المثقّف الحقيقي هو من يوجّه قدراً كبيراً من طاقاته العقليّة وجهوده الفكريّة وإنتاجه الإبداعي لخدمة قضايا مجتمعه وأمّته والقضايا الإنسانيّة، وليس هنالك من هدفٍ يصبّ في خدمة المجتمع والأمّة والإنسانية في هذه الأيام على وجه الخصوص أعظم شأناً من المحافظة على تماسك المجتمع ووحدة الأمّة، ولا سيّما إذا كانت هنالك مخطّطات معلنة من أعداء الأمة تعمل بأقصى طاقة ممكنة لتمزيق المجتمعات العربية من الداخل وتفكيك مقوّمات التعاون والتضامن والتكامل بين الدول العربيّة، بحيث يعيش كلّ مجتمع من المجتمعات العربيّة في حالةٍ من نز?ف الإمكانيات واللهاث خلف أدنى سبل العيش الكريم، وبحيث تعيش الأمّة برمتها حالة خطيرة وعميقة ومزمنة من الاختلاف والتناحر وصولاً إلى الكراهية والحقد وانقطاع سبل التفكير بالتعاون والتعاضد.
وبذلك ينقسم دور المثقف إلى وظيفتين على قدر كبير من الأهمية والصعوبة في آن واحد، أولاهما وظيفة العمل على الحيلولة دون حدوث الانقسام، والثانية العمل على إصلاح ما وقع بالفعل من الانقسام.
وحتّى يحقّق المثقف شيئاً من النجاح في النهوض بهاتين الوظيفتين لا بدّ له من أن يكون قدوة للناس في دعوته للوحدة والتلاحم والتماسك والنأي بنفسه عن الانخراط في أشكال التفرقة الإقليمية والعنصرية والطائفية وغيرها، وأن يكون موضع ثقة الناس من قراء ومستمعين ومشاهدين حتّى يكون مقنعاً لهم وقادراً على ترك أثر له فيهم.
ومن الأمور المهمّة التي ينبغي للمثقف أن يتنبّه لها هي أنّه في حال سقوطه في حبال الإقليمية والعنصرية والطائفية داخل مجتمعه فإنّه يكون قد حقّق أهداف عدوّه عن قصد أو من غير قصد، وقد يظهر وكأنّه في صفّ هؤلاء الأعداء الذين يجاهرون بسعيهم إلى شقّ صفوف المجتمع وشقّ صفوف الأمّة، كما أنّ المثقف إذا بالغ في نزعته القطرية فإنه يكون قد اصطفّ إلى جانب العدوّ الذي يسعى إلى شقّ صفوف الأمّة بكلّ الوسائل الممكنة، فكيف إذا كان يحقّق أهدافه عن طريق المثقفين؟!
وليس المقصود من ذلك أن ينسلخ المثقف عن مجتمعه وقومه وعقيدته ووطنه، بل المطلوب أن يحرص على عدم تجاوز ذلك إلى حالة التصادم مع المكوّنات الأخرى داخل المجتمع أو التصادم مع الأوطان العربيّة الشقيقة الأخرى، وعليه أن يعظّم المشترك مع تلك المكوّنات ومع الدول العربيّة الأخرى.
وفي هذه الأوقات التي ينشط فيها الذباب الإلكتروني وعشّاق الفتن وأحدث وسائل التآمر ضدّ الوحدة الوطنية داخل كلّ مجتمع عربي وبين البلدان العربية على أسس طائفية ومذهبية وحزبيّة وإقليمية وعنصرية وغيرها، يصبح من أهم واجبات المثقف الحقيقي والملتزم التصدّي لهذه الحملات وبذل أقصى الجهود لتوعية الناس وتحذيرهم من الانسياق أو الانجرار وراء دعوات التفرقة والكراهية، والتحذير من مغبّة الانقسام والتباغض، والحثّ على تجنّب نشر أيّ خبر أو معلومة تؤدي إلى تعميق الانقسام، والدعوة إلى التثبّت من كلّ ما يشاع من أخبار ودعواتٍ قد ت?ون مدسوسة بهدف تعزيز الفرقة وبثّ الفتنة وتمزيق الأمّة.
وللمثقف أدوات لا تحصى للقيام بهذه المهمّة المقدّسة، كالشعر والرواية والمسرح والمقالة والخاطرة والخطبة السياسية والخطبة الدينية والفنّ التشكيلي والأغنية والقصة القصيرة والتحليل الإخباري والرسم الكاريكاتوري والمشاركة في الندوات والمؤتمرات والحوارات، والتغريدات الإلكترونية وغيرها.
ويستطيع المثقف توظيف هذه الأدوات في التصدّي لكلّ دعوات التفرقة والفتنة، وبيان مضارّها على المجتمع والأمّة، كما يستطيع أن يجعل من هذه الأدوات وسائل للحثّ على المحبة والتعاون والتضامن وبيان فوائدها على المدى القريب والمدى البعيد للفرد والمجتمع والأمّة، على أن يكون في توظيفه لهذه الأدوات منطقياً ومقنعاً ومؤثّراً.
إنّ الأصل في الثقافة أن تكون جامعةً لا مفرّقة وحامية لتماسك المجتمع ووحدة الأمّة لا عامل هدم لما أجمعت عليه الأمّة من قيمٍ وطنية وقوميّة وأخلاقية وإنسانيّة،ـ ومتى تخلّت الثقافة عن رسالتها النبيلة وأهدافها السامية فإنّ مستقبل الأمّة يصبح في مهبّ الريح. غير أنّ أخطر ما يمكن أن يمرّ به المجتمع أو تمرّ به الأمّة أن يتحوّل المثقف إلى معول هدم وتقويض لعوامل التماسك والتلاحم أو يتبنّى دعوات التفكك والتصادم والتناحر بين مكوّنات المجتمع الواحد أو بين أقطار الأمّة الواحدة؛ وذلك هو السقوط الحقيقي للمثقف.