كتاب

البابا فرنسيس.. وداع المتواضع

ووري البابا فرنسيس السبت الثرى في بازيليك سانتا ماري ماجوري في روما بعدما شارك أكثر من 400 ألف شخص في جنازته المهيبة التي حضرها نحو خمسين رئيس دولة ونحو عشرة ملوك.

منذ انتخابه في عام 2013، أظهر البابا فرنسيس، الذي وُلد في الأرجنتين، روح التواضع والالتزام بالمبادئ. كان البابا أول قائد للكنيسة من أميركا اللاتينية. طوال حبريته، عاش البابا فرنسيس بإيمان راسخ، حاملًا شعار «كنيسة فقيرة من أجل الفقراء»، رافضًا الترف والظواهر المادية التي سادت البابوية في العصور الماضية. فقد اختار أن يقيم في دار الضيافة بدلاً من القصر الرسولي، مؤكدًا على اختياره لمبدأ البساطة والعيش المشترك مع المحتاجين.

عُرف البابا فرنسيس بمواقفه الجريئة والإنسانية تجاه القضايا العالمية. فقد كان دائم الدفاع عن حقوق اللاجئين والمهمشين، إذ فتح أبواب الفاتيكان لعائلات لاجئة ودعا الكاثوليك في جميع أنحاء العالم للانخراط في العمل الانساني والعدالة الاجتماعية. كما لم يتردد في إدانة الحروب والنزاعات، بما في ذلك الحرب على غزة، التي وصفها بأنها «غير أخلاقية» و'مخزية». كما دعا مرارًا إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، متمنيًا السلام للعالم الذي بات يعجّ بالدماء والمعاناة.

فيما يخص قضايا الكنيسة الداخلية، حمل البابا فرنسيس على عاتقه مسؤولية إصلاح شؤون الكنيسة التي كانت مثقلة بفضائح الاعتداءات الجنسية بشكل عام، وخاصة تلك المتعلقة بالأطفال. ورغم صعوبة هذا الملف، فقد سعى فرنسيس إلى معالجته بشفافية غير مسبوقة، بإلغاء قاعدة «السرية البابوية» في هذا السياق.

كما واجه تحديات كبيرة على الصعيد الإداري، إذ كانت الكنيسة تعاني من أزمة مالية خانقة، دفعته إلى تعيين قضاة مختصين لمكافحة الفساد وإعادة بناء الثقة في الإدارة الفاتيكانية.

لكن الإصلاحات التي بدأها البابا لم تقتصر على الشؤون الإدارية فقط؛ فقد فتح الباب لنقاشات جريئة حول قضايا خلافية وحساسة مثل دور النساء في الكنيسة والمواقف تجاه المثليين.

وبينما قوبلت بعض تصريحاته باختلاف وجدل واسع، ما أظهر التحديات الكبيرة التي تواجهها الكنيسة في عصر حديث مليء بالتحولات.

ورث البابا فرنسيس كنيسة بتحديات، لكنه تركها في مسار من التحول والتجديد. وقد وضع الأسس لبابوية قائمة على التواضع، والرحمة، والالتزام بقيم الإنسانية في عالم يشهد أزمات متلاحقة. ومع رحيله، يترك البابا فرنسيس إرثًا ضخمًا من الإصلاحات والرسائل التي ستستمر في إلهام أجيال قادمة.

يبدو البابا فرنسيس في حياته ومماته، جزءًا من هذا الامتداد الإنساني العميق، رافضًا البهرجة، متمسكًا بالجوهر. فقد بلغت تركته الشخصية 98 يورو عند مماته، وكأن اختياره الأخير كان رسالة أخرى لنا جميعًا: أن العظمة الحقيقية لا تقاس بما نملك، بل بما نتركه من أثر في قلوب الآخرين.