كتاب

المريض بين مطرقة الاخطاء الطبية وسندان التداعيات النفسية

في عالمٍ تتصاعد فيه تعقيدات المنظومة الصحية، تبرز معاناة المريض كأحد أبرز التحديات التي تُهدد كرامة الإنسان وسلامته، فبينما تُعد الرعاية الصحية ركيزةً أساسيةً للحضارة الانسانية، تتحول في بعض الأحيان إلى ساحةٍ للمخاطر التي تتفاقم بسبب الأخطاء الطبية المميتة والتجاوزات على المهنة الطبية بسبب عدم ضبط المهنة. المريض، بوصفه الطرف الأضعف في المعادلة الطبية، يُترك وحيدًا ليواجه تبعات إخفاقات أنظمةٍ صحية تتعثر في تحقيق العدالة والشفافية،غالبًا ما يجد المريض نفسه عالقًا بين مطرقة الأخطاء الطبية وسندان التداعيات النفسية التي تفرضها عليه طبيعة العلاقة غير المتوازنة مع المنظومة الصحية مما يجعل قضيته اختبارًا حقيقيًّا لأخلاقيات المجتمع وقدرته على حماية حقوق الأفراد.الأخطاء الطبية ليست وليدة اليوم، لكنها تتفاقم في ظل غياب الرقابة الصارمة وعدم وجود آليات واضحة للمساءلة ولايمكن اختزالها في أخطاء فردية عابرة، بل هي نتاج تراكمي لخللٍ هيكلي في الأنظمة الصحية، فبحسب منظمة الصحة العالمية، تحتل هذه الأخطاء مرتبةً متقدمة بين الأسباب العشرة الأولى للوفاة عالميًا، وتتنوع بين تشخيص خاطئ، أو جراحات غير دقيقة، أو إهمال متابعة الحالات الحرجة، أو أخطاء صيدلانية قاتلة، لكن اللافت أن جزءًا كبيرًا من هذه الأخطاء لا ينبع من سوء نية الطبيب، بل من خلل في النظام الصحي نفسه على سبيل المثال لا الحصر: ازدحام في المستشفيات، ونقص في الكوادر الطبية المدربة، وغياب البروتوكولات العلاجية الموحدة، وضغوط العمل التي تحوِّل الأطباء إلى آلات تعمل بلا توقف. الأكثر إيلامًا هو أن الضحية–المريض–يتحمل تبعات هذه الأخطاء بمفرده في كثير من الأحيان، فغياب القوانين او عدم تفعيل المتوفر منها لتتضمن تعويضًا عادلًا، أو إجراءات لإصلاح الخلل، يترك المريض وأسرته في دوامة من المعاناة الجسدية والنفسية، بل وقد يدفعهم إلى فقدان الثقة في المنظومة الصحية بأكملها، فإذا كانت الأخطاء الطبية تُهاجم جسد المريض، فإن التبعيات النفسية تُدمر روحه.

في ظل أنظمة صحية بيروقراطية، يُجبر المريض على الانتظار أشهرًا للحصول على موعد، أو يخضع لفحوصات مكلفة لا ضرورة لها، أو يُدفع إلى تناول أدوية باهظة الثمن دون وجود بدائل. هذه الممارسات تُعمق إحساس المريض بأنه «رقم» في ملفٍّ إلكتروني»، لا إنسانًا له كيان مستقل. بل إن بعض الحالات–خاصة المزمنة–تتحول إلى «سجون نفسية»، حيث يبدأ المريض في ربط وجوده بزيارات المستشفى الدورية، أو بتعاطي دواء معينا، مما يقتل أي أمل في التعافي الذاتي أو الاستقلالية. الأخطر هو الاستغلال العاطفي من قبل بعض الممارسين غير الأخلاقيين، الذين يستخدمون حالة الضعف النفسي للمريض لفرض علاجات غير ضرورية، أو لخلق علاقة تبعية تدرّ عليهم أرباحًا مادية. في هذه الحالة، لا يعاني المريض من مرضه الأصلي فحسب، بل يصبح رهينة لعلاقات مختلةّ تقضي على ثقته بنفسه.لا تعمل هذه المشكلات في معزل عن بعضها، بل تتفاعل لخلق حلقة مفرغة من المعاناة. تخيل مريضًا تعرّض لخطأ طبي أثناء عملية جراحية، مما تسبب في مضاعفات دائمة، هذا المريض لن يعاني جسديًا فحسب، بل سيعاني من صدمة نفسية–ربما تصل إلى اضطراب ما بعد الصدمة–تجعله يخشى أي تدخل طبي في المستقبل. في الوقت نفسه، قد يُجبر على الاعتماد على مسكنات أفيونية لتخفيف الألم المزمن، مما يزيد من خطر الإدمان.هنا تبرز إشكالية أخرى: الوصمة الاجتماعية، فالمجتمع–في كثير من الأحيان–يتعامل مع ضحايا الأخطاء الطبية أو المرضى النفسيين بتوجس، مما يدفعهم إلى الصمت خوفًا من النبذ، هذا الصمت يُغذي ثقافة الإفلات من العقاب، ويسمح باستمرار الممارسات الخاطئة.

مواجهة هذه الأزمة تتطلب تحركًا على مستويات متعددة تبدأ من تعزيز الرقابة من خلال إنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في الشكاوى الطبية، مع ضمان حماية الضحايا من الترهيب. اما التوعية المجتمعية فتتحقق بتمكين المرضى من خلال تثقيفهم حول حقوقهم، وكيفية الوصول إلى المعلومات الطبية الموثوقة، ويتطلب الامر كذلك إصلاح التعليم الطبي من خلال التركيز على الجانب الإنساني والأخلاقي في تدريس الطب، بدلًا من الاقتصار على الجانب التقني. والامر الاخر المهم هو دعم الصحة النفسية من خلال إدماج خدمات الدعم النفسي ضمن الرعاية الصحية الأساسية، خاصةً لضحايا الأخطاء الطبية.

خلاصة القول، الحديث عن معاناة المريض ليس ترفًا فكريًا، بل مساءلةٌ عنيفة لأنظمةٍ صحية تتهاون في حماية أضعف أفرادها. الأخطاء الطبية والتبعيات النفسية ليست قدرًا محتومًا، بل نتاج إخفاقات يمكن إصلاحها بإرادة سياسية واجتماعية. حين نضع المريض في مركز الاهتمام–ليس كـ» حالة مرضية »، بل كإنسان له كرامة–نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو منظومة صحية إنسانية حقًا.

امين عام المجلس الصحي العالي السابق