حاورها:جمال عياد - لا تزال ظاهرة المسرح العربي الراهنة، والبعيدة عن أشكال المسرح الاحتفالي الفرجوي المفادة عناصره من الموروث الشعبي، تحاول مراكمة جهود غير قليلة وصولا إلى التميز الفني مع نفس الشكل الغربي التي استلت منه في الربع الأول من القرن الماضي أو في محاولتها،هذه الظاهرة، شق طريق مغاير وخاص بها، من خلال محاولة تعبيرها عن البنية الثقافية السائدة في الأقطار العربية وتعالقاتها بالمحيط الآخر من الثقافات الإنسانية المجاورة، وخصوصا في إنشائها للشكل الجمالي الذي يؤثث الفضاء الدلالي النابض بالرسائل التنويرية.
إلا أن الجزء الأضعف في هذه الظاهرة والمتفق عليه من قبل صانعي المسرح،هو النقد المسرحي الذي يكاد يحبو في مسيره نسبة حتى إلى مراكمته لظاهرة المسرح العربي هذه، والتي أصلا تعاني من إشكالات وأزمات بنيوية على مستوى الشكل الفني، فضلا عن طبيعة مرجعياتها وهويتها.
إلا أن هنالك بعض الجهود الحثيثة في تواصلها مع حقل النقد المسرحي، لجهة إنتاجها تخصصا من خلال تقديم دراسات وتحليلات مستفيدة من الحقول الإنسانية برمتها، لتأسيس هذا الحقل وصولا إلى ثراء دلالي وجمالي ومفاهيمي، يعاضد وينهض بالشكل المسرحي الراهن في الأقطار العربية ، ومنه ما تقوم به السورية د. حنان قصاب حسن والتي التقيتها أثناء مشاركتها في فعاليات أيام عمان المسرحية العاشرة ، وحاورتها حول تعريف النقد المسرحي ومفهومه، وأين يقع هذا النقد في مسار انتاج العرض ، وكيف تنظر إلى هيمنة الصورة في الراهن على مفردات اللغة المسرحية، من باب أنها تقنية أو توجه ثقافي خاص بالعولمة، وهل أن نكوص ظاهرة المسرح له علاقة بطبيعة نشوئها في القرن التاسع عشر والتي من أهم سماتها أنها كانت تشكل البنية الثقافية للبيئة الاجتماعية الريفية والعشائرية آنذاك، هذه البنية التي لازالت تجلياتها ترخي بقوة بظلالها في الخطاب الأدبي والفني الراهنيين، رغم تقنعها بأقنعة (الحداثة) و(الطلائعية ) وغيرها من المسميات الأخرى المشابهة ، وكيف ينجو الناقد من خلفيته الأيديولوجية أثناء تحليله للعرض.
؟ هل يمكن تعريف النقد المسرحي بمعنى محدد ؟ وهل للدراسة الأكاديمية أهمية لمن يلج هذا الحقل المعرفي ؟ - النقد المسرحي منهج علمي،ولا يمكن امتلاكه إلا بمعرفة عميقة وإلا جاء على شكل إصدار أحكام مسبقة وسريعة ،كما وإن مناهج النقد الحديثة ولدت من تداخل العلوم الإنسانية ، فلا يمكن التعامل مع المسرح من قبل ناقد لا يدرك الكثير من علمي النفس والتاريخ وتداعياتهما،لأن كل هذه العلوم تتحكم بمدى عمق هذه القراءة وشكل تناولها. وليس بالضرورة انتساب الناقد إلى جامعة أو كلية ، لأن القراءة والإطلاع الشخصيين يمكن أن يشكلا مساقا معرفيا هاما. ؟ أين يقع النقد المسرحي من العملية الإبداعية وماذا ينشد أساسا ؟ - إذا اخترنا أبعاد العمل المسرحي من الإنتاج وإلى التلقي يكون النقد المسرحي حلقة أساسة في تحقيق هذه النقلة، لأن النقد شكل من التلقي، يقوم على قراءة لغة العمل المقدم وتفكيك رموزه لإعادة إنتاج العرض، ولكي يتم هذا العمل بشكله الصحيح، لا بد من وجود أشخاص قادرين على تملك مقدرات هذه اللغة، لا بل وإدراك بنيتها لفهمها جيدا ومن ثم نقلها إلى الجمهور. وإذا كان النقد المسرحي مختصا فإنه يشكل البعد الموازي لعملية الإبداع ، وفي منطق الدراسات الحديثة، تعد قراءة العمل نوعا من الإبداع ، وتقوم عادة مؤسسات أكاديمية بتدريس وتأهيل نقاد ضمن مناهج تحليل المسرح، لتحدد المدلول الصحيح والدقيق للمصطلحات، وبالتالي يجيء الاستخدام صحيحا يخلو من الالتباس.
؟ هل يمكن اعتبار النقد جزءا من إنتاج العرض المسرحي، وبالتالي فإن هدفه لا ينحصر في تناول العرض(سلبا) و( إيجابا) وإنما يذهب إلى مناطق أخرى، ما رأيك؟ - إن النقد المسرحي هو جزء من عملية الإعداد ، بمعنى آخر فإن الناقد يمكن أن يعمل إلى جانب المخرج في تحضير نص ما للعرض، وهذا ما نعنيه بكلمة دراماتورج، وفي سوريا كان تأسيس قسم النقد المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية، من العوامل الأساس في ترسيخ حركة مسرحية معافاة وعلمية، وفيما بعد اتجه هذا القسم إلى الدراسات المسرحية، وبالتالي فإن هذا يؤكد دائما على أن النقد لا يعني بأن هدفه البحث عن الأخطاء أو كشف الأعمال المقدمة،وكأنهما هما الهدف فقط، لأن ذلك يشكل عائقا أمام الإبداع. وكانت الاتجاهات النقدية عادة تنصب على النص ومقولاته، ومن ثم بدأ التوجه والتحول التدريجي نحو العرض المسرحي يفرض نفسه شيئا فشيئا، وبالتالي صار تحليل العرض يسمى (قراءة)، وهذا ما تدعو إليه المناهج الحديثة في النقد كالبنيوية والسيميولوجية، فتقوم هذه المناهج، على استقراء البنية العميقة للعمل، ورصد مفرداته في تراكمها وبعدها الدلالي، بحيث يتحول كل عنصر من هذه العناصر، إلى علامة تكتسب معناها من علاقاتها بالعلامات الأخرى ، مع مراعاة التوجه الجمالي للعرض، ولذلك لا يمكن التعامل بمعايير الواقع مع عرض ينشأ ضمن اللعب على مسألة التغريب وكسر الإيهام، لأن المسرح ليس الحياة اليومية،لا بل لغة جمالية تنساق باتجاه بنية محددة، يجب أن يدركها محلل العمل، ويحاكم العلامات وفقها ضمن هذا المنطق. ؟ هيمنة الصورة كأداة تعبيرية في لغة المسرح العالمية الراهنة، هل يمكن النظر إليها في السياق الثقافي العولمي على إنها تقنية أم توجه سياسي أم ثقافي؟ - لا بد من التأكد على أننا نعيش في عصر (الصورة)، وكتطور جديد أعلن عن انتهاء (الكلمة) في لغة التواصل الإعلامية، وقد مهدت لهذا التغيير وسائل الاتصال البصرية والإنترنت، فضلا عن الشاشة الكبيرة والصغيرة، وغدت المعرفة تكتسب عن طريق الصورة أساسا،ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على مستوى الأعمال المسرحية لجهة التشكل البصري.
وفي هذا المقام، لا بد من ذكر أن الحضارة العربية، يحضر التواصل فيها عبر جماليات الكلمة أساسا، في حين أن الكلمة بالفنون البصرية، لها حضور أقل، ، لكن هذا الفهم اخذ في الراهن ينزاح ويتجه مقتربا من الصورة، بفعل المتغيرات الهائلة والمتسارعة الآخذة يوما بعد آخر، التأثير في الإنسان العربي، بفعل انخراطه سواء القسري أو الاختياري، ضمن تجليات العولمة التي تطغى فيها الصورة على قنوات الاتصال والتواصل وعلى مختلف الأصعدة، وبالتالي لا محالة من تغير الإنسان العربي وخصوصا الجيل الراهن، الذي وجد نفسه في عالم مليء بالصورة، وهذا يفسر بطريقة منطقية أسباب تراجع مستوى القراءة وتراجع الكلمة،و أنا أرى، بأن مسألة تراجع الكلمة وحلول الصورة محلها في خطاب التواصل الإنساني عموما، ما هي إلا معطى تقني وسمة لتوجه مختلف مرتبط بعصر السرعة وليس له علاقة بالمشاريع السياسية. ومن المعروف أن إدراك الصورة المتعلقة بالحدث، أسرع بكثير من إدراك الكلمة، لأن قراءة النص تعد عملية تجريدية تحدث على المستوى الذهني، في حين أن استقراء الصورة يتم على المستوى الذهني والحسي،وإن كنت أريد التحدث عن سمة جديدة للعروض المسرحية فهي ليس في طغيان البعد البصري، وإنما أيضا متعلقة بإنشاء الشكل في الفضاء والذي أخذ ينطرح عبر (اللقطات)، أو (الإسكتشات)، أو عبر المشاهد غير المترابطة، وهنا أحيل حدوث ذلك إلى مدى تأثير التلفزيون على عملية التلقي أثناء عملية الانتقال من محطة فضائية إلى أخرى عبر (الريموت كنترول)، وبالتالي انتقل هذا التأثير إلى الفكر الإنساني بفعل مسألة التلقي (المبعثرة) التي لا تمتد طويلا على شاشة واحدة، وكأن جيل اليوم أصبح نزقا لا صبر لديه لقراءة عمل متواصل وطويل ولا أيضا إنتاج مستمر وطويل. ؟ المسرح العربي، تغدو حيوياته في اندفاعها إلى الأمام بطيئة، سواء لانغلاق أغلب رسائلها على نفسها ضمن القطر الواحد، أو لازدياد انحسار الجمهور عن قاعات العرض، ما هو تحليلك لهذه الظاهرة، وهل لهذا علاقة مباشرة بنشوء المسرح العربي ضمن ثقافة كانت تشكل بنية فوقية للبيئة الريفية والبدوية العشائرية السائدة آنذاك البعيدة عن بنية الثقافة المدنية التي أفرزت ظاهرة المسرح الغربي؟ - بنية المسرح في الأقطار العربية ومنذ البدايات عكست بشكل مباشر تكوين وطبيعة المجتمع العربي ذاته، ولما كان المسرح مرتبطا بالمدينة وبالعلاقات الاجتماعية، أي بمرحلة ما بعد الريف، فإن وجوده يقتضي وجود العمران الاجتماعي المفرز لبنية ثقافية قريبة من المجتمع الصناعي الموصل بالشعور بالانتماء إلى رابطة أوسع من الدائرة العشائرية والوطنية والقومية، إلا أن وسائل الاتصال الحديثة في (القرية العولمية)، التي نعيش عززت من عزلة الفرد، وقلصت فرص الاجتماع مع الآخرين، وضعت المسرح بصفاته الجمعية، في خطر، وأصبح أهل المسرح أقلية، ولذلك تبرز الحاجة الآن، إلى الدفاع عنه وبضراوة لأنه وسيلة ثقافية، فلم يعد وسيلة من الكماليات لا بل ضرورة هامة يمكن إشهارها في وجه الانغلاق، وضد عزلة الحضارات عن بعضها بعضا.
؟ كيف يتخلص الناقد عموما والمسرحي خصوصا من الخلفية الإيديولوجية عند أجراء استقراءات أو مقاربات للعمل وتجلياته؟ - هنالك أشكال متعددة لمقاربة النقد المسرحي، أمام وجهات النظر المعينة، سواء لجهة الماركسية أو الوجودية، وغيرها من وجهات النظر الأخرى، ولكن هنالك أيضا الطريقة التي يتم النظر من خلالها إلى العمل المسرحي، على مستوى البعد الفني،و التي ليس لها علاقة بالمقولات الفكرية والسياسية المطروحة، لأن النقد المسرحي هو منهج في التحليل، ويتطلب موضوعية، بغض النظر عن التوجه الفكري للناقد أو للمبدع، لكن ذلك لا يمنع من أن يتمكن التحليل المسرحي من إبراز البعد الأيديولوجي لعمل ما، عن طريق تجلياته على المستوى الجمالي.
؟ إلى أين تسير العلاقة بين المؤلف والمخرج لجهة أيهما يفرض مقترحاته النهائية في العرض؟ - يفترض ان تحضر المسألة القانونية في تنظيم العلاقة فيما بينهما، وخصوصا بأننا في عصر احترام الملكية الفردية للكاتب المحمي بالشروط القانونية.ولكن فيما يتعلق بالنص المؤلف، والذي رحل صاحبه ،فإن من حق الورثة حماية حق ملكيته، لكن ليس للدرجة التي يتمسكون فيها بحرفية النص،كأن يحتج هؤلاء الورثة على المخرج لأنه أدخل الشخوص على خشبة المسرح من الطرف الأيمن وليس من الطرف الأيسر، وبرأيي فإن هذا المسلك يعد استبداديا، ولا بد من التأكيد بأن لمكنون النص، حضورا فنيا يتبدى في العرض بعدا روحيا، وخصوصا عبر ما يرويه شخوص العمل، لكن هذا لا يمنع أن يقوم المخرج بطرح حقه في القراءة التي يريد للنص، تماما كما للمتلقي الحق في إعطاء القراءة التي يريد للعمل، شريطة أن تجيء هذه القراءة متماسكة، تخلو من الخلل، فلا بأس أن أثري «هاملت» لوليم شكسبير، عبر قراءة تحمل بعدا سياسيا، أو لجهة إظهار صراع الأجيال لطالما بأن العمل المسرحي هذا ذا رؤية جمالية متماسكة في الفضاء، لكن تبقى العلاقة بين الكاتب والمخرج بالأساس ذات بعد قانوني.