يشهد العالم تطوراً تكنولوجياً متسارعاً، وأصبح الأطفال جزءاً من العالم الرقمي منذ سنواتهم الأولى، فمع انتشار الأجهزة الذكية والإنترنت، تتاح لهم فرص لا محدودة للتعلم والتواصل والترفيه، إلا أن هذا الاندماج السريع يطرح تساؤلاً مهماً: هل نعدّهم ليكونوا مواطنين رقميين مسؤولين، أم مجرد مستهلكين للتقنية دون وعي أو توجيه؟ المواطنة الرقمية تعني الالتزام بمجموعة من القواعد والسلوكيات التي تضمن الاستخدام الآمن والمسؤول للتكنولوجيا، فهي تشمل احترام الخصوصية، التعامل الذكي مع المعلومات، التفاعل الإيجابي على الإنترنت، وت?نب السلوكيات الضارة مثل التنمر الإلكتروني.
وتشير الأبحاث إلى أن الأطفال الذين يمتلكون مهارات المواطنة الرقمية يكونون أكثر قدرة على التعامل مع التحديات الرقمية، مثل الأخبار المزيفة، ومحاولات الاحتيال، والاختراقات الأمنية، كما أنهم أكثر وعياً بحقوقهم ومسؤولياتهم في البيئة الرقمية، مما يجعلهم أكثر استعدادًا للاستفادة من التكنولوجيا بطرق إيجابية.
لكن الواقع الحالي يكشف أن استهلاك الأطفال للتكنولوجيا يتزايد بشكل غير مسبوق، حيث يقضي الأطفال في المتوسط بين 4 إلى 6 ساعات يومياً أمام الشاشات، وفقاً لدراسة أجرتها الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال، حيث يزداد هذا الوقت مع تقدم العمر، خاصة مع الانتشار الواسع لمنصات التواصل الاجتماعي والألعاب الرقمية، وبينما يمكن أن يكون الاستخدام الرقمي أداة قوية للتعلم وتنمية المهارات، إلا أنه قد يتحول إلى استهلاك سلبي عندما يصبح مفرطاً وغير موجه، إذ يقضي الكثير من الأطفال ساعات طويلة في مشاهدة المحتوى الترفيهي، مما قد يؤثر?على مهاراتهم الاجتماعية، ويضعف قدرتهم على التركيز، ويؤثر سلباً على صحتهم النفسية والجسدية.
من هنا، تأتي مسؤولية الأسرة والمدرسة والمجتمع في توجيه الأطفال نحو الاستخدام الإيجابي والمسؤول للتكنولوجيا، فلا يكفي توفير الأجهزة الذكية لهم، بل يجب أن تصاحبها عملية توجيه وتعليم تساعدهم على اتخاذ قرارات سليمة في العالم الرقمي، فأولى خطوات هذه التربية الرقمية تكمن في التوعية بالاستخدام الآمن، حيث ينبغي تعليم الأطفال كيفية حماية بياناتهم الشخصية، والتمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة، وتجنب مشاركة المعلومات الحساسة عبر الإنترنت.
إلى جانب ذلك، من الضروري تعزيز التفكير النقدي لديهم، بحيث يتمكنون من تقييم المحتوى الرقمي، والتمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، مما يساهم في حمايتهم من الأخبار المزيفة والاحتيال الرقمي،وكذلك، فإن ضبط وقت الشاشة يعد أمراً أساسياً في هذه العملية، إذ توصي الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال بألا يتجاوز وقت استخدام الشاشات ساعتين يومياً للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6-12 عامًا، مع التركيز على جودة المحتوى بدلاً من الكمية.
كما يجب تشجيع الأطفال على أن يكونوا منتجين بدلًا من أن يكونوا مجرد مستهلكين للمحتوى الرقمي. يمكن تحقيق ذلك من خلال تحفيزهم على إنشاء محتواهم الخاص، سواء عبر الكتابة، أو التصميم، أو برمجة التطبيقات، مما يعزز مهاراتهم الإبداعية ويجعلهم أكثر تفاعلًا مع التكنولوجيا بطريقة إيجابية. إضافة إلى ذلك، فإن مشاركة الأسرة والمجتمع تلعب دورًا مهمًا في هذه العملية، حيث يجب أن يكون الآباء والمعلمون قدوة حسنة في استخدام التكنولوجيا، وأن يتفاعلوا مع الأطفال في أنشطة رقمية مشتركة تعزز لديهم قيم المواطنة الرقمية.
في النهاية، لم تعد التربية الرقمية خياراً بل أصبحت ضرورة لضمان تنشئة جيل قادر على التعامل مع التحديات التكنولوجية بطريقة مسؤولة، فبين الاستهلاك والإبداع، يكمن الفارق في كيفية توجيه الأطفال للاستفادة من التقنية، بدلاً من أن يصبحوا مدمنين عليها. فهل نحن مستعدون لتربية جيل من المواطنين الرقميين الواعين؟