الحروب والأوبئة كلاهما تعميق لفعل الموت، وإشاعة للفوضى والمعاناة، وهذا ما يضع العالم أمام خطر حقيقي يواجه وجوده وكينونته حفاظًا على البشرية، واستمرارية الحياة. وإذا كان الخطاب الأدبي يرتبط في جوهره بالسياسة والفكر، فإن تكيّفه مع هذه الحالة من الحروب والكوارث أمرٌّ ضروري، إذ ينهض الأدب بروحانياته، وصوته الداخلي لاستدعاء موروث الإنسانية الخصب مقاومًا فعل الكراهية والبغضاء.
البحر والتاريخ والكوارث عوامل باعثة على وحدة المصير الإنساني في العمل الفني وقد توافرت كلها في رواية هزاع البراري «البحر الأسود المتوسط» الصادرة حديثًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، حيث يذهب الروائي إلى فكرة مهمة، تتجلّى في وحدة المصير الإنساني؛ ليبني عليها أحداث روايته معمّقًا من آلام البشرية وجراحاتها المتراكمة.
البحر الابيض المتوسط مهد الحضارات، وجسر ثقافي ومعرفي بين الشعوب التي تعيش على سواحله، ما أحوجنا إلى إنشاء جائزة إبداعية تحمل اسم حضارة البحر الأبيض المتوسط في أحد الفنون الإبداعية لأدباء ومبدعي الدول التي تقع على سواحله نشرًا لعالمية الأدب وتعريفًا بميراثه الإنساني الخصب، التي تعبر فيها الشعوب عن مشاعرها، وأفكارها.
ترسّخ رواية » البحر الأسود المتوسط» من عمق المد الحضاري الذي حققته ثقافة البحر الأبيض المتوسط في وجدان أدبائه ومبدعيه، فهو من ناحية عكس بعدًا حضاريا راسخ الجذور في وجدان شعوبه، وهو من ناحية أخرى ترك أثرًا عميقًا في الأدب المكتوب والتراث الشفهي على حد سواء.
يعالج هزاع البراري هذه الفكرة من منظور روائي، فيذهب إلى عنوان روائي مفارق لمألوفية الواقع جاعلاً البحر الأبيض المتوسط يكتسي باللون الأسود تعميقًا لما يسود هذه المنطقة المأزومة من جراح وويلات، إذ استوعب الروائي الإرث الحضاري العريق لحوض البحر الأبيض المتوسط ملتقطًا عمق هذه الثقافة الآسرة والمؤثرة معًا؛ ليبعثها في رواية تمزج الواقع بالخيال، والوضوح بالفلسفة ومغلفًا سرده بقصص التراجيديا والهلاك.
الأرض، والماء، والسماء توحّد الجغرافيا في بلدان البحر الأبيض المتوسط التي تضم: فلسطين، ولبنان، وسوريا، ومصر، وتونس، والجزائر، والمغرب، وليبيا، واليونان، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وتركيا، ويوغسلافيا، وقبرص، والبانيا. لكن ثمة وَحدة فكرية عميقة أبرزتها رواية » البحر الأسود المتوسط»، إنها وحدة الحضارة والمصير الإنساني لبلدان طالما عانت من ويلات الحروب والنكبات منذ فجر التاريخ، «وعندما نقول: ثقافة المتوسط، فنحن نعني جبال وغابات وبادية وصحراء المتوسط أيضاً؛ لأن المتوسط ليس مجرد شريط ساحلي... فالمتوسط له شعوب ت?مل ملامحَه، وعاداتِه، وتقاليده، وثقافته، وهي ليست ثقافة بحريّة فقط'(1).
تبدو علاقة هزاع البراري في روايته بالبحر الأبيض المتوسط علاقة عدائية في ظاهرها، لكنها واقعية في أحداثها، إذ إنّ القتل والخوف والقلق يرافق شخوص الرواية في أحداث الربيع العربي، فنقرأ في الرواية الموت المتكدس في المناطق السورية: إدلب ومعبر باب الهوى مع تركيا الذي صار » شاهدًا على نزوح الآلاف، الهاربين من براثن الموت بأنواعه. وأسراب الجراد الأسود التي تعبر من جهات بعيدة مدججة بالأسلحة والحقد، تنثر الدمار والقتل في كلّ القرى والبلدات المتروكة للرياح الشمالية الجافة» (2).
شخصيات الرواية مسكونة بالموت، فهي طالما عانت من ويلات الحروب في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، فمثلاً نجد أن (وليام) في الرواية شخصية مسكونة بالتشظي ذهب إلى كوبنهاجن بحثًا عن ذاته ووالدته، كذلك فإن رشا التي أحبها كريم واحتفظ بعلاقة عاطفية هادئة معها، تكتشف في حوار صادم مع كريم عن موت جدها منتحرًا، حيث جاء على لسان كريم:» والمنتحر يموت، أليس كذلك، بغض النظر عن الأسلوب عن الطريقة، هو ميت الآن، ميت لدرجة أنه لن يعود، وهذا أقسى ما في الموت» (3).
وقد أوجز الشيخ أسامة في الرواية الأزمة الإنسانية الحادة التي تعاني منها شعوب هذه المنطقة بقوله: » نحن شعوب البحر الأبيض تأكلنا الحروب الكثيرة، وما تبقى منّا تلتهمه الهجرات نحو ضفاف مسعورة الحواف، مسكونة بالخوف الأزلي» (4).
لذلك جاء فقدان الأمل في الخلاص سمة مهمة رافقت شخصيات الرواية، حيث يظهر هذا الشعور في شخصية كريم من خلال حديثه العشقي عن حالة البؤس والشقاء التي يحياها:» حتى البؤس يتغيّر، يأخذ أشكالاً جديدة، لكنه يجعلك أكثر جفافًا وصبرًا، أو يدخلك إلى حالة من الاعتياد والتصالح مع حتمية شقاء الروح ومهادنة النكران والخذلان، هذا ما حدث بعد عام تقريبًا، من انفصال أمي وأبي، عام كبرت فيه كثيرًا، وتغيرت بحجم الموت الداخلي الذي اجتاحني سريعًا.'(5).
لقد رسم الروائي البحر بأبعاده الدلالية الواقعية منتجًا هذا الحضور الطاغي للموت بتشكلاته المختلفة التي صنعت مصائر الشخوص، حيث الأمكنة التي شيدتها الحروب والنكبة بقيت شاهدة على معاناة ساكني بلدان المتوسط، فجاء الوصف للمكان ممزوجًا بهذه الروح المأساوية » إسكندرية لعنة الغّزاة، هنا بدأوا وهنا تلاشوا، انتهوا، تركوا أسرارهم وأحزانهم وابتلعهم البحر، هم أيضًا كانوا مهاجرين غير شرعيين، لكن السيف لغتهم وليس رغيف الخبز والملاذ» (6).
يمكن القول: إنّ البحر هو بطل الرواية الحقيقي، وأن مشاعر القلق والخوف على البشرية هي التي غلفت حوارات الشخصيات وطبعتها بطابعها الخاص، حيث تتداخل المشاعر الإنسانية في فضاء البحر الواسع والصراعات المستترة التي يشهدها، إذ يظهر البحر في رواية هزاع البراري رمزًا للصراعات المختلفة والصمود والنضال معًا، يتشكّل بوصفه فرصة للحياة ومكانًا للموت والهلاك، كما جاء في الرواية:» البحر الأبيض المتوسط، يتمطّى بسأم عجوز مُتعب، يقود مراكب مدججة بالفناء منذ فجر الأشرعة، ومنذ تعلمت الريح لغة الرحيل، أمواجه التي تكاثف فيها الشيب?الأبيض، تتكسر على شواطئ الإسكندرية كلهو صِبية أشقياء، والصيف الغاضب يهاجم الكورنيش بألسنة من لهب حارق وخانق في ساعات الظهيرة الآسنة بالكسل والفتور'( 7).
لقد قدّم الروائي أحداث روايته بأساليب مختلفة، حيث أصبحت كلّ شخصية راوية للحدث، وهذا أسهم في إغناء السرد بتجارب مختلفة مرّت فيها الشخوص، وعمقّت من مأساويتها، وكشفت عن هويتها وذاكرتها، وفهمها للواقع، حيث تؤكد الرواية على تحديات اجتماعية ونفسية وسياسية واقتصادية تعيشها الشخصيات في سياق تاريخ واسع أسهم في تشكيل بنيتها السردية وتصوير أحداث واقعية بلغة الرواية وتقنياتها الفنية.
إذ إنّ الفكر التشاؤمي الذي بثه الروائي في مشاهد الرواية انعكس على لغتها وصورها الفنية، وقاد إلى بناء لغوي خاص مفعم بالحزن والسوداوية، فعلى شاطئ المتوسط تستحيل الكلمات إلى مأساة حقيقية، مرتبطة بأحداث أكثر بؤسًا حيث جاء في الرواية:» تنهد الشيخ أبو حذيفة، بدا وكأن الذاكرة المكتنزة أنهكته، فبعد يوم طويل على شاطئ مصراته، بين القارب العجوز والمقهى الغارق بالرمل والغرباء، أصرّ أن يأخذني إلى بيته على أطراف مصراته ضمن الأحياء الجديدة التي ظهرت بعد الثورة، وموت القذافي المزري'(8).
تبقى رواية » البحر الأسود المتوسط» رواية ذات أبعاد سياسية ونفسية وفنية واضحة، أفرزت فكر احتجاج وثورة، ورؤى مقاومة ورفض، تتشح بالحزن والألم، حيث يحتل الروائي فيها موقع الفنان الذي يرسم بريشته لوحة متشحة بالسواد، ويعيد كتابة الواقع بتراكمات أحزانه ونكباته المتتابعة بعيدًا عن بزوغ أيّ أمل بالخلاص.
الهوامش:
1 ـ عبدالله رضوان وآخرون، امرؤ القيس الكنعاني ( قراءات في شعر عزالدين المناصرة)، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999م، ص432.
2 ـ هزاع البراري، البحر الأسود المتوسط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2024م ص85.
3 ـ المصدر نفسه، ص97.
4 ـ المصدر نفسه، ص 45.
5 ـ المصدر نفسه، ص 120.
6 ـ المصدر نفسه، ص 43.
7 ـ المصدر نفسه، ص 246.
8 ـ المصدر نفسه، ص 154.
(ناقد أردني)