النسخة الشبحيّة في ((معزوفة اليوم السّابع)) لجلال برجس
الصُّورة المادّيّة لِظلال كارل يونغ
تاريخ النشر :
الجمعة
11:01 2025-3-14
طباعة
انسخ الرابط
تم النسخ
ية نصر / (كاتبة أردنية)
آ الصِّراع النّفسيّ في روايات جلال برجس القارئ المتتبِّع لروايات الأديب جلال برجس يلمس توغَّله في أعماق النَّفس البشريَّة ومحاكاته لصراعاتها الظّاهرة والخفيَّة، ومعالجته لسلوكيّاتها وتعرية دوافعها المدفونة في سراديب اللاوعي، وذلك عبر شخوص رواياته الَّتي تلازمها صفة التَّأزُّم والصِّراعات الدّاخليّة الَّتي تنجم عنها صراعاتٌ خارجيَّة لا حصر لها ورحلةٌ وعرة في البحث عن سرّ وجودها وجدواه تزامناً مع محاولات تلك الشُّخوص في تهدئة ندوبها ومداراتها. وخير مثال على ذلك شخصيَّة (سراج) في «سيّدات الحواس الخمس»، ثمّ (إبراهيم) في «دفاتِر الورَّاق»، إبراهيم الَّذي التهم الفِصامُ روحه بعد أن تراكمت داخله الصّدمات منذ ولادته وحتّى تشظّي عقله، وغيرها من الشَّخصيات الثَّانويّة وحتّى الهامشيَّة الَّتي جُسِّدت في حالة صراعٍ مستمر، بينها وبين الرَّاحة والسَّلام جدرانٌ جمَّة. وفي أحدث رواياته (معزوفة اليوم السَّابع)، نشهد الولوج الرِّوائي الأوّل لبرجس في عالم الديستوبيا، أدب المدينة الفاسدة. في مدينةٍ مكوَّنة من سبعة أحياء، ينفرد كلُّ حيٍّ فيها بصفاتٍ تميّزه عن الآخر، ومخيَّم للغجر يقع على هامشها، تدور أحداث الرّواية الَّتي تنطلق شرارة تأزُّمها لحظةَ تفشِّي وباء غريب في المدينة يتمثَّل بعجز المصاب عن رؤية وجهه في المرآة، أو عبر أيّ وسيلة أخرى تعكسه مثل الكاميرا؛ حيث يرى كلَّ شيء، سوى نفسه. ولا يكتفي الوباء بحرمانهم من رؤية وجوههم، بل يمتدُّ ليستبدل بانعكاس الوجه نسخةً شبحيَّةً من المصاب، تلاحقه وتحدِّثه بوجهه المفقود، تعرِّي أمامه كلَّ مساوئه إلى أن تسلب منه أدنى شعور باستحقاق الحياة والأمل، فتدفعه لإنهاء حياته. لكن إن تأمّلنا الحال قليلاً، فهل يبقى عجز الشُّخوص عن رؤية وجوههم، وصدور تلك النّسخة الشّبحيَّة منهم محض خيال؟ ألَّا يعود المرء قادراً على رؤية نفسه، إنَّها نتيجةٌ حتميَّة لعصرٍ كهذا الَّذي نُكابد شظف العيش فيه. والتَّساؤل الأهمّ، هل ما نراه في المرايا حقيقيّ؟ المرايا الَّتي كثيراً ما تشهد انكساراً ربَّما أبديّاً، نطلق العنان له لحظيّاً ليرتسم على وجوهنا، ثمّ سرعان ما نواريه بأقنعةٍ صلبة تشهد حقيقتها تلك المرايا. ما مدى حقيقة فكرتنا ومعرفتنا عن أنفسنا؟ بل هل يجد الإنسان نفسه قَطعاً؟ أعتقد أنَّه يجدها قِطَعاً لا قَطْعاً. قِطَعٌ كلَّما ظنَّ أنَّه أتمَّ لملمتها فوجئ بتشظِّي الصُّورة الكاملة مجدَّداً، كسرابٍ كلَّما حاول إدراكه ليرتوي ابتعد. في عالمنا المدعو (حقيقيّ)، أي العالم خارج صفحات الرِّواية، ما نزال نرى وجوهنا في المرايا، وفي كاميرا الهاتف، لكن ما مدى حقيقة ما نراه؟ ما مدى تبصُّر كلُّ واحدٍ منَّا بنفسه وبخفايا الوجه الَّذي يراه، أنحمل وجوهاً اخترناها أم وجوهاً فُرضت علينا دون أن نعي؟ "لا يتنوَّر المرءُ عبر تخيُّل شخصيَّاتٍ من ضوء، بل عبر جعل الظَّلام واعياً» (كارل يونغ). السُّؤال هنا، هل يُدركُ النَّاس ظلالهم قبل أن تستحيل إلى نسخٍ شبحيَّة مادِّيَّة تلاحقهم بالصَّوت والصُّورة كما جرى لشخوص الرِّواية؟ وإن استحالت ظلالهم لنسخٍ شبحيَّة مادّيّة كما جرى لشخوصها، فهل سيتعلّمون درسهم؟ وفق نظريَّة عالم النَّفس التَّحليلي كارل غوستاف يونغ، إنّنا نمضي حياتنا مُتأثّرين بظلِّنا. شبحٌ خفيٌّ يسيِّرنا كما يشاء ويوهمنا بأنّنا مَن نملك زمام الأمور، ذلك الشَّبح ليس خيالاً قطّ، بل حقيقة جاثمة في نفوسنا وعقولنا، حقيقةٌ حين ننكرها نعيش في ضوءٍ وهميٍّ أصله ظلامٌ شاسع، وحين نواجهها نبصر الظَّلام ونتنوّر بتحرُّرنا من الضوء المتخيّل، ولا يكون الظَّلامُ شرّاً بالضَّرورة؛ فـ «كثرٌ هم الَّذين يحتاجون إلى الظِّلّ، لا إلى الضُّوء» (1). لحظة الاعتراف الأولى تجعلنا نبصر صراعاً أبديّاً تخفُّ ضراوته وتُحسّن نتائجه كلّما ازداد وعينا به وإدراكنا له. صراعٌ يراه يونغ واقعاً بين الشَّخصيَّة –القناع- (Persona)، والذَّات (Self)، والظِّلّ(Shadow). حقيقتنا الكاملة تكمن في (الظِّلّ)، ذلك الرّكن الَّذي نُلقي فيه كلّ ما يجرحنا أو يُربكنا الاعتراف به، فننكره ونُلقيه في نسيانٍ ظاهره نعمة وواقعه دوّامة تلتهمنا. الظِّلُّ هو: «كلّ شيءٍ رفضت الأنا ربطه بنفسها وألصقته بالآخرين» (2)، سواء كان صوتاً يدفعنا لنكون أو لا نكون، أو يدفعنا لِنكون ظاهراً يخالف صوتاً أسكتناه داخلنا ولجأنا لشقّه السَّهل الَّذي سخَّرته بيئاتنا. هو حقيقتنا الَّتي نعمى عنها ونفرّ منها جاهدين، ذلك الصَّوت الَّذي نسكته ونشوّشه كلّما تسلّل لمسامعنا، ونظن بذلك أنَّه انتهى، لكنَّه لا ينتهي، بل يتمدَّد ويسيِّرنا كما يشاء، وإن همّشناه هشَّمنا. ونوهم أنفسنا بـشخصيَّة (قناعٍ) نرتديه، محاولين تلبية المعايير المحيطة والتَّوقُّعات المثاليَّة، ظانِّين أنَّه نحن، لكن الحقيقة أنّه ليس نحن، بل ما نحبّذ أن نكون، أمّا هويّتنا الحقيقيّة فتتوارى خلف ذلك القناع؛ أي خلف الضُّوء المُتوَهَّم. وبينما تحاول (الذَّات) حفظ التَّوازن بين حقيقتنا والصُّورة المركّبة، تغلبنا ظلالنا كلّما أنكرناها وتحوِّل الذَّات إلى شرخٍ عميق، لكنَّها تعدّل بوصلتها وتخدمنا كلّما تصالحنا معها؛ فالنّفس البشريَّة على نقيض الفيزياء، لا يكون الضُّوء فيها سوى سراب متين حيناً، وهشّ حيناً، يخفي ظلّاً يخلقه.
النّسخ الشبحية.. الصّورة المادّية لظلال يونغ ما حصل مع أهالي مدينة الجدّ الأوّل في «معزوفة اليوم السَّابع»، ليس سوى نتيجة منطقيَّة لفشلٍ ذريعٍ في إدراك الظّلال، وتمنُّعٍ وتنكُّرٍ طويلٍ انفجر بتشظِّيها عنهم وإثبات سيطرتها صورة وصوتاً، لا بصمتٍ كما تفعل في الحقيقة. وتلك النُّسخ الشَّبحيَّة هي ظلالهم الَّتي تمادوا في إنكارها، فهشّمت القناع وطفت على السّطح. ولو أنَّنا تأمَّلنا حال شخوص الرِّواية؛ لوجدنا أنَّ النّسخة الشَّبحيَّة لكلِّ شخصيَّة جذورها ممتدَّة لماضي تلك الشَّخصيَّة، وثمارها متجلِّية في حاضرها. وتفرض التَّساؤلات وطأتها على القارئ، لو تصالح مع ظلِّه وأدرك تحكُّمه به فعالجه وأبصره أسينجو حينها من تشظِّيه عنه بهذه الصُّورة المرعبة؟ ظلال شخوص الرِّواية لم تكتفِ بالعمل بالخفاء والتَّحكُّم فيهم من مكانها داخل اللاوعي فقط، بل قرَّرت فرض نفسها أمام أعينهم، وهذا الرُّعب بعينه. ومن المفارقة أنَّ بعض النُّسخ الشَّبحيَّة (الظّلال) كانت عطوفة رؤوفة مع أصحابها، على نقيض النُّسخ الشَّبحيَّة الغالبة الَّتي كانت قد بلغت أوج قسوتها معهم؛ لأنَّهم أنكروها وتشبَّثوا ببذرة الشَّرِّ فيها، وحين ظنُّوا أنَّهم يصارعون العالم كانت الحقيقة أنَّهم لا يصارعون سوى أنفسهم، وأنَّ هذا الشّرّ ما هو إلَّا نتيجة هزيمة فادحة مع النَّفس ومع دوافعها وآلامها وخيباتها وصدماتها؛ فكلُّ كارثة جماعيّة تبدأ من كارثةٍ فرديّة. بعض النّسخ الشّبحيّة تغلَّبت على أصحابها؛ كما حدث مع (العمدة) و(الجنرال) و(أوديسان)، وبعضها لم تغلبهم كما حدث مع (نوّار) و(توليب). وسبب اختلاف العاقبة ما هو إلّا تفاوت حدّة الصّراع النَّفسيّ بين تلك الشَّخصيَّات؛ فـ(نوّار) على سبيل المثال بدا مدركاً لظلاله متصالحاً معها محاولاً حفظ توازن نفسه بالوقوف على أطلال المسرح البلديّ، محاولا الإبقاء على نبضٍ داخله حين توقَّف في قلوب الآخرين فقدوا الكثير دون أن يدركوا.. «كثيرٌ ممَّن رؤوني اعتقدوا أنّي مجنون، لكنّهم لا يعلمون أنّي لو لم أفعل ذلك لجننت»، «في داخل كلّ واحدٍ منّا وحشٌ كاسر، قبالته حملٌ وديع» (3). أمَّا (أوديسان) فقد أدرك الخسارة الَّتي سيجنيها عليه عناده منذ لحظة لقائه الأوَّل مع ظلّه، حيث وصفه قائلا: «رأيت نسخةً منّي ترافقني في الغرفة، فشعرت أنَّ جسدي مثل بالون غادره الهواء، وسيصبح مجرّد قطعة مطاطيّة ستتلاشى في غضون أيّامٍ قليلة» (4). "أنا الخير والشّرُّ معاً؛ لأنّي إنسان» (إحسان عبد القدّوس). لا خير مطلق، ولا شرّ مطلق. توازن الخير- البياض (الحمل الوديع) والشّر-السّواد (الوحش الكاسر) داخل الإنسان طبيعيٌّ، ولا ضير في أن ترجح كفّة الخير دون إفراط، لكن حين ترجح كفّة الوحش الكاسر تبدأ المشكلة الَّتي تتفاقم كلّما أنكرنا ذلك، كلّما همّشنا ظلالنا وتركناها تتحوّل لوحوشٍ تفترسنا أكثر ممَّا تدفعنا لافتراس الآخرين. وفي الآن ذاته، قد لا يكون الحمل وديعاً كما يبدو، وقد لا يكون الوحش مفترساً كما يبدو. وهنا التَّساؤل يعاود الإلحاح علينا كقرّاء وبشرٍ خارج صفحات الرّواية، هل سننبِّش عن ظلالنا ونهذِّبها ونصلحها قبل أن تتشظَّى عنا وتهاجمنا بصورة أفظع؟ أم أنَّ الحال بنا سيؤول كما آل بشخوص الرّواية الّذين لم يعترفوا بها إلَّا بعد تشظِّيها المادّيّ عنهم؟ "بتقبُّلك ذاتك بأدنى مستوياتها تكون قد زرعتَ بذرةً صغيرة جدّاً في أرض الجحيم، شجرة حياتك سوف تنمو من هذه البذرة لتربط القاع بالسَّماء» (5). لا سبيل لنجاة الإنسان سوى بوصوله لهدنة مع نفسه، إن كان النَّصر عسيراً، فالهدنة تكفي ولو قليلاً. لو واجهنا كلُّنا الحقيقة، ربَّما لضعف الشَّرّ، ربَّما حينها فقط سيعجز مَن رجّحت كفّة شرّه عن مواصلة تطبيقه بأبشع الصُّور. حين نغلب أنفسنا وننجّيها من وطأة الحداثة والتَّطوُّر الَّذي قد لا يكون سوى «جسر الرُّجوع إلى البربريّة» –على حدّ وصف محمود درويش (6)، ومن أمراض مواقع التَّواصل الاجتماعيّ الَّتي باتت حتميَّة مهما أنكرناها وحاولنا التَّملُّص منها. لكن حتماً، يبقى الكلام سهلاً ممكناً، والفعل صعباً مستعصياً فيه يكمن كلُّ الجهاد الَّذي ما علينا سوى خوضه أيّاً كانت النَّتيجة. ما علينا سوى مقاومة نزعتنا إلى الخيار المريح ألا وهو الفرار من هذا الجهاد ومن ظلالنا والتَّعامي عنها عمداً أو سهواً. فرغم ثقل التَّجربة، نشهد عودة معظم أهالي مدينة الجدّ الأوّل إلى نقطة الصّفر، ولم يعلّمهم ذلك الوباء أن يتفادوا عودته؛ لأنّهم بدل التّنبيش عن دوافعه وعلاجها، رحّبوا بتلاشيه دون أن تؤرّقهم بعدها أسبابه.
القراءة.. محاولة نجاة في لقاءٍ سابق عام 2022، في تأمُّل في مصير إبراهيم الوراق، سألتُ برجس عن رأيه بحال توارث الاضطرابات النَّفسيَّة في مجتمعنا، عمَّا إن كان يعتقد أنَّ الجنون ربَّما يكون مآل الجميع وسط هذا العالم الَّذي تتزايد فظاعته كلَّما توهَّم سكَّانه الحدّ منها، وتتزعزع فيه القيم والمبادئ وكلُّ ما يؤمن المرء به؛ فيعيش خيبة اكتشاف أنَّ ما آمن به وعوّل عليه قد لا يكون في حقيقته سوى صورة عمَّا نفر منه، وأنَّ النَّقيض والقشرة الَّتي خدعته ليست سوى قناع متين. حينها، كان العالم ربَّما يبدو أقلَّ فظاعة من الآن، وأجاب برجس بأنّه يرى النَّجاة بالقراءة؛ فالكتب تهذّبنا. وقد رافقت الكتب بحقّ معظم أبطال رواياته، في صراعاتها، وهزائمها، وانتصاراتها، وخيباتها. وفي "معزوفة اليوم السّابع" نرى هذه الإجابة المنقذة متجسّدة فعلاً في (باختو) الَّذي حمل على عاتقه محاولة إنقاذ المدينة على الرَّغم من ثقل هذا الهدف على كاهله. (باختو) مثل كلّ هائمٍ في معاني الوجود، وسط صراعه وتشظِّيه بين قطبين متناقضين، كانت الكتب ملاذه الَّذي ينجّيه أو ينجّي بعضه ويربّت تيهه رغم كونها نذير شرّ لدى الغجر. في رسالةٍ فحواها أنَّ القراءة سبيلٌ ورفيقٌ خالدٌ نستنجد به في رحلتنا مع النَّفس أوَّلاً، والعالم آخراً، إن لم يكن لنجاة كاملة، فلنصف نجاةٍ أو لتأجيلِ حتف، لفوزٍ، أو لِهدنة. 1.حرمون حمية، "كارل غوستاف يونغ لرحلة: في الظّلمة نكتشف ذاتنا المتوارية"، مجلة رحلة، 13. https://www.rehlamag.com/. 2. المرجع السَّابق. 3. جلال برجس، معزوفة اليوم السَّابع، الطَّبعة الأولى الأردنيَّة، الشُّروق-المؤسسة العربيّة للدراسات والنّشر، عمَّان-الأردن، 2025، ص87-88. 4. معزوفة اليوم السَّابع، ص63. 5. حرمون حمية، "كارل غوستاف يونغ لرحلة: في الظّلمة نكتشف ذاتنا المتوارية"، مجلة رحلة، 13. https://www.rehlamag.com/. 6. محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد، طباق إلى إدوارد سعيد.