كتاب

العنف والهوية الضائعة صرخة إنسانية في زمن الوحشية الرقمية (1-2)

 

 

شرفت أكون في أرض الرافدين، وأن أقف على تراب العراق العظيم، مهد الحضارات وموطن الجذور العميقة التي تنبض بالهوية والثقافة والكرامة. ومن قلب بابل، المدينة التي علّمت الدنيا الحرف الأول، وأسّست للمعرفة والعلوم والأساطير، والتي لا تزال تصرّ على أداء دورها الحضاري، رغم اللهاث الإلكتروني وضياع البوصلة الثقافية. هذه الأرض، التي تمتد جذوري وجيناتي في طينها وتاريخها، تحتضن أحلامي الثقافية، وتمنحني شرف الحضور بين شعبها العريق. أعلن عن كتابي الجديد «العنف والهوية الضائعة»، الذي هو نتاج سنوات من البحث والمراقبة والتحلي?، لظاهرة أصبحت، للأسف، جزءاً من حياتنا اليومية.

هذا الكتاب ليس مجرد رصد للعنف، بل محاولة جادة متواضعة لتفكيك معناه ومظاهره الخفية، والبحث في أسبابه، وتفسير ما نعيشه من آلام ومآس وفقد، في عالم تراق فيه الدماء بضغط زر إلكتروني، وتيتم فيه الأطفال، وترمل النساء، وتهدم البيوت على رؤوس ساكنيها تحت ذرائع دينية أو سياسية أو عنصرية. وطرح تساؤلات مصيرية عن واقعنا الإنساني، هو حصاد سلسلة من المقالات، كتبها قلبٌ يشتعل شغفًا بالحقيقة، وعقلٌ يحاول أن يضيء عتمات هذا العصر.

العنف وضياع الهوية. فقد خلق الله الإنسان وكرمه على باقي مخلوقاته، والتكريم يشكل هويته الإنسانية التي تحفظ أمنه وسلامه وكرامته واعتزازه بنفسه ولغته وثقافته، وتحفظ عائلته وممتلكاته، وتحفظ فكره ومعتقداته.

غير أن الأمراض الخبيثة في النفس الأمارة داخل الإنسان دفعت إلى فقدان الإنسان لهويته عبر تعرضه لأشكال العنف من بدء الخليقة حتى يومنا هذا.

ورغم تمتعنا بالفضاءات العلمية والتكنولوجية فائقة السرعة، والتطورات السريعة في العصر الرقمي، فان جرائم العنف تزايدت عما كانت في القرون السابقة علينا، بل وصارت أشد فظاعة ووحشية، ولعل جرائم الدارك ويب من أبرز الأمثلة على وحشية العنف في عالمنا المعاصر.

وكأنه كلما زادت البشرية تقدما علميا وتقنيا زادت نسب العنف والجريمة، ولعل جرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني في غزة أكبر نموذج على هذا العالم الوحشي العنيف، وقبل ذلك كانت جرائم إبادة شعب الهنود الحمر في أميركا، وضرب اليابان بالقنبلة الذرية.

وكأن العلم الذي من المفترض أن يوظف لحفظ حياة الإنسان وتحقيق كرامته على أرضه، قد ابتكر لتدمير الإنسان وإبادته!

هنا تستدعيني الذاكرة إلى كتاب (التاريخ الإجرامي للجنس البشري.. نفسية العنف)، ويقدم مؤلفه كولن ولسون تفسيرا للعنف البشري ينطلق من كوامن سكيولوجية، وفهم قصة الجنس البشري وطبيعته من خلال التناقض بين الجريمة والإبداع.

فالتاريخ البشري المسجل منذ عام 2500 ق.م يحتوي على قدر متواصل من العنف والقتل وإراقة الدماء، وذكاء البشر نتج عنه جنوح وعدم توازن دفعته إلى حسابات مستمرة وقسوة متحجرة، تلك القسوة هي التي تدفع إلى انتهاج الطرق المختصرة لتحقيق الرغبات أي ارتكاب جرائم

يذهب المؤلف إلى أن الدافع الإجرامي ليس نتاجا لفعل البشر، بقدر ما هو مركب طفولي وميل طفولي بدافع الاستسهال والاختصار، فكل جريمة تتسم بالتدمير والانتزاع واغتصاب شيء والاستيلاء عليه بلا استحقاق، فالقوة والعنف للإغارة هي نزعة للحصول على شيء مقابل لا شيء، فاللص يسرق ما يريد عوضا عن العمل على ما يريد.

العنف يمثل قضية جوهرية تمس أمن وسلامة الإنسان في كل زمان ومكان.

وهو ظاهرة فتاكة لم تسلم منها الشعوب كلهم في كل الأزمنة والحضارات الإنسانية.

كانت قضية العنف من المنظور الثقافي والاجتماعي قد شغلت اهتماماتي لفترات طويلة، في سياق اهتمامي بقضايا المرأة والطفل والإنسان بشكل عام وخاصة المظلوم وتأثير الموروثات الثقافية عليهم، لكن سرعان ما توسع الاهتمام بالجوانب الأخرى للعنف من المنظور السياسي والاقتصادي والأمني والبيئي والإعلامي والطبي والإلكتروني، فشرعت في إنجاز كتاب يحاول تغطية هذه القضية الشائكة على كوكب الأرض.

العنف وفقا لمنظمة الصحة العالمية: هو إحدى المشكلات الصحية العمومية التي تحدث نتيجة لاستخدام القوة والعنف البدني عن قصد، سواء للتهديد أو للإيذاء الفعلي ضد النفس، أو ضد شخص آخر.

لذلك جاءت الأديان السماوية لتهذب الأنفس البشرية، وتحمي الإنسانية من بطش وجور العنف، وكذلك لعب الحكماء والمصلحون أدواراً مهمة في محاربة العنف وتقليصه ونشر قيم التسامح والإخاء البشري، مثلما فعل المهاتما غاندي في الهند مطلعاً بدعوته (للاعنف) كمنهج حياة سبقت إليه الأديان السماوية.

تزايدت مظاهر العنف في حياتنا اليومية، وتنوعت في أشكالها بين العنف اللفظي والجسدي، وانتشر بين مختلف الطبقات الاجتماعية والفكرية والعلمية وحتى الثقافية والدينية، وساهمت التقنية العصرية في زيادة معدلات العنف عبر وسائل التواصل الاجتماعي بما تسبب في تهديد الأمن والسلام الاجتماعي في العالم كله.

رغم الجهود المبذولة لمكافحة العنف، فان وجوده حاضر وبقوة في كل ساعات يومنا المعاصر، ولم تسلم منه أيام الأعياد والمناسبات الدينية، وأحيت حفلات الزفاف، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية عن أسباب قوة العنف، ومن أين يستمد مصادر قوته في حياتنا؟

ربما قد وجدت بعض الإجابات عن تساؤلاتي في دراسة للباحث أ. د باسم علي فرسان، (بالعنف البنيوي دراسة في نظرية جوهان غالتونج)، تناول فيه العنف البنيوي الخفي الذي يمتاز بعدم وضوح الجهات الكامنة خلفه وآثاره التي قد لا تكون ظاهرة.

فالمفكر جوهان غالتونج كان أول من تناول العنف الخفي في كتابه (العنف، السلام بحث السلام) عام 1969، كاشفا فيه، كيف العنف خفيا يقع دون وجود فاعل مرئي واضح، ومع ذلك يكون متأصلا في صلب المجتمع.

وحددت الدراسة ثلاثة أنواع من العنف هي

- العنف الثقافي الذي يستخدم لتبرير العنف بأنواعه.

- العنف المباشر في الإعلام والشوارع من قتل وتدمير.

- العنف البنيوي، وهي غير مباشر وهو جزء من النظام الاجتماعي السائد، الذي يمنح الرجل حقوقا وامتيازات لا يوفرها للمرأة،

وهذه النظرية قد تفسر لنا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فالعنف البنيوي يشمل الفقر بالحرمان من العمل والارتزاق، ويشمل القمع بسلب الحريات.

تبقى خطوة العنف البنيوي الخفي، في أنه مغلف بأقنعة ثقافية وسياسية واقتصادية ودينية تضفي عليه الشرعية ليكون عنفا مبررا خفيا مقارنة بأنواع العنف الظاهرة والمدانة أخلاقيا وقانونيا.