عمان - محمود الزواوي - تستمد الأفلام السينمائية الملحمية اسمها من القصائد القصصية الكلاسيكية الطويلة الفخمة الأسلوب ومن المآثر الأدبية القديمة التي تصف أعمالا بطولية خارقة لأبطال أسطوريين أو تاريخيين. وتطبق كلمة «ملحمية» في السينما على الأفلام الضخمة الإنتاج التي تتعلق بأحداث تاريخية أو خيالية وبشخصيات أسطورية أو بطولية، وتتميز عادة بروعة وجمال مشاهدها وأزيائها التي ينفق عليها بسخاء وبروعة موسيقاها التصويرية.
وتقدّم الأفلام الملحمية قصصا تغطي عادة فترة زمنية طويلة تتعقب مغامرات بطل أو أبطال القصة في سياق أحداث تاريخية هامة، ولكنها لا تتقيد بالدقة التاريخية، بل تعيد كتابة التاريخ وتختصر الزمان، وتؤكد على تطوير الشخصيات على حساب القوى السياسية والتاريخية.
وتقترن الأفلام الملحمية عادة بالأفلام التاريخية الضخمة الإنتاج، ولكنها تشمل أيضا الأفلام الحربية وأفلام الخيال العلمي ورعاة البقر والسيرة الشخصية، وقد تجمع بين أكثر من نوع سينمائي. فقد يكون الفيلم الملحمي في الوقت ذاته فيلما تاريخيا وحربيا ومن أفلام السيرة الشخصية. وتنقل الأفلام الملحمية المشاهدين إلى عوالم ومراحل تاريخية أخرى أو إلى عوالم خيالية حافلة بالمغامرات والحركة المثيرة.
وتعدّ الأفلام الملحمية قديمة قدم هوليوود نفسها وتعود إلى بدايات الأفلام الروائية الصامتة. فقد كان أول فيلم روائي طويل للمخرج ديفيد وارك جريفيث، الملقب «بمؤسس السينما الأميركية»، الفيلم الملحمي التاريخي «جوديث من بيثوليا» (1914) الذي تقع أحداثه في فلسطين التاريخية. ولعب المخرج جريفيث دورا رياديا في جعل الأفلام الملحمية جزءا أساسيا من الإنتاج السينمائي الأميركي، وتستمر هذه الظاهرة حتى هذه الأيام. وأعقب جريفيث هذا الفيلم في العامين التاليين بفيلمين ملحميين تاريخيين آخرين، هما المعلمان السينمائيان «مولد أمة» (1915) و«التعصب» (1916). ويتعلق الفيلم الأول بفترة الحرب الأهلية الأميركية وأثرها على أسرتين من شمالي الولايات المتحدة وجنوبها، في حين أن الفيلم الثاني يقدّم أربع قصص تاريخية تتعلق بأثر الظلم والتعصب على الناس في أربع مراحل تاريخية مختلفة. وتابع جريفيث تقديم الأفلام الملحمية في فترة العشرينيات بفيلم «يتيمات العاصفة» (1921) الذي يتعلق بكفاح فتاتين تعيشان في مرحلة الثورة الفرنسية.
وقد عاصر المخرج جريفيث خلال عصر السينما الصامتة مخرج آخر تخصص في الأفلام الملحمية هو المخرج سيسيل بي. ديميل، الذي اقترن مشواره السينمائي الطويل الذي جمع بين السينما الصامتة والناطقة بالأفلام الملحمية، ابتداء بالفيلم الصامت «رجل المرأة الهندية» (1914) وانتهاء بالفيلم التاريخي الديني الناطق «الوصايا العشر» (1956) الذي صورت معظم مشاهده في مصر. وكان ديميل قد أخرج نسخة صامتة لفيلم «الوصايا العشر» في العام 1923. وتميز هذان الفيلمان ببراعة استخدام المؤثرات الخاصة التي شملت انشطار البحر الأحمر عند عبور النبي موسى واليهود من مصر إلى سيناء.
ومن الأفلام الملحمية التاريخية الصامتة الأخرى للمخرج ديميل فيلم «ملك الملوك» (1927) الذي يتعلق بحياة السيد المسيح. ومن أفلامه الملحمية التاريخية الناطقة فيلم «كليوباتره» (1934) وفيلم «الحرب الصليبية» (1935) وفيلم «شمشون ودليلة» (1949).
وشملت الأفلام الملحمية لهذا المخرج أنواعا سينمائية مختلفة، كفيلم رعاة البقر «رجل السهول» (1937)، وفيلم المغامرات البحرية «أحصد الريح العاتية» (1942)، وفيلم السيرة الشخصية «قصة الدكتور واسيل» (1944)، وفيلم السيرك «أعظم استعراض في العالم» (1952) الذي فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم.
وشهد عقد العشرينيات في عصر السينما الصامتة انتشارا واسعا للأفلام الملحمية التاريخية وأفلام المغامرات، ومنها الفيلم المعادي للحرب «الفرسان الأربعة وسفر الرؤيا» (1921) للمخرج ريكس إنجرام. وقد جلب هذا الفيلم الشهرة لبطله العاشق الشهير الممثل رودولف فالنتينو، وأعيد تقديم قصة هذا الفيلم في فيلم ناطق في العام 1962 للمخرج فنسنت منيللي الذي اشتهر بإخراج الأفلام الموسيقية الاستعراضية.
ومن الأفلام الملحمية التاريخية لعقد العشرينيات أيضا فيلم «بن هير» (1926) بنسخته الصامتة للمخرج فريد نيبلو، وأعيد تقديم هذا الفيلم بنسخة ناطقة في العام 1959 للمخرج وليام وايلر، وفاز هذا الفيلم بإحدى عشرة جائزة من جوائز الأوسكار، بينها جائزة أفضل فيلم، مسجلا بذلك رقما قياسيا في عدد هذه الجوائز.
ومن الأفلام الملحمية الصامتة أيضا فيلم المغامرات «لص بغداد» (1924) للمخرج راؤول والش، والذي سجل قفزة نوعية في استخدام المؤثرات الخاصة المبهرة، والفيلم الحربي «الاستعراض الكبير» (1925) للمخرج كنج فيدور، وهو من أفضل الأفلام المتعلقة بالحرب العالمية الأولى.
وصدرت أشهر الأفلام الملحمية في عقد الثلاثينيات عن استوديو مترو ـ جولدوين ـ ماير، ومنها فيلم المغامرات التاريخي «تمرد على السفينة باونتي) (1935) للمخرج فرانك لويد. وفاز هذا الفيلم بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم. وأعيد تقديمه في فيلمين آخرين في العامين 1962 و1984، إلا أن أيا منهما لم يرق إلى مستوى الفيلم الأصلي.
ولا شك في أن أشهر الأفلام الملحمية في عقد الثلاثينيات هو فيلم «ذهب مع الريح» (1939) للمخرج فيكتور فلمنج. وفاز هذا الفيلم بثماني جوائز الأوسكار، بينها جائزة أفضل فيلم، وهو مبني على الرواية اليتيمة للكاتبة مارجريت ميتشيل وتقع أحداث القصة في مرحلة الحرب الأهلية الأميركية.
وشهد عقد الأربعينيات تراجعا في إنتاج الأفلام الملحمية في هوليوود نتيجة لسياسة التقشف في الإنفاق السينمائي خلال وبعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن هذا الاتجاه انعكس كليا في عقد الخمسينيات الذي شهد أكبر عدد من الأفلام الملحمية التاريخية في تاريخ هوليوود، وشملت الكثير من الأفلام المستوحاة من قصص الكتاب المقدّس ومن الحقبة الرومانية.
ولم تأت هذه الطفرة في إنتاج هذا النوع من الأفلام في هوليوود بمحض الصدفة، بل جاءت كمحاولة لجذب جمهور السينما إلى صالات العرض بعد أن تحوّل معظم الأميركيين إلى مشاهدة التلفزيون . وشهدت أوائل فترة الخمسينيات سلسلة من الابتكارات السينمائية، ومن أهمها السينما سكوب، وإنتاج المزيد من الأفلام الملونة، وصدرت عشرات الأفلام الملحمية التاريخية، مثل «كوفاديس» (1951) و«داود وباشيفا» (1951) و«الرداء» (1953)، وهو أول فيلم بالسينما سكوب و«سالومي» (1953) و«يوليوس قيصر» (1953) و«المصري» (1954) و«ديميتريوس والمجالدون» (1954) و«إشارة الوثنيين» (1954) و«الوصايا العشر» (1956) و«الإسكندر الكبير» (1956) و«بن هير» (1959).
واستمر هذا الفيض من الأفلام الملحمية التاريخية في عقد الستينيات في أفلام مثل «سبارتاكوس» (1960) و«ملك الملوك» (1961) و«إل سيد» (1961) و«بارابّاس» (1962) و«كليوباتره» (1963) و«سقوط الإمبراطورية الرومانية» (1964) و«أعظم قصة تروى حتى الآن» (1965) و«الكتاب المقدّس» (1966).
ومع أن القصص التاريخية القديمة استأثرت بمعظم الأفلام الملحمية، فقد شملت هذه الأفلام العديد من أفلام السيرة الشخصية منذ عقد الثلاثينيات، ومنها «قصة لويس باستور» (1936) و«حياة إميل زولا» (1937) و«أنطوانيت» (1938) و«مستر لنكون الشاب» (1939) و«توم إديسون الصغير» (1940) و«يانكي دودل داندي» (1942) و«مفخرة اليانكيز» (1942) و«رغبة في الحياة» (1956) و«روح سانت لويس» (1957) و«لورنس العرب» (1962) و«باتون» (1970) و«غاندي» (1982) و«أماديوس» )1984( و«الإمبراطور الأخير» (1987) و«تشابلين» (1992) و«مالكوم إكس» (1992) و«نيكسون» (1995) و«إيفيتا» (1996) و«فريدا» (2002) و«العليم» (1999) و«كنزي» (2004)، ويتضح أن هذه الأفلام تتعلق بشخصيات تاريخية مرموقة. وتواصل هوليوود إنتاج أفلام السيرة الشخصية رغم تباين إقبال الجمهور على هذا النوع من الأفلام، وتعرض الكثير منها لخسائر مالية جسيمة.
وشهدت هوليوود تحولا كبيرا في إنتاج أفلامها الملحمية منذ عقد السبعينيات نحو أفلام المغامرات والخيال العلمي والكوارث والرسوم المتحركة، كفيلم «الجحيم الملتهب» (1974) و«الزلزال» (1974) و«الفك المفترس» (1975) و«حرب النجوم» (1977) و«ستار تريك» (1979) و«غزاة تابوت العهد المفقود» (1981).
وحققت هذه الأفلام شعبية جماهيرية غير مسبوقة حصدت نتيجة لها بلايين الدولارات على شباك التذاكر، وتحوّل معظمها إلى مسلسلات سينمائية.
وتعززت شعبية الأفلام الملحمية في عقد التسعينيات في أفلام مثل «الحديقة الجوراسية» (1993) و«عصر البراءة» (1993) و«مهمة مستحيلة» (1994) و«يوم الاستقلال» (1996) و«المريض الإنجليزي» (1996) و«تايتانيك» (1997) و«أميستاد» (1997) و«المنظومة» (1999). واستمرت هذه الظاهرة خلال السنوات الأخيرة التي شهدت موجة من الأفلام الملحمية التاريخية كفيلم «المجالد» (2000) و«طروادة» (2004) و«الإسكندر» (2004) و«مملكة الفردوس» (2005)، والمزيد من أفلام الخيال العلمي هذا العام كفيلم «حرب النجوم: الجزء الثالث ـ انتقام السيث» و«حرب العوالم» و«الرجل الوطواط يبدأ».
وأصبحت الأفلام الملحمية الضخمة الإنتاج بأنواعها المختلفة، وخاصة أفلام الحركة والمغامرات والخيال العلمي، هي النمط السائد للإنتاج السينمائي في هوليوود. فهي أكثر الأفلام نجاحا على شباك التذاكر، وليست هيمنة هذا النوع من الأفلام سوى استجابة طبيعية من قبل استوديوهات هوليوود لما يريد الجمهور مشاهدته.