صحة وجمال

السرطان من مسافة صفر عندما تخون الخلايا 2

بعد أن صحوت من هول الصدمة الأولى، أعلمني والدي والذي كان قد كبر خلال الأشهر القليلة الماضية سنين عديدة، وغزا الشيب رأسه خلافاً لما تركته عليه، وقد حملت تعابير وجهه هموماً لم أعهدها من قبل، وهو الذي خبرته جبلاً لا تهزه ريح. أخبرني الوالد أنه بعيد سفري بدأ جدي رحلة علاج طويلة، تنقل خلالها بين عيادات الأطباء، ومختبرات المستشفيات، وكان ' التكهن' سيد الموقف، فمنهم من ألقى باللائمة على القلب قبل أن تبرئه القسطرة التي كشفت عن قلب فتي ينبض بعشق( مرج ابن عامر)، وآخر بَحَثَ في الكلى عله يجد فيها ضالته لتكذب الصور ا?شعاعية حدسه، وأخيراً حطت طائرة الاستكشاف ف يبيت الداء: (المعدة) رغم أنها لم تكن يوماً من بين أولويات جدي!

لقد نزل الخبر كالصاعقة على الجميع، وخطف الدم من الوجوه، وعلى الألسنة الصيحة، وفعلاً تم تحديد موعد للعملية،والألسن تلهج بالدعاء والقلوب بالرجاء آملين أن يأتي خبر يمحو هذا الكابوس، لكن يأبى القدر إلا أن يوجه ضربته التالية، فبعد أقل من ساعة من بدء العملية أطل الجراح على الجموع الشاخصة في قاعة الانتظار، ولم يكن هناك حاجة لأن ينطق بكلمة، فتعابير وجهه وشت بكل شيء.

ويفيق جدي بعد ساعات قليلة من إجراء العملية،ليوجه تساؤلات حول وضعه الصحي، لكنّ والدي الذي كان يعلم حقيقة الوضع حاول أن يرسم ابتسامة مقتضبة على وجهه يجيبه» الحمد لله».

لكم هيهات أن تقنع هذه الابتسامة المشوبة بالحزن والألم (أبا حمزة)صاحب الذهن المتّقد،وإن كان ما يزال تحت تأثير التخدير، ليسأل والدي مرة أخرى مشككاً: «أمانة'؟ وهنا صمت والدي هنيهة ليعود جدي ويقرر ما يعرفه عن وحيده:'الأمانة غالية عندك»؟

نعم لقد كان الورم قد استوطن جسده في غفلة من حرّاسه، واتضح بان العلاج الموضعي متعذر، وكان لا بد من علاج شامل يحمل اسماً مرعباً، إنه العلاج الكيماوي، والذي لم يكن معروفاً للامة على نطاق واسع في تلك الأيام، وبعض أنواعه لم تكن متوفرة في السوق الأردني، فبادر أحد أبناء العمومة بتأمينه لنا من أحدى دول الخليج، لتبدأ بعدها رحلة الأمل والألم مع العلاج،وفاقت الاستجابة للعلاج توقعات الأطباء كما أظهرت الصور الشعاعية، لكنّ جدي كان قد وصل إلى أقصى درجات التحمل بعد الجرعة الرابعة، ليقرر بحزم استرجع به الأيام الخوالي، وأبى?إلا أن يكون سيد نفسه كما كان دأبه طيلة حياته، وليعلن للجميع وبنبرة حازمة لم تترك مجالاً للنقاش؛ أنه قررالاستسلام وهي كلمة غير معهودة في قاموسه حتى في أحلك ظروف الهجرة التي عاشها عام 1948.

أدرك الجميع بعدها أنه لم يعد في أيدينا إلا أن نسلّم بقضاء الله، وأن نرجو رحمته إلى أن جاء قدر الله وأسلم جدي الروح في صيف عام 1986.

مات جدي الذي أحببت، ولم يكمل الثالثة والستين من عمره، وترك لنا ذكرى عطرة وسمعة طيبة ترد لمسامعنا من كل من عرفه، كما ترك عدواً شرساً كرهناه دون أن نعرف كنهه هو » السرطان».

هذا الحدث العظيم كان لقائي الأول مع هذا المرض من » المسافة صفر» لكن قطعاً لم يكن الأخير، وإن كانت تجربتي الأشد ألماً وحسرة لفقد رجل عظيم مثل جدي.

مدير عام مركز الحسين للسرطان