تمر سوريا بسلسلة من الاحداث الداخلية والإقليمية المتسارعة التي تستدعي التوقف عندها، والتفكير بها من منظور تحقيق المصلحة الوطنية السورية والأمن الإقليمي والقومي العربي، والمتابع للملف السوري يقف بالضرورة عند المتغيرات التالية:
. الأقليات العرقية والدينية:
تعيش «الأقليات الدينية والعرقية» ظروفا صعبة وغير مستقرة في أعقاب سقوط النظام السوري الذي اعتمد بالأساس عليها لإدارة شؤون البلاد، ما دفع الكثير منها للتحرك باتجاهات مختلفة دفاعا عن النفس وتلافيا لاي تهديدات من خلال:
. محاولات (الهجرة غير الشرعية) المتزايدة عن طريق شبكات التهريب عبر دول الجوار والبحر المتوسط.
. عدم استقرار الأوضاع، وقد دعت (إيمي بوب/ مديرة المنظمة الدولية للهجرة) في أكثر من مناسبة منذ نهاية (٢٠٢٤) لوقف العودة الجماعية إلى سوريا لحين هدوء الاوضاع هناك، وعزز ذلك تحذيرات الخارجية الأميركية المتكررة من احتمال وقوع هجمات وشيكة على مواقع يرتادها السياح في سوريا.
. إصدار بيانات باسم «علويين في سوريا» عن الفعاليات والشخصيات الأكاديمية والروحية والاجتماعية والنخب العلوية، مطالبة باتخاذ إجراءات فورية لوقف ما ووصف بـ'حملة الإبادة الجماعية ضد العلويين» وتشكيل لجنة دولية للتحقيق بجرائم «الإبادة الجماعية»، ونشر بعثة للأمم المتحدة للإدارة المؤقتة لمناطق العلويين لحفظ السلام، واجراء استفتاء دولي إقرارا بحق تقرير المصير للعلويين.
. تهديدات بعض (قادة الفصائل الدرزية) بقتال الإدارة الجديدة إذا لم «تعمل بشكل صحيح»، كما أشار (شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز بسوريا/ حكمت الهجري) إلى عدم التعاون مع دمشق، مؤكدا أن ابناء السويداء جاهزون للقتال وصد القوات الحكومية إذا لزم الأمر، كما ضبط الأمن العام شحنات أسلحة متنوعة وصواريخ مضادة للدروع كانت معدة للتهريب من دمشق إلى السويداء.
. توصل القوى والأحزاب الكردية شمال شرق سوريا من بينها (حزب الاتحاد الديمقراطي/ PYD والمجلس الوطني الكردي/ ENKS) إلى وثيقة توافق سياسي مشترك تتضمن تشكيل لجنة خاصة للتفاوض مع الادارة السورية لضمان حقوق الأكراد في الدستور الجديد، والتحاور مع دمشق على اساس أن يكون شكل الدولة من أشكال الإدارة الذاتية أو اللامركزية، هذا في الوقت الذي تتنامى فيه تهديدات داعش، حيث قامت (قسد) بضبط خلايا مسلحة تنشط في مخيم الهول الذي يؤوي أفراد عائلات عناصر التنظيم، في بيئة تشكل تحدياً أمنياً وإنسانياً، حيث يحتاج عشرات الآلاف من أبناء المخيم لإعادة التأهيل والإدماج.
. الجبهة الجنوبية:
- تشهد المحافظات الجنوبية والتي سُميت بـ«الجبهة الجنوبية» إبان الثورة، حيث تلتقي التحركات العسكرية الاسرائيلية المزعزعة للاستقرار مع نزعة أبناء الطائفة الدرزية لإقامة «إقليم حكم ذاتي»، وتجلت حالة عدم الاستقرار بالمظاهر التالية:
. الفراغ الأمني وشيوع الفوضى والمواجهات بين الحين والآخر؛ وكان آخرها تلك التي اندلعت في النصف الأول من الشهر الحالي بمدينة بصرى الشام في محافظة درعا بين قوات الأمن العام و(قوات الفيلق الثامن/ أحد أبرز فصائل جنوب بقيادة أحمد العودة) التي تأسست عام (٢٠١٨) بدعم وتمويل من القوات الروسية، وانتهت المواجهات بحل التشكيل ودمج أسلحته وعناصره تحت إمرة وزارة الدفاع السورية.
. استمرار عمليات تهريب كميات كبيرة من المخدرات عبر الحدود السورية إلى الأردن ومنها إلى دول مجلس التعاون الخليجي، بطرق عديدة لعل احدثها الطائرات المسيرة.
- النشاط التأزيمي الاسرائيلي، حيث حذّر (وزير الدفاع الإسرائيلي/ يسرائيل كاتس) الرئيس السوري أحمد الشرع من تبعات السماح لقوات معادية لبلاده بالتواجد بسوريا (المقصود تركيا)، مؤكداً أن ذلك سيكلفه ثمناً باهظاً، وأن الجيش الإسرائيلي سيواصل انتشاره بقمة جبل الشيخ ومناطق الأمن والفصل لحماية مستوطنات هضبة الجولان والجليل من أي خطر، ويرى المتابعون أن اسرائيل ترمي من وراء ذلك لتحقيق هدفين، هما:
. منع سيطرة تركيا على جنوب سوريا في ظل المخاوف من نشر الاتراك مضادات ارضية وأنظمة دفاع جوي تركية وروسية منها (S400) في خطوة غير مسبوقة باعتبار أن أمن سوريا بات جزءا من امن تركيا بحسب الرئيس (أردوغان)، ويُعدّ هذا أول استخدام للمنظومة خارج الأراضي التركية ما قد يُقيّد حرية عمل الطيران الإسرائيلي فوق الأجواء السورية، وستدعم الطائرات المُسيّرة المنوي نشرها بقاعدة (T4) مهام الاستطلاع والاستخبارات والقتال.
. إعاقة ربط تركيا بدمشق بمشروع خط سكك حديدية يبدأ من (ميدان إكبس في عفرين بريف حلب–حلب–دمشق) بتكلفة تتراوح ما بين (٥٠-٦٠) مليون يورو، ويؤكد المسؤولون الأتراك أن تركيا وسوريا تشكلان تكاملًا اقتصاديًا قويًا على غرار النموذج بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، ونموذج الاتحاد الأوروبي.
. الامن القومي العربي:
-استقرار سوريا وتطوير العلاقة مع الادارة الجديدة مصلحة أردنية وعربية عليا، وفي غضون أيام استقبل الرئيس السوري أحمد الشرع، وزير الخارجية نائب رئيس الوزراء/ أيمن الصفدي الذي نقل رسالة شفوية من جلالة الملك أكدت الحرص على تعزيز العلاقات بين البلدين، ودعم الأردن لأمن واستقرار سوريا، والوقوف معها في عملية إعادة البناء والاتفاق على تشكيل مجلس تنسيق أعلى يشمل كافة القطاعات. كما استقبل (وزير الدفاع السوري/ اللواء مرهف أبو قصرة) وفدًا عسكريًا أردنيًا ترأسه (اللواء يوسف الحنيطي/ رئيس هيئة الأركان المشتركة)، وسيقوم الأردن بتوريد (٢٥٠) ميغاواط من الكهرباء وضخ الغاز بمبادرة قطرية عبر الاراضي الأردنية، ويرى بعض المحللين أن دبلوماسية الطاقة يمكن أن تسهم في بناء شبكة علاقات بنّاءة مع الادارة الجديدة، وتزامنت الاتصالات الأردنية–السورية مع زيارات الرئيس الشرع إلى: (السعودية، الامارات وقطر) لتعزيز العلاقات الثنائية والحصول على الدعم الخليجي برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، واستقطاب الاستثمار.
-من جانبها تتعامل الإدارة الأميركية بحذر مع الحكومة السورية، حيث اشترطت واشنطن لرفع العقوبات ودعم سوريا «تطهير» الرئيس الشرع لحكومته من المتشددين الأجانب وبقايا تنظيم القاعدة وإثبات قدرته على توحيد الأقليات، مؤكدة أنها لا تهدف بالضرورة لإنقاذ سوريا والشعب السوري بقدر ما تسعى لضمان عدم عودة إيران وميليشياتها وتنظيم داعش إلى المنطقة، باعتبار ذلك مصلحة أساسية للولايات المتحدة، واتخذت الأخيرة بعض الإجراءات التي تعكس تراجع اهتمامها بالملف السوري منها:
. اعلن (البنتاغون) نيته خفض عدد القوات الأميركية في سوريا إلى أقل من (١٠٠٠) جندي، مع استمرار عمليات ضرب داعش والتصعيد مع الفصائل الموالية لإيران.
. تعليق المساعدات الإنسانية، وقد أكد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن تسعة من كل عشرة سوريين يعانون من الفقر ويواجهون خطر انعدام الأمن الغذائي، كما ذكرت (منظمة سايف ذي تشلدرن) أن أكثر من (٤٠٠) ألف طفل في سوريا يواجهون خطر المعاناة من سوء التغذية الحاد بعدما علقت الولايات المتحدة المساعدات، ما أجبر المنظمة على تخفيف عملياتها في البلاد.
. تصريحات الرئيس الأميركي التي أدلى بها حول اتصاله مع الرئيس أردوغان حين قال له: «مبروك عليك سوريا» في مؤشر على أن (ترامب) يبحث عمّن يساعد بحمل أعباء الملف السوري عن كاهل إدارته، وقد أثارت تعليقاته سخط وانتقاد السوريين الذين اعتبروا أنها تعطي الانطباع بأن سوريا «ليست دولة ذات سيادة عضواً في الأمم المتحدة موقعة على ميثاقها، بل مجرّد جغرافيا سائبة يتداولها الكبار، واعتبرته اختزالا فاضحا لمنطق الصفقات الجيوسياسية الذي حلّ محل القانون الدولي في إدارة شؤون العالم».
خلاصة القول إن استقرار سوريا جزء مهم إن لم يكن الأهم لتحقيق شيء من الأمن القومي العربي الضائع في المرحلة الحالية، وهو ما يستدعي دخول الدول العربية المعنية على خط تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع الادارة السورية الجديدة بشكل مباشر، واستثمار تراجع الدور الأميركي جنبا إلى جنب مع (أنقرة) لسد الفراغ الأمني والحد من: ظاهرة » الهجرة غير الشرعية»، ووقف تهريب المخدرات خصوصا عبر جنوب سوريا، ومواصلة ضرب تنظيمات داعش والميليشيات، والعمل على تدريب وتأهيل المجندين السوريين وتبادل المعلومات والإسناد إذا استدعت الضرورة، مواصلة دعم: العملية السياسية في البلاد، رفع الحصار وإعادة الإعمار، وإحباط النشاط العسكري التوسعي الاسرائيلي الرامي لإضعاف سوريا وتفكيكها بتغذية النزعات الانفصالية لدى الأقليات التي تعتبر جزءا أصيلا ومهما من النسيج الاجتماعي السوري واحد عناصر ثرائه، والتي يفترض العمل على ادماجها، مع الحفاظ على موروثها الثقافي ورعاية مصالح الجميع على اساس المواطنة.