حاوره: جعفر العقيلي - يرى الكاتب الأردني سعود قبيلات أن هناك مشكلة في لغة الأدب محلياً وعربياً؛ تتمثل في ستركيز كبير على التزويق اللغوي، وافتعال الحرارة في المفردات، واستخدام صيغ مفخمة، على حساب المضمون والقول الذي من المفترض أن يقوله النص .
ويؤكد صاحب في البدء.. ثم في البدء أيضاً و مشي و بعد خراب الحافلة أن المبدأ مهم جداً بالنسبة للإنسان، وأن الإنسان يقترب من المستوى البهيمي دون مبدأ . ويشير في الحوار الذي أجرته الرأي معه، إلى أثر علم النفس في كتاباته، حيث أنه حاول أن يستفيد من مخزون اللاوعي في قصصه عن طريق استخدام تكنيك الحلم، وعن طريق استخدام تكنيك الاختبارات الإسقاطية في علم النفس، بحيث يطمح النص إلى أن يضع القارئ في الحالة الشعورية التي يرغب الكاتب في التعبير عنها، بدلاً من الاكتفاء بوصفها .
وحول ما قد يبدو من تناقضٍ بسبب تشاؤمه في كتابته الأدبية، وتفاؤله في كتاباته السياسية، يبين قبيلات أنه في الأدب يعبر عن الإنسان الذي يعاني من وطأة اللحظة الراهنة، ويكشف من خلال ذلك بصورة غير مباشرة عن تناقضات واقعه التي من المفهوم ضمناً أنها لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه، ولكنه في الكتابة السياسية ينظر إلى معطيات موضوعية، وينظر إلى حالة الصراع الدائمة، فيعبر عنها. وهو يشير في سياق متصل إلى أن الكتابة التي قد لا تبدو ملتصقة بالواقع، هي أيضاً بالضرورة نابعة منه .
ويقف قبيلات موقفاً ضدياً من تعبير (القصة القصيرة جداً)، لأنه، كما يرى، يستند إلى معيار كَمي؛ معتبراً أن هذا الشكل ضئيل الحجم ضرب من ضروب القصة، وأن الشروط الفنية التي تحكم القصة، بغض النظر عن كبر حجمها أو صِغَره، هي نفسها التي تحكمه .
تالياً نص الحوار:
لغة باردة
$ ثمة من يصف لغتك في كتابة القصة بـ اللغة الباردة ، إلى أي مدى تتفق مع هذا الوصف أو تختلف معه؟
هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها مثل هذا الوصف للغتي، ولكن إذا كان المقصود هو ابتعاد هذه اللغة عن الصيغ الشعرية فنعم؛ لغتي تتجنب إلى حد بعيد استخدام هذه الصيغ.
أنا أعتقد أن هناك مشكلة في لغة الأدب محلياً وعربياً؛ هناك تركيز كبير على التزويق اللغوي، وافتعال الحرارة في المفردات، واستخدام صيغ مفخمة، على حساب المضمون والقول الذي من المفترض أن يقوله النص.
في كثير من الأحيان أقرأ نصاً، ولأول وهلة أتوقع أن تقول لغته المفخمة شيئاً مهماً، ولكنني ما أن أفك رموزها، حتى أكتشف أن الأمر غير ذلك تماماً. يجب أن تقوم اللغة في رأيي بمهمتها الأساسية، الأصلية؛ وهي إيصال الفكرة والمعلومة بنجاح، وهذا لا يتحقق إلا باستخدام لغة صافية، واضحة، ودقيقة.
وزد على ذلك أن الانزياح، الذي هو من خاصية الشعر واللغة الشعرية، يصبح في هذه الحالة، حاجزاً إضافياً أمام تواصل القارئ مع مكنونات النص العميقة. وهناك فرق في رأيي بين أن تكون لغة النص شعرية، وبين أن يكون النص محمولاً على حالة شعرية.
وبالنسبة لي أحاول أن أعود بالقصة إلى أصلها الحكائي، وهذا يتطلب تخليصها من الزوائد اللفظية والتزويق والشعرية الزائفة المبتذلة والصراخ الوجداني. ربما يصف بعضهم هذا بمجمله بـ اللغة الباردة ، وقد يصفه آخرون بأي وصف آخر، لكنني أتعامل مع الأمر بتصميم واضح، كما أنني في داخلي أنفر تماماً من النصوص المثقلة باللغة المجانية التي لا تخدم البعد الحكائي، ولا تقدم معلومة أو فكرة. وعندما أرى نصاً على هذا النحو، أجد صعوبة في التواصل معه، وأعتقد أن القارئ أيضاً بشكل عام يجد صعوبة في ذلك.
هناك أكثر من مفهوم للغة يتداوله الممارسون للكتابة؛ مفهوم يركز على الزخرفة والتزويق، وهناك مفهوم آخر يركز على استخراج طاقات اللغة الكامنة، مع الحرص على استخدام مفرداتها كما هي في الحياة اليومية، وبصورة محايدة، وقد تبدو اللغة في هذه الحالة كما أشرت أنت باردة ، إلا أنني أميل إلى هذا النوع الأخير من الكتابة.
$ وكأني بك تقف ضد فكرة توظيف الشعر في القص، وبالتالي ضد التداخل الذي يدعو إليه بعضهم بين الأجناس الكتابية بإزالة الحواجز بينها؟
كما أوضحتُ قبل قليل، أنا لا أميل إلى استخدام اللغة الشعرية في القصة، أو في النص النثري بشكل عام، بل إنني أميل إلى استخدام اللغة العارية، والألفاظ العارية في الشعر نفسه، وأعتقد أنها أكثر صدقاً وأكثر نجاحاً في إيصال الفكرة والشعور والمعنى. ولكن هذا لا يمنع، كما أشرتُ أيضاً، أن يكون النص محمولاً على الحالة الشعرية. وقد تبدو اللغة بمفهومها الأولي أحياناً محايدة أو سباردة ، ولكن عندما تُقرأ يشعر القارئ بأنها لامست وتراً عميقاً في داخله، بينما قد يُشْعِره نص مثقل باللغة الشعرية والصراخ الوجداني بالإعياء والنفور، وأنه حيال استعراض مبتذل لا يثير التعاطف بمقدار ما يثير الاستهانة والاسخفاف به.
التحليل النفسي
$ يلحظ المطلع على تجربتك الأدبية، أثراً واضحاً لعلم النفس فيها. ما الذي يمكن أن يضيفه هذا العلم للكتابة الأدبية عموماً، وما الذي ترى أنه أضافه إلى كتاباتك؟
أود أن أشير أولاً إلى أن دراستي الجامعية كانت في علم النفس، وقد أحببت هذا العلم وتعاملت معه بالشغف نفسه الذي تعاملت به مع الأدب. وعدا عن ذلك، فقد تابعت الاهتمام بدراسة مدارس علم النفس واتجاهاته المختلفة بعد الجامعة.
ومن ناحية شخصية وأدبية، تأثرت بالعديد من المدارس، ولكنني أعتقد أن مدرسة التحليل النفسي التي أنشأها سيجموند فرويد، كان لها دور كبير في التأثير فـي وفي أدب القرن العشرين بوجه عام، بل لقد أحدثت هذه المدرسة ثورة أدبية كبرى. وأنتجت العديد من المدارس الأدبية التي تأثرت بها.
وهذا ليس بغريب، إذا أن فرويد بنى معماره النظري كله على قصص وحكايات وأساطير (على سبيل المثال عقدة أوديب المبنية على قصة سوفوكليس)، ودرس أيضاً شخصية ديستوفسكي جيداً، ويبدو أنه تأثر بالتصورات النفسية التي بثها ديستوفسكي في أدبه، فاهتم مثلاً برواية سالأخوة كرامازوف ، واهتم بشكل عام بالفن أيضاً (درس على سبيل المثال دافنشي).
ويجب لفت الانتباه إلى أن فرويد ربما كان أول من تعامل مع الأسطورة ومع الأدب والفن، ليس بوصفها خيالاً أو خرافة، وإنما بوصفها مادة حقيقية قابلة للدراسة العلمية.
وبغض النظر عما وقع فيه فرويد من تعصبات (وهي مشكلة وقع فيها عموماً الكثير من العلماء والفلاسفة)، إلا أنه أنجز إنجازاً مهماً ترك بصماته على علم النفس، وعلى الأدب والفن أيضاً. ومن اكتشافاته المهمة أيضاً، اكتشافه الشهير المتعلق باللاوعي، حيث توصل إلى أن خبرات الإنسان الشعورية لا تذهب سدى، بل تُختزن عميقاً في داخله، وتظل تمارس تأثيرها في سلوكه وشخصيته من دون أن يعي هو ذلك. وقد كان هذا أيضاً بمثابة كشف هائل بالنسبة لأدباء القرن العشرين، حيث اهتموا باستخراج الخبرات الشعورية الهائلة من اللاوعي.
$ وما هي أكثر المدارس النفسية التي تجد لها صدى في كتاباتك؟
بالنسبة لي، لقد استفدتُ من مدرسة التحليل النفسي، ومن المدارس النفسية المختلفة، كالجشطالتية والسلوكية والفرويديين الجدد، ومن نظريات يونغ تلميذ فرويد الذي انشق عليه وتوصل إلى اكتشاف هائل في مجال اللاوعي الجمعي، وهو البعد الذي لم يلتفت إليه فرويد كثيراً. وقد توسع يونغ في دراسة الأسطورة، وفي وضع أسس جديدة لفهمها.
وقد حاولت أن أستفيد من مخزون اللاوعي في قصصي عن طريق استخدام تكنيك الحلم، وعن طريق استخدام تكنيك الاختبارات الإسقاطية في علم النفس، بحيث يطمح النص إلى أن يضع القارئ في الحالة الشعورية التي يرغب الكاتب في التعبير عنها، بدلاً من الاكتفاء بوصفها. النص هنا أشبه باختبار بقع الحبر، حيث تُعرض على الشخص المراد اختباره صورٌ هي عبارة عن بقع حبر، ويُطلب منه أن يتحدث عن انطباعاته عن هذه الصور، وماذا يرى فيها، وماذا يتخيل.
النص بالنسة لي، يمكن أن يقوم بهذا الدور، بحيث أن كل قارئ يمكن أن يفهم شيئاً مختلفاً من النص نفسه، وكذلك كل ناقد أو باحث. وكنت أُسَر كثيراً عندما أرى في التعقيبات النقدية صوراً من الفهم المتباين لنصوصي بين كل ناقد وآخر، وبين كل قارئ وآخر.
وكنت أرفض من هذا المنطلق، عندما أُسأل، أن أبدي رأياً في فهم أي قارئ لأي نص من نصوصي، لأنني أعتقد أن كل فهم من قبل أي من هؤلاء هو فهم مشروع، لأن هذه النصوص تترك الدور الأكبر للمتلقي في فهمها، وهي مكتوبة هكذا، كل متلق يفهمها في ضوء خبراته ومخزونه النفسي، أي أنه يفهم ذاته من خلالها. بمعنى أن دور النص هنا أن يضيء بقعة معينة بداخل نفس المتلقي، وهذا جُل ما أطمح إليه من كتاباتي.
المبادئ والانهيارات
$ لك تجربة تستحق التوقف عندها، تتمثل في سجنك بسبب تمسكك بمبدأ لم تَحِدْ عنه، ودفاعك عن فكرة، دفعتَ ثمناً ربما كان فادحاً في سبيلها. الآن، بعد أكثر من عقدين عليها، كيف تنظر إلى هذه التجربة، خصوصاً وأننا نعيش الآن زمن الانهيارات المتتالية، والنكوص عن المبادئ؟
أنا ما أزال أعتقد أن المبدأ مهم جداً بالنسبة للإنسان، وأن الإنسان يقترب من المستوى البهيمي دون مبدأ، وكلما تمسك بقيم ومُثُل، أصبح أقرب إلى الصورة الإنسانية. وما أزال أعتقد أن الإنسان إذا ما حمل مبدأ ما، ووُضِع أمام معادلة قاسية تخيره بين أن يتخلى عن مبدئه، أو أن يدفع ثمناً باهضاً من حياته، أو حتى حياته نفسها.. أعتقد أنه يجب أن يختار التمسك بمبدئه، وإلا أصبح الإنسان يباع ويُشترى في أسواق السياسة والمال والمصالح، وأصبحت حياته بلا معنى ولا قيمة يتجاوزان شروط وجوده البدائية.
وبالنسبة للثمن الذي دفعته، فأنا لا أزال أنظر إلى هذا باعتباره أكثر شيء أعتز به في تاريخ حياتي، وهو الأمر الذي أسعى دائماً لأن لا أخدشه أو أسيء إليه، وأجد نفسي في كثير من الأحيان في ظروف غير مريحة، نتيجة مثل هذا الحرص.
أما فيما يتعلق بالانهيارات، فالانهيارات ألمت بدول وبأجهزة، ولكن ما علاقة الانهيارات بالمبادئ؟ قبل ثورة تشرين أول (أكتوبر) الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، كان الإنسان يفكر ويبحث ويسعى وينشئ الحركات السياسية والفكرية من أجل الوصول إلى الاشتراكية، والخلاص من مظالم الرأسمالية. وكانت ثورة تشرين أول (أكتوبر) هي إحدى المحاولات الكبرى لحل هذه المعضلة. وكون هذه المحاولة فشلت، لا يعني أن المشكلة انتهت، بل ما تزال قائمة، ولا يعني أن الخصم أصبح على حق، وأن قضية الاشتراكية لم تعد عادلة، ونحن نرى الآن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كيف أن العالم أصبح في حالة فوضى دموية، وأصبح شيئاً فشيئاً يخضع لنوع قاسٍ من شريعة الغاب، فهل المطلوب من الإنسان الآن أن يسلم بشريعة الغاب ويعتبرها خاتمة للتاريخ البشري، على النحو الذي عبر عنه منظر البنتاغون فوكوياما؟!
بالنسبة لي، لا أعتقد ذلك. فلقد مر التاريخ البشري دائماً بانتكاسات مماثلة. على سبيل المثال ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس، هُزمت أمام نظام الرق الروماني، ولكن هذا لم يكن حكماً مبرماً للتاريخ على أهداف تلك الثورة، حيث ما لبث نظام الرق نفسه أن هُزم، وانتصرت مبادئ الثوار رغم هزيمتهم في حربهم المبكرة.
وهناك دولة القرامطة التي أرست مبادئ مدهشة للعدالة الإنسانية والمساواة بين الحكام والمحكومين، وبين فئات الشعب المختلفة، دامت مئتي سنة، وامتد نفوذها من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وأنحاء العراق وبعض أرجاء مصر، وكان لها نفوذ في وقت من الأوقات في دار الخلافة ببغداد، إلا أنها انهارت في النهاية، لأنها كانت سابقة لزمانها، ومن ثم شُوهت صورتها وافْتُري عليها من قبل المؤرخين الرسميين، وطُمِسَ الكثير من معالم تاريخها، ولكن جاء زمن وعاد الناس إلى الحديث عنها، وإلى البحث في حقيقتها وفي أهدافها وفي إنجازاتها، وأصبح الكثير من الأفكار التي قدمتها من أفكار العصر الحديث.
وبالنسبة للرأسمالية، فقد احتاجت إلى أربعة قرون حتى استتبت أمورها، وفي أثناء ذلك تعرضت للكثير من الانتكاسات الكبرى. على سبيل المثال انتكست الثورة البرجوازية الفرنسية عندما تجمع الحكام الإقطاعيون لأوروبا وأعادو آل بوربون إلى الحكم على أنقاض الثورة. بل يجدر التذكير بأن نابليون نفسه، ابن الثورة الشهير والذي حمل رايتها في أنحاء العالم، سرعان ما أعلن نفسه امبراطوراً، الأمر الذي ترك أثراً نفسياً مخيباً في نفوس كثير من مثقفي أوروبا الذين راهنوا عليه آنذاك كبطل محرر.
بين التفاؤل والتشاؤم
$ أين يمكن أن نضع بعد خراب الحافلة في هذا السياق.. أنت تبدو فيها متشائماً، فيما تشي كتاباتك السياسية بالتفاؤل؟
يتحدث الكتاب عن مرحلة الانهيار، وهو يحاول أن يتحدث بصدق، لذلك ربما كان هذا هو السبب الذي جعل الكثيرين يرون أنه مليء بالتشاؤم. أنا أختلف مع هذا التقييم، وأعتقد أن الكاتب يجب أن يكون صادقاً، وأن يعبر عن مرحلته وعن زمنه وعن مجتمعه وعن الظروف المحيطة به بصدق. إذا كانت هذه الظروف سيئة وصعبة ومحبِطة يجب أن يقول الأدب ذلك، ويجب أن يعبر الأدب عن إنسان مرحلته، وعن أشواقه، وعن طموحاته، وعن مختلف التفاعلات النفسية والاجتماعية داخله، وهذا الأمر لا علاقة له بالتشاؤم، وهو لا يلغي التفاؤل المتأتي من استخدام المنظور التاريخي.
كما أن التفاؤل من المنظور التاريخي لا يجب أن يَحُوْل دون التعبير عن لحظة تاريخية معينة؛ عن سوئها ومصاعبها، وكيف يرى الإنسان ذاته ومجتمعه ومستقبله من داخلها. فقد تكون نظرته للمستقبل قاتمة، وفي هذه الحالة يجب التعبير عن هذا الشعور.
هذا الأمر كان يجعل الكثيرين يجدون تناقضاً بين تفاؤلي في الكتابة السياسية المباشرة، وبين ما يسمونه ستشاؤمي في الكتابة الأدبية. في الأدب أنا أعبر عن الإنسان الذي يعاني من وطأة اللحظة الراهنة، وأكشف من خلال ذلك بصورة غير مباشرة عن تناقضات واقعه التي من المفهوم ضمناً أنها لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه، ولكنني في الكتابة السياسية أنظر إلى معطيات موضوعية، وأنظر إلى حالة الصراع الدائمة، فأعبر عنها.
ربما اعتاد الكثيرون على أسلوب المدرسة الواقعية الاشتراكية، حيث يجب أن يكون التفاؤل موجوداً دائماً، ويجب أن ينتصر البطل الإيجابي، ويجب أن تكون نتيجة الصراع محسومة سلفاً بصورة إيجابية. أنا منذ بداياتي لم أكن من ضمن هذه المدرسة، كما لم أكن متأثراً في بداياتي بالمدرسة الستالينية. لقد كان المثال الثوري الذي أثر فِي في طفولتي هو تشي غفارا ، وكان المثال الأدبي بالنسبة لي هو آرنست هيمنجواي بتوجهاته الإنسانية الإيجابية، وبلغته العارية المعبرة بدقة عن أعماق الإنسان.
رسالة الأدب
$ إلى أي مدى ترى أن الكتابة الأدبية ينبغي أن تؤدي رسالة اجتماعية.. وأنها لسان حال الراهن، في تجلياته المختلفة؟
لا يمكن لأي نص أدبي أن يكون مجانياً، بل يجب أن يعبر عن معنى أو فكرة، وعلى الكاتب أن لا يكتب سطراً واحداً إذا لم يكن يريد أن يقول من خلاله شيئاً ما، أو أن يعبر عن فكرة أو قيمة إنسانية. وبالتالي المسألة محلولة. لماذا أريد أن أكتب؟ أليس لأقول شيئاً؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك فأنا أريد إذن أن أثرثر. وإذا أردت أن أثرثر فإن الآخرين ليسوا ملزَمين بالاستماع إلي، لكن إذا أردت أن أقول شيئاً يهمهم فربما كانوا سيفعلون.
وهذا يختلف عن التوظيف السياسي القسري للأدب. فالأدب يجب أن يعبر عن الاختلاجات العميقة داخل المجتمع وداخل النفس البشرية، وليس عن التفاعلات السياسية الآنية التي هي محدودة بزمن معين. الأدب قد يهتم بالآني المحدود بزمن معين، ولكنه يجب أن يسعى إلى كشف العوامل العميقة التي تقف خلف الظاهرة السياسية أو الاجتماعية أو النفسية. وبالتالي عندما يتعامل الأدب مع سطح المشكلة أو الظاهرة، يجب أن يكون ذلك مشروطاً بقدرته على كشف الأبعاد العميقة، وليس الوقوف عند السطح فقط.
من هنا يحدث في كثير من الأحيان فهم خاطئ لتعامل الأدب مع اليومي والعادي. فبعضهم يرى أنه يمكن أن يتناول هذه الأمور كما تبدو عند سطحها ويكفي، ولكن برأيي يكون تعامل الأدب مع العادي واليومي ومع التفاصيل والظواهر السطحية مبرراً عندما يوظف ذلك كله في الكشف عن أفكار وصور وأحاسيس ومعانٍ عميقة، وإلا فإن النص المكتوب بهذه الطريقة سيكون بلا قيمة.
التجريب والرتابة
$ أشرتَ في وقت سابق إلى أنك تكتب وفي داخلك رغبة في تحطيم التابوهات. إلى أي درجة ترى أنك حققتَ هذه الرغبة. ثم كيف تنظر إلى التجريب في كتابة القصة؟
عندما أكتب لا أنطلق فقط من الرغبة في تحطيم التابوهات، ولكنني في داخلي أنفر من التقليد البليد ومن الرتابة، ومن التعامل السطحي مع المشكلات والظواهر. وهذا يقودني دائماً إلى التجريب، وأنا أعتقد أن الأصل في الفن هو التجريب، وليس الثبات على مواصفات متَوَهـمة، وأعتقد أيضاً أن أي نوع أدبي يصل إلى استكمال شروطه الفنية يكون قد مات، وفي طريقه إلى الاندثار. وما دامت الآفاق مفتوحة في أي نوع أدبي للتجريب، وما دام هذا النوع يعاني من نقص في تحديد الشروط المفترَضة، فإنه يكون لا يزال حياً، ولا يزال قابلاً لأن تُقَدم في إطاره إبداعات مختلفة.
لذلك لا يزال النقاد يحارون في الشكل المناسب، والشروط التي يجب أن تتوفر في القصة والرواية. وفي كثير من الأحيان يقولون عن بعض النصوص إن الشروط الفنية فيها غير مكتملة، وهذا دليل على أن هذين النوعين لا يزال فيهما متسع للإبداع.
«موضة» الصراخ الأيديولوجي
$ قلتَ في أحد الحوارات الصحفية إنك مع سمشي و بعد خراب الحافلة قد تخلصتَ من اللغة الرومانسية والأيديولوجيا. ألا ترى أن كتابتك خسرت بذلك الحساسيةَ المحلية لصالح الذهنية المجردة؟
هذا أشبه بالمفهوم القاصر الذي كان سائداً في مرحلة من المراحل، وينص على أن البطل الإيجابي يجب أن ينتصر مثلاً. أيضاً هناك القول إن الكتابة يجب أن تكون صورة طبق الأصل، أو صورة نوعاً ما عن الواقع بتفاصيله اليومية. أنا أعتقد أن هذا نوع من الكتابة، والحكم عليه بأنه جيد أو غير جيد ليس مشروطاً بكونه هكذا، أو بدرجة التصاقه بالواقع، وإنما الحكم يتأتى من مدى جودة هذه الكتابة فنياً، ومن قدرتها على التعبير بعمق عن أحاسيس الناس وأفكارهم وتطلعاتهم.
الكتابة التي قد لا تبدو ملتصقة بالواقع، هي أيضاً بالضرورة نابعة منه، ولكنها تعبر عنه بطريقة مغايرة. ومن ناحية أخرى، فأنا لستُ مع التصور الدارج والذي يوحي بأن الكتاب يجب أن يكونوا نسخة طبق الأصل عن بعضهم بعضاً، وأن الكتابات يجب أن تكون على شاكلة واحدة، وتتناول موضوعاً واحداً، وتعبر عنه بالطريقة نفسها.
الحياة أرحب من ذلك، وإمكانات التعبير الفني هائلة، وكل كاتب ينجح في أداء دوره عندما يجد الأسلوب الذي ينبع من نفسه، والذي يستطيع أن يعبر بواسطته أفضل تعبير عن هذا الواقع، وليس بالضرورة، كما قلتُ، أن يكون هذا التعبير فوتوغرافياً أو شبه فوتوغرافي.
من جهتي عندما انطبعت كتاباتي بالرومانسية وبالصراخ الأيديولوجي (وليس بالأيديولوجيا، لأن كل إنسان لديه منطلقات ينطلق منها في نهاية الأمر)، كان ذلك تأثراً بموضة كانت سائدة آنذاك. كنت لا أزال فتياً، وانبهرت باللغة الشعرية والتعبير الرومانسي اللذين كانا دارجين آنذاك، وألحت علي الرغبة في تقديم هويتي الفكرية والسياسية للآخرين. فيما بعد، لم يعد هذا الأمر ضرورياً، وسرعان ما اكتشفت أن الحياة أعمق مما كنت أرى، وأن الأسلوب الذي اتبعته في التعبير عنها كان قاصراً. وفي النهاية وجدت الأسلوب الملائم لي، والذي أستطيع من خلاله تقديم أفكاري ومشاعري بصورة أفضل.
$ هناك من يرى أنك تخلصت من الشعرية، ولكن ليس من الرومانسية. فقد تحولت هذه الرومانسية من رومانسية ثورية ذات طابع أيديولوجي إلى رومانسية تجريدية ذات طابع تجريبي. ما تعليقك؟
أولاً أنا لست مع الفكرة القائلة بموت الأيديولوجيا، والذين يقولون هذا هم بعض أصحاب الأيديولوجيات التي يستحيون بها، فينكرونها ويزعمون أن كل الأيديولوجيات قد ماتت بالمقابل. الإنسان لا يستطيع أن يكون من دون منطلقات فكرية مبدئية إنسانية، وإلا أصبح أقرب إلى الطور الحيواني. والكاتب بالذات لا يستطيع أن يكون من دون منطلقات فكرية ومبادئ ينطلق منها في كتابته، وإلا أصبحت كتابته فارغة لا معنى لها ولا أهمية.
ولكن المسألة هي: كيف يعبر الكاتب عن أفكاره وأحاسيسه ومبادئه وتجاربه وخبراته ومعتقداته؟ هل يعبر عنها بأسلوب فني متطور وجديد دائماً، أم يتخلى عن الفن ويلجأ إلى الصراخ بما يجول في نفسه وبصورة مباشرة، معتقداً أنه بهذه الطريقة يوصل ما بنفسه بصورة أفضل إلى المتلقي، في حين أنه يضيع الفرصةَ للتفاعل بصورة حميمة وعميقة مع هذا المتلقي؟
أما التجريب، فأنا أعتقد، كما أشرت سابقاً، أنه هو الأصل في الفن وليس الاستثناء، وأعتقد أن الفن إذا ما استقر على شكلٍ معَينٍ ماتَ، وكوني أجرب فمعناه أنه لا تزال لدي إمكانية لتقديم شيء جديد.
وبالنسبة للرومانسية، فأنا أختلف معك، وأعتقد أنني قد تخلصت منها في مشي وفي بعد خراب الحافلة ، وفي كتاباتي اللاحقة أيضاً.
القصة والمعيار الكمي
$ أنت تُعتبر واحداً من أهم ممثلي تيار القصة القصيرة جداً في الأردن، وعربياً أيضاً. هل تعتبر أن القصة القصيرة جداً لونٌ فني مستقل بذاته، أم أنه ضربٌ من ضروب كتابة القصة؟
أولاً أنا ضد هذه التسمية الشائعة (القصة القصيرة جداً)، لأنها تستند إلى معيار كَمي؛ فعند أي حجم تكون القصة قصيرة، أو قصيرة جداً مثلاً؟
وإذا ما شاء أي ناقدٌ أو مهتم تحديدَ حجم معين، فلماذا هذا الحجم وليس ذاك؟ إنه بالضرورة تحديد تعسفي، لا أساس له. ثم إن هذا التحديد لا يفيد بشيء. ماذا يعني أن تكون تسمية القصة قصيرة جداً ، أو سقصيرة ، أو طويلة ؟ لا علاقة لهذا، كما ترى، بالتوصيف الفني أو بالمضمون، بل فقط بالكَم.
أنا أعتقد أن هذا الشكل ضئيل الحجم هو ضرب من ضروب القصة. والشروط الفنية التي تحكم القصة، بغض النظر عن كبر حجمها أو صِغَره، هي نفسها التي تحكمه، هناك بعد حكائي، وهناك مقدمة أو تمهيد، وحدث، وخاتمة، حتى لو كانت القصة مكونة من سطر واحد.
إلا أن قسماً من كتاب هذا اللون من القصة في العالم العربي، فَهِمَ الأمرَ بصور خاطئة. بعضهم استسهل كتابته، فكتبه على شكل طرفة، أو خبر، أو مفارقة سطحية ساذجة، أو نكتة أحياناً. بعضهم كتبه كما لو كان خاطرة. بعضهم حشاه بالتفاصيل غير الضرورية وبالمفردات الزائدة. وبعضهم أثقله بالمفردات والصور الشعرية.
أنا أعتقد أن هذا الضرب من القصة لا يحتمل الثرثرة التي قد يُشاب بها النص، مهما كان قصيراً. ولا يجوز استخدام هذا الشكل من الكتابة للتعبير عن فكرة تفصيلية ثانوية، لأن هذا يكون في هذه الحالة نوعاً من الثرثرة، فـ كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة . هذا النوع من القصة لا يعتمد على تكثيف اللغة فقط، بل أيضاً على تكثيف الفكرة، وتكثيف العناصر الفنية.
$ بما أنك أصدرت مجموعتين في هذا النوع من القصة، هل تعتقد أن هذا هو التعبير العصري في الكتابة القصصية، وبالتالي أن الأشكال الأخرى ربما عفا عليها الزمن؟
لا أعتقد أن العصر يمكن أن يتسم بهذا النوع من الكتابة أو ذاك فقط. فهناك دائماً أنواع أدبية متعددة، ولكل نوع منها كتابه وقراؤه. والمهم أن تكون الكتابة جيدة، وتساعد الإنسان على مواجهة ظروف عصره، والتغلب على مصاعب حياته، والتفكير بصورة سوية في الأسئلة التي تتعلق بوجوده.
$ تضم مجموعتك مشي نصوصاً تُعتَبَر بدورها التعبير الأفضل والتجلي الأرقى عن القصة القصيرة جداً، ولكنك في بعد خراب الحافلة بدوتَ أقل صرامة مع محددات هذا النوع من الكتابة، فمال بعض القصص إلى الطول إلى درجة أنها بلغت حجم القصة العادية.. هل يعبر هذا عن تهاون مثلاً، أم عن تغير في فهمكَ للقصة وللقصة القصيرة جداً؟
ربما لو تأملتَ جيداً بهذه النصوص لوجدتَ أنها تحكمها الشروط الفنية نفسها تقريباً، سواء أكانت طويلة أم قصيرة، وقد لاحظ هذا الأمر بعضُ النقاد، فأنا لا أتعمد القِصَر، ولا أتعمد الطول. أنا أكتب بطريقة معينة، سواء أكان ما أكتبه طويلاً أم قصيراً، وبالتالي ليس هناك تهاون في الشروط. فالشروط الفنية هي نفسها في الحالين: اللغة المكثفة، الاقتصاد في اللغة، الابتعاد عن الزوائد اللفظية وعن الشعرية وعن الصراخ الوجداني، ومحاولة التعمق فيما وراء الظواهر السطحية.
مأزق الكتاب
$ سجلتَ في بعد خراب الحافلة انحيازَك لصيغة الكتاب ، وتبنيْتَ صيغته. هذا التحول عم يعبر، وكيف يمكن للقصة القصيرة جداً أن تحافظ على كيانها المستقل ضمن هكذا تركيبة، علماً أن من أبرز معالم هذا النوع من القص هو القفلة النهائية الخاتمة القاطعة؟
بدايات هذا الأمر موجودة في مشي . فقد لاحظت أن القصة في العقدين الأخيرين أصبحت في مأزق كبير، وبدأ القراء ينصرفون عنها إلى الرواية، وبدا لي أن الفوضى التي تشوب المجموعات القصصية، وعدم اتساق قصصها مع بعضها بعضاً، وافتقارها إلى التعبير عن ثيمة أساسية مشتركة، واتسامها بتقطع الأنفاس.. كل ذلك كان له دور كبير في صرف القراء عنها.
ثم وجدت أن فكرة الكتاب عموماً عندنا في مأزق؛ ليس هناك فهم واضح وسليم لمفهوم سالكتاب . فكرة التجميع تسود مختلف الحقول. وبالإضافة إلى هذا فإنني بتأثير تجربتي السياسية والحياتية كنت ولا أزل أميل إلى التعبير عن هواجس محددة، ومجمل كتاباتي يعبر عن هذه الهواجس. وهذا كله دفعني إلى الاتجاه نحو كتابة كتاب قصصي وليس مجموعة ، وفي كتاباتي اللاحقة (ما بعد بعد خراب الحافلة ) أيضاً يستمر الاتجاه نفسه.
الأديب والسياسي
$ بدأت ناشطاً في حقل العمل الطلابي والسياسي، إلا أنك الآن، على ما يبدو، عزفت عن هذه الأجواء، وابتعدت عنها متجهاً أكثر نحو الأدب وتكريس تجربتك الأدبية. ألا تعتقد أن للمثقف عموماً، وللأديب بشكل خاص، دوراً يجب أن يؤديه بصوت عالٍ ومسموع، بالإضافة طبعاً إلى كتاباته. ثم هل يمكن رد الميل للتجريد في كتاباتك إلى العزوف عن الحياة العامة وتجنب الانغماس فيها؟
لست منسحباً من الحياة السياسية، فأنا أعبر عن أفكاري ومواقفي ومبادئي، سواء أفي أعمالي الأدبية، أم غير الأدبية. وعندما يستلزم الأمر أشارك أحياناً.
ولكن الحياة السياسية المحلية في العقدين الأخيرين تعاني من مشكلة كبيرة، حيث انحسر دور الأحزاب، بل والجمعيات والهيئات والمؤسسات المختلفة. تبعثر الناس عموماً، وأصبحوا على شكل جزر متباعدة، وسيطرت الهموم والمطامح الفردية، وأصبحت الحركة السياسية تدور في حلقة مفرغة، والأمر يحتاج إلى وقفة وتأمل معمق لإدراك أبعاد هذا الخراب الذي حل بنا بدلاً من الاستمرار في الدوران الذي يَحُوْل دون النظر إلى البعيد. وهذا يتطلب الكثير الكثير من القراءة، وهو ما أحاول أن أكرس له الآن وقتاً أكبر.
ومن ناحية أخرى، فقد وجدت أنه آن الأوان لأن أعطي وقتاً أكبر أيضاً للكتابة، لأن لدي الكثير من المواضيع التي أريد أن أعبر عنها، حيث لم أكن أملك وقتاً في السابق للقيام بذلك. لقد كنت آنذاك سياسياً يهتم بالكتابة، أما الآن فأنا كاتب يهتم بالسياسة، وهذا، كما أظن، هو الأقرب إلى حقيقتي.