ثقافة وفنون

طوقان وشعرنا القديم.. ابن الرّومي نموذج آخر جديد

 

-1-

تعود صلتي بالرّاحل إبراهيم طوقان (1905 – 1941) إلى العَشْريّة السّادسة من القرن العشرين المنصرم حين كنت عام 1962 في السّنة الثّانية بقسم اللّغة العربيّة في جامعة بغداد مبتعثًا من وزارة التّربية والتّعليم الأردنيّة، إذ كلّفني أستاذي الرّاحل الدّكتور أحمد مطلوب، وقد كان معيدًا، بكتابة بحث عن «التّشبيه في شعر إبراهيم طوقان» الذي ليست عندي نسخة منه. ثمّ قادتني قراءة ديوانه إلى أن أكتب مقالًا آخر عنه عنوانه «إبراهيم طوقان وأثر المرض في حياته وشعره» نشرته في مجلة «الأقلام» العراقيّة (السّنة الثّالثة – الجزء السّابع. آذار 1967)، ثم كتبت بحث «أثر القرآن الكريم في شعر إبراهيم طوقان» (مجلة البيان – الكويت. العدد 139 – أيلول 1977). ثم راحت دراساتي وبحوثي عن إبراهيم تترى إذ أصدرت عنه، إلى الآن، الكتب الثّلاثة: «إبراهيم طوقان أضواء جديدة» (المؤسّسة العربيّة للدّر?سات والنّشر – بيروت 2004)، و «من بوادر التّجديد في شعرنا المعاصر: خليل مطران وإبراهيم طوقان نموذجًا» (ثلاث طبعات: وزارة الثقافة – بغداد 1990، ودار المناهل – بيروت 1995، والآن ناشرون وموزّعون – الأردن 2025)، و «إبراهيم طوقان: دراسة جديدة ومختارات» (دار المناهل – بيروت 2007).

-2-

شاركت في «ندوة مئوية الشّاعر إبراهيم طوقان» (مؤسّسة عبد الحميد شومان – عمّان 24/9/2005) ببحث عنوانه «إبراهيم طوقان وشعرنا القديم: الموقف والتّأثر والاستدعاء» الذي نشرته في كتابي الثّاني عن الشّاعر (ط2: ص 42–59)، والذي كشفت فيه عن تأثرات إبراهيم واستدعاءاته بأعلام من الشّعر العربي القديم الذي كان يعشقه ويحرص عليه حرصًا يكاد يقترب من حدّ القداسة كما ذكرت شقيقته فدوى.

بيد أنّه فاتني، على الرّغم من ذلك كلّه، أن أفطن إلى تأثر إبراهيم بالشّاعر ابن الرّومي الذي اهتديت إليه بعد قراءتي الدّقيقة المتأنية لديوان ابن الرّومي بأجزائه السّتة، الذي حققه أستاذي الكبير الرّاحل الدّكتور حسين نصّار، رحمه الله، إذ كنت أُعدّ عنه بحثًا عنوانه «ابن الرّومي ونقد الشّعر بالشّعر» هو الذي نشرته في كتابي «في النّقد الأدبي: إضاءات وحفريّات» (دار المناهل – بيروت 1995).

-3-

كان إبراهيم عاشقًا للموروث العربي عامّة والشّعر خاصّة عشقًا كاد يقترب من حدّ القداسة كما تقدّم، وكان من الدّعاة الكبار للعناية بكنوزه كافة. فقد عُني بالشّعر القديم وبعدد من الشّعراء في عصور ازدهاره، فقرأ وحفظ، وكتب مقالات، وألقى محاضرات وأحاديث إذاعيّة عن نفر منهم ولا سيّما شعراء العصر العباسيّ والعبّاس بن الأحنف خاصّة، الذي تلّقب به، والمتنبي، وأبي العلاء المعرّي تحديدًا.

وكان يوصي فدوى (1917 – 2003)، في بداياتها، ويلحّ عليها أن تعود إلى الينابيع الأصليّة الثرّة للشّعر العربي، ويحذّرها من حفظ الشّعر المعاصر باستثناء قصائد لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وخليل مطران كان هو يختارها لها ويوصيها بحفظها، ويرشدها إلى الشّعراء الكبار الذين قلّدتهم في طفولتها الشّعريّة، من مثل أبي فراس الحَمْداني وابن الرومي. وكان لبعض الشّعراء القدامى، ولا سيّما أبو نواس والعبّاس بن الأحنف وأبو تمّام والمتنبي والمعريّ وشعراء الغزل باتجاهاته كافة، أثر في اتساع «إطاره الشعريّ» وغناه، ونفوذ فن?ي في شعره. وقد تعانقت عناقًا حميمًا مع ذاته الشّاعرة المبدعة الخلّاقة تأثرًا واستدعاءً وإضافة وتفرّدًا وتفوقًا أحيانًا.

-4-

فأمّا هذا المبحث فعن صلة إبراهيم بشعر ابن الرومي، الذي يبدو أنّه قرأ ديوانه بعناية كما يتبدّى من رسالته إلى فدوى في (12 تشرين الآخِر 1930) حيث سألها: «هل حفظت كلّ قصائد ابن الرّومي التي (علّمْتُ) لكِ عليها'؟ خبّريني حتّى أُحضر لك قصيدة جديدة» (المتوكّل طه: الكنوز: ما لم يُعْرف عن إبراهيم طوقان 38. مؤسّسة الأسوار – عكّا 1998).

لابن الرّومي في «المفضّل بن سَلَمة» أبي طالب اللّغوي الكوفي (توفي حوالي 300ه)، الذي أخذ عن أبيه وابن السّكِّيت وثعلب، ومن مصنّفاته: معاني القرآن، والبارع في اللّغة، والاستدراك على العين (معجم العين للخليل بن أحمد)؛ له مقطوعة من أربعة أبيات مغلّفة بالتّضمين القافيّ العروضي، هي (ديوان ابن الرّومي 1: 105. تحقيق حسين نصّار. دار الكتب المصريّة – القاهرة 1973):

لو تلفْلفتَ في كساء (الكسائي)

وتلّبسْتَ فروة (الفرّاءِ)

وتخلّلت (بالخليل) وأضحى

(سيبويهِ) لديْك رهْنَ سِباء

وتكوّنت من سواد (أبي الأسـ

ـود) شخصًا يكْنى أبا السّوداء

لأبى الله أن يعدّك أهلُ الـ

ـعلم إلّا من جملة (الأغبياء)

هذه المقطوعة تذكّر فورًا من هم على صلةٍ ودراية بشعر إبراهيم بقصيدته المشهورة «الشّاعر المعلّم»، التي نظمها عام 1933، وعارض فيها معارضة صريحة، بالمفهومين المصطلحي والمضموني، قصيدة أحمد شوقي المعروفة «العلم والتّعليم وواجب المعلّم» التي مطلعها:

قمْ للمعلّم وفّهِ التّبجيلا

كاد المعلّم أنْ يكون رسولا

ورفض، من موقع التّجربة والعمل، أكثر مضامينها وأفكارها، ونَقَدها بشيء من الغضب والألم المشوبين بالفكاهة العذبة والسّخريّة المرّة بدءًا من مطلعها:

شوقي يقول وما درى (بمصيبتي):

'قمْ للمعلّم وفّهِ التّبجيلا'!!

ليس يساورني شكٌ، بناء على صلة إبراهيم الوثيقة بشعر المتنبي، في أنّ قصيدته هذه «معارضة المعارضة» كذلك؛ لأنّ أحمد شوقي كان قد عارض «لاميّة» المتنبي المعروفة في مدح «بدر بن عمّار مع الأسد» التي مطلعها:

في الخدِّ إنْ عزمَ الخليطُ رحيلا

مطرٌ تذوب به الخدود مُحولا

فالقصائد الثّلاث جميعًا من بحر الكامل وقافية اللّام المطلقة؟ (راجع، إبراهيم طوقان: أضواء جديدة 89).

إنّ إنعام النّظر في الأبيات السّتّة الآتية من «الطّوقانيّة» وهي «مضمّنة» تضمينًا قافيًّا عروضيًّا أيضًا كأبيات ابن الرّومي، يهْدي، بقطع النّظر عمّن قيلت فيهم مقطوعة ابن الرّومي وقصيدة إبراهيم إلى أنّ إبراهيم تأثر بمقطوعة ابن الرّومي تأثرًا خفيًّا استدعائيًّا. يقول:

ولو أنّ في «التّصليح» نَفْعًا يُرْتجى

وأبيكَ لم أكُ بالعيون بخيلا

ولكنْ «أُصلّح» غلطةً نَحْويّة

مثلًا واتخذ «الكتاب» دليلا

مستشهدًا بالغُرّ من آياتِه

أو «بالحديث» مُفَصّلًا تفصيلا

وأغوص في الشّعر القديم فانتقي

ما ليس مُلْتَبِسًا ولا مبذولا

وأكاد أبعث «سيبويهِ» من البِلى

وذويه من أهل القرون الأولى

فأرى «حمارًا» بعد ذلك كلّه

رفع «المضاف إليه» و «المفعولا»!