثل رفض استعمال فرشاة الأسنان والعودة للسواك ورفض ارتداء الملابس الحديثة والإصرار على لبس الدشداشة القصيرة، وعدم حلق اللحية والتركيز في تحصيل العلوم على علوم الدين والحديث والتراث بصفتها أشرف العلوم والإصرار على عدم استعمال المرافق الصحية الحديثة، والتشكيك بالمعالجة الطبية العصرية واعادة الاعتبار للحجامة والحبة السوداء والعسل بصفته شافيا لكل الأمراض، والواقع أن هذه الدعوات تريد الإبقاء على نمط الحياة التراثي حتى يكون ملائما للمنظومة الفكرية التراثية وأن لا تضع نفسها في تناقض بين الفكر والواقع.
والواقع أن هذه المشكلة لم تظهر هكذا فجأة بل إنها تراكمت وتفاقمت عبر مئات السنين، والسبب كما أسلفنا هو توقف العقل العربي عن الإنتاج، وإذا كنا نريد أن نضع تاريخا محددا لتوقف العقل العربي فإننا نستطيع أن نؤرخ لنكبة المعتزلة في عام 512هـ كبداية لاغتيال العقل وتحييده وسيادة التيار الفقهي المحافظ الذي وضع العقيدة في دستور مكتوب أسموه «العقيدة القادرية» نسبة إلى الخليفة القادر وعلق في الجوامع والمدارس والطرقات وأصبح من يخالف هذه العقيدة زنديقا وكافرا، والواقع أنه لم يمض قرنان أو ثلاثة على نكبة المعتزلة وانحسار التيار العقلي في الحضارة العربية حتى بدأت تظهر مشكلة جديدة هي معضلة التوفيق بين العقل والنقل، فبعد تقدم العلوم والفلسفة أصبحت المقولات النقلية في مأزق حقيقي عند امتحانها من قبل العقل، وانبرت العقول العربية في محاولة يائسة للمصالحة بين العقل والنقل، وأهمها بالطبع محاولات ابن رشد في القرن الثامن، فكانت هذه المعضلة حاضرة في كتابه «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، ومع أن ابن رشد في الظاهر كان يهدف إلى إقامة اتصال وتوافق بين الشريعة والعقل إلا انه انتهى إلى ما يشبه الانفصال والقطيعة بين العقل والنقل، وابن رشد بدا مرتبكا وغير متماسك معرفيا وهو يخوض في هذه القضية الشائكة، ومن اشهر الآراء المثيرة التي تبناها لتجاوز هذه المعضلة أنه يمكن أن تكون قضية ما قضية صادقة في الدين، ولكنها في العلم تكون قضية باطلة وبالعكس.
ولقد قام الغرب في القرون الوسطى بتبني أفكار ابن رشد كونه يفصل بين الدين والحياة أو بشكل أدق يفصل بين الدين والدولة، والواقع أن هذه المعضلة لم تكن لتظهر لولا اغتيال العقل باغتيال التيار المعتزلي فالمعتزلة استطاعوا عبر تقنيات التأويل والتفكير العقلي أن يحلوا هذا التناقض بين النصوص الدينية والعقل. وقد استطاع المعتزلة أن يستوعبوا الإشكالات التي برزت مع تطور العلوم والفلسفة عندما احتك العرب بالأمم الأخرى فقد استطاع المعتزلة بمهارة أن يحلوا معضلة التجسد الإلهي، أن لله يدا أو عينا أو رجلا أو أنه جلس على العرش أو استوى على الكرسي. وكان تأويلهم موفقا عندما استخدموا تقنيات المجاز في اللغة في إعادة الاعتبار للرؤية التنزيهية للإله أي أنه منزه عن التجسد فالعين لا تعني إلا الرعاية واليد تعني القوة والإصبع يعني التدخل في الأمر، ولكن مع غياب التيار المعتزلي توقف هذا النشاط وبدأت الفجوة بالاتساع حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من قطيعة حادة وفجوة لا تردم بين العلوم النقلية والعقل.
ويبدو أن هذه المشكلة لا زالت لغاية الآن تشغل عقولنا وتستنزف فكرنا، وأصبح هاجسنا في الوقت الحاضر هو إيجاد جذور تراثية لكل ما هو حديث والنبش في تراثنا حتى نرجع كل الظواهر الحداثية والكشوفات العلمية إلى جذور هذا التراث وأصبح بعضهم يقع في مطب السذاجة عندما يحدث مقارنات سطحية بين المنجزات الحداثية والتراث العربي، وأصبح بعضهم يتلقف التشابهات اللفظية من أجل إثبات الدعاوى التي يذهبون إليها، فبعضهم مثلا أحدث مقارنات غير موفقة بين شك الغزالي والشك الديكارتي وبين مفهوم السببية عند ديفيد هيوم والغزالي، وبرز تيار جديد يقوم على إرجاع كافة الاختراعات العلمية والنظريات الحديثة إلى النصوص القرآنية، حتى أن مفهوم الحداثة بأكمله ثم إرجاعه إلى فكر ابن رشد وكأن الحداثة الأوروبية المنشأ لا بد لها هي الأخرى من مرجع تراثي، ومن المفارقة أن ابن رشد تعرض في حضارتنا إلى نكبة عندما اتهم بالزندقة والكفر وتم إحراق كتبه ونفي وشرد بسبب نزعته العقلية، لقد حاربنا ابن رشد عندما كان حاضرا وراهنا وواقعا ولكننا الآن رجعنا لنقدسه وننصبه عرابا للحداثة بعد أن أصبح تراثا وكأن الفكر لا يصبح مقدسا وصحيحا إلا عندما يصبح تراثا.
ومع أن الإمام محمد عبده ظل هاجسه التراث والماضي إلا انه كان ذا نزعة عقلية تنويرية وقد أحدث تبدلا مهما في نظرتنا إلى مسألة (التراث ـ المعاصرة). ويكمن المنحى التجديدي الذي كان قد نحاه محمد عبده في أنه وظف الحداثة وتقنياتها إلى أداة منهجية لتحليل التراث وفهمة ونقده وسوف نلحظ أن هذا التيار الجديد سوف يطبع كل المحاولات الحديثة في قراءة التراث، ونلاحظ أثر ذلك في مشاريع محمد اركون، الجابري، الطيب تيزيني، وحسين مروة وغيرهم ممن حاولوا قراءة التراث وتحليله من منظور حداثي معاصر، ولا بد من الاعتراف أن هذا التوجه الجديد ندين به بالكامل إلى فكر الإمام محمد عبده التنويري، لقد قلب محمد عبده تصورنا عن هذه المسألة فأصبحنا نحاكم التراث بالمعاصر وليس إخضاع المعاصر وحشره في التراث.
والحقيقة أن هذا التيار الجديد لم يلاق قبولا من قبل أنصار التراث والداعين إلى تقديسه، فلجأ بعضهم إلى الدعوة إلى احياء «علم الكلام» أو علم كلام معاصر كما هو واضح في مشروع المغربي طه عبد الرحمن والذي أراد إرجاع المشروع الحداثي الغربي وتطويعه وحشره في «علم الكلام» الإسلامي، مع أن علم الكلام قد ظهر في زمن مختلف كل الاختلاف وتوقف منذ ما يقارب التسعة قرون ولم يواكب التطورات التي حدثت في الفكر العربي، والدعوة إلى إحيائه فيها من الشطط الشيء الكثير ولنضرب مثالا على ذلك أن طه عبد الرحمن قام بترجمة الكوجيتو الديكارتي (أنا افكر فأنا إذن موجود) ترجمة جديدة هي (انظر، تجد) وهنا نلاحظ أن كلمة «انظر» هنا مربكة فإذا كانت تعني النظر البصري فإننا هنا نبدو وكأننا ننتقل من الوجود إلى الوجود لأن النظر البصري يستتبع وجودا انطولوجيا ويصبح الكوجيتو هنا بلا معنى أما إذا أراد طه عبد الرحمن بكلمة «انظر» النظر العقلي فإنه هنا يعود ليغرقنا في مجاز اللغة وغموضها الذي جاهدت الفلسفة لكي تتخلص منها واتجهت إلى لغة المنطق الصوري واللغة الرياضية في رحلتها نحو تثبيت الفلسفة كعلم يقيني، ولا أرى في ذلك أي حجية. ولقد عمد الأزهر إلى إقامة ندوة موسعة وبالتعاون مع الجمعية الفلسفية المصرية تحت عنوان «نحو علم كلام معاصر»، ومرة أخرى لا أرى أي مبرر أو فائدة من استنزاف العقول العربية في حشر الحداثة والمعاصرة في قوالب التراث وعلم الكلام المنقرض منذ قرون.
ونلاحظ أن الخطاب التنويري يلجأ إلى الازدواجية، ففي الحين الذي يدعو بجرأة إلى تحليل الواقع الاجتماعي وتشريحه بمنظور حداثي نراه يتحول إلى نوع من التبرير أو حتى تجميل كل ما يتصل بالتراث وكأن اصحابه يطلبون صكوك غفران من التراث وحماة التراث.
يبدو أن هاجس التأصيل سيبقى مهيمنا على كل المشاريع الفكرية التي تظهر في العالم العربي، والسبب في ذلك يعود إلى حد ما إلى ارتباط هذه المسألة بمفهوم «الهوية»، ولا زال مفهوم الهوية مرتبطا ارتباطا مباشرا بمفهوم العقيدة، باعتبار العقيدة خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه وتصبح الأنا هنا متماهية مع العقيدة فتصبح الأنا العربية هي العقيدة، وقد لاحظنا أن حماة التراث والماضي قدموا الكثير من الرؤى الحداثية فيما يتعلق بالشريعة التي هي عبارة عن أمور دنيوية وقدم الكثير من رجال الدين المتنورين فتاوى معاصرة اتسمت بالجرأة والتجديد فيما يتعلق بالمعاملات المالية والتجارية وكل المسائل الحديثة التي استجدت في مجتمعنا، ولكن الأمر حين يتعلق بالعقيدة فإن الموقف يبدو مختلفا، والعقيدة التي أعنيها هنا هي العقيدة القادرية والتي هي في اغلبها أشعرية، وكأن العقيدة بوصفها هوية لا يجوز المساس بها أو حتى وضعها موضع بحث أو مساءلة، وهنا نلاحظ فصلا تعسفيا بين العقيدة والشريعة مع أنهما يشكلان معا هويتنا الحضارية بالإضافة إلى عناصر الحضارة الأخرى من تاريخ وثقافة وفنون وعلوم، وسوف تبقى المشاريع الحداثية في الفكر العربي تراوح مكانها ما دام هذا التماهي قائما بين العقيدة والهوية، واعتقد أن مفهوم الهوية بحاجة إلى مراجعة، ما هي هويتنا؟ ومن نحن؟
ربما نستطيع أن نضع هذه المسألة الآن بشكل أكثر تحديدا بربطها بمفهوم الهوية، ويبدو أن هناك مسافة تفصل بين الهوية والواقع المعيوش وهي المولد الدائم لكل الإشكالات والتناقضات التي تتناسل في واقعنا.