تحولت غرفة معيشة إحدى العائلات في لواء الهاشمية بمحافظة الزرقاء إلى وحدة عناية مركزة مصغرة، تضم سريرا تحيط به اسطوانات أكسجين، وعلبة مناديل ورقية موضوعة بعناية، وأكياس معلّقة قرب الأجهزة، هواؤها مشبع برائحة المعقمات، وصمتها لا يقطعه سوى صوت سعال وأنين مستمر.
تعود هذه الغرفة إلى الطفل ذي العشرة أعوام «أيوب»، الطفل الذي كان له من اسمه نصيب، صبر والداه وما زالا يكافحان في طريق الصبر الطويل، وتقاسي عائلته المكونة من والديه وأشقائه الأربعة وشقيقتيه، من ظروف حالة أيوب المرضية، إذ حوّلت حادثة الصعق بالكهرباء حياته من مرح الطفولة إلى سكون المشافي.
كان طفلًا طبيعيًا، يركض ويلهو بين إخوته، حتى جاء ذلك اليوم الأليم، حين صُعق بالكهرباء، وهو في الثالثة من عمره، فتوقف قلبه لساعة كاملة قبل أن يعود نابضًا بأعجوبة، لكنها كانت عودة بجسد بلا حركة، بعينين لا تبصران وبجسد هش، يحتاج رعاية مستمرة.
وسط هذا الواقع الثقيل، تخوض عائلة أيوب معركة يومية لضمان بقائه على قيد الحياة، معركة لا تنحصر فقط في مواجهة تحديات الرعاية الصحية المعقدة، بل تمتد لتشمل عبئًا ماديًا ونفسيًا يفوق قدراتهم.
ورغم وجود برامج حكومية مخصصة لدعم ذوي الإعاقة، تبقى احتياجات أيوب خارج نطاق ما توفره هذه المساعدات، لتجد العائلة نفسها في صراع دائم بين توفير الضروريات الطبية ومتطلبات الحياة اليومية.
صراع مستمر مع الألم تجلس والدته بجانبه، وبيدها حقنة «سرنجة» تحتوي على مياه، تسقيه منها على دفعات، وتقول: «حوّلنا منزلنا إلى ما يشبه المستشفى، غرفة أيوب أصبحت مليئة بالأجهزة الطبية، نمنع أي مريض من الدخول إليه لأن مناعته صفر، وحتى إخوته حين يمرضون يُمنعون من الاقتراب منه. وعندما أمرض أنا، أضع الكمامة والقفازات وأحاول عزْل نفسي، لكن مع ذلك يُصاب بالعدوى أحيانًا».
وتضيف وهي تمسح بقايا المياه التي تسيل من فمه: «رعايته مرهقة، لكنه قطعة من قلبي، أطعمه بـ«السرنجة»؛ لأن بلعه بطيء، وأحتاج لنصف ساعة أو أكثر لإطعامه وجبة واحدة».
وتكمل: «التهابات الرئة والسعال لا يفارقانه؛ ما أدى إلى تراكم البلغم الذي يتطلب تنظيفه باستمرار؛ ما اضطرني إلى استهلاك المناديل الورقية بكثرة، كل علبة تبقى ليومين فقط، وأحتاج طردًا ونصف شهريا؛ من النوع غالي الثمن، لأن أي نوعية رخيصة تذوب في فمه وتزيد المشكلة، وكذلك الأمر للمناديل المبللة».
وتتابع وهي تسند ظهر ابنها وترفعه، وتربت عليه كي «يتدشأ»: «أحرص على تقليبه كل ساعة كي لا تحدث لديه أية تقرحات، إذ إنه لا يتحرك ولا يرى، لكنه يشعر بنا ويتفاعل مع الصوت واللمس».
وتكمل بعينين يغمرهمها الحنان: «حين يسمع صوتي، يبتسم، وعندما أناديه بـ«يوبي»، يلتفت ويشعر بأني قريبة منه».
وتتلاشى ابتسامتها، وتضيف: «ثمن الأكسجين، الحليب، السيريلاك، المناديل الورقية، حتى «السرنجات» التي أطعمه بها ثمن الواحدة منها نصف دينار، أحيانا لا أستطيع شراؤها وكثيرًا ما تنهمر دموعي حين أعجز عن تأمين حاجاته، فأقف حائرة، لا أملك شيئا».
تستنشق جرعة كبيرة من الهواء، وتقول بنبرة صوت متأثرة: «كل ما أتمناه أن يخفف الله عنا هذا العبء، وأن يُرسل لنا من يعيننا على هذه المسؤولية الثقيلة، وأن يتكفل طفلي بمأكله وتغطية كافة احتياجاته».
لا نطلب المستحيل.. فقط الحياة الكريمة لابننا والده، محمود الطلافحة، الذي كان يعمل مشغّل رافعات، فقد عمله إثر حادث كان سببه التفكير المستمر بوضع ابنه. اليوم يعمل عاملًا، بالكاد يغطي إيجار المنزل، فيما تنهشه تكاليف علاج أيوب.
يقول الطلافحة، وعيناه تلمعان بقهر صامت: «أصبت بجلطتين وما زلت واقفا، لكن أيوب هو صبري وابتلائي معا»، ومن ثم استطرد: «الحمدلله»، في تناغم تام مع العبارة المكتوبة على سترته: «الحمد لله على كل شيء»، وكأنها صرخة صبر تنبع من قلب أثقلته الهموم.
يستذكر الأب تفاصيل الحادثة التي حصلت مع ابنه، وهو يتنفس الصعداء: «أحضره شقيقه إلي، كان قد توقف عن التنفس، سارعت بإجراء التنفس الاصطناعي والإنعاش القلبي له، لكنه لم يستجب، وأُعلنت وفاته بعد توقف قلبه لمدة ساعة، لكن فجأة عاد قلبه للنبض. أُدخل العناية المركزة بحالة مستقرة مبدئياً وتحت التخدير لجهاز التنفس. في اليوم الثاني خُفف التخدير وفتح عينيه دون استجابة فورية، ثم بدأ يتفاعل قليلا».
ويكمل: «بعد الإفاقة، استقر وضعه الصحي مع إصابته بشلل رباعي وتلف شديد في الدماغ، ما تسبب بفقدانه للبصر والنطق، مع بقاء حاسة السمع فقط فعّالة، وكان يتغذى عبر أنبوب أنفي معدي (NG Tube)، وهو مصدره الوحيد للغذاء، إذ منعنا الطبيب من إعطائه أي طعام أو شراب آخر، حتى الماء لم يُسمح لنا بتقديمه لفترة من الزمن».
ومع تدهور صحته، اضطر الأب لترك عمله والتفرغ لرعايته، بعد أن أكد الأطباء في ثلاثة مستشفيات متخصصة خارج الأردن عدم وجود علاج لحالته. نصحهم الطبيب قائلًا: «لا تبحثوا عن علاج، بل تعلموا كيف تتكيفون مع وضعه».
حرص الأب والأم على توفير بيئة صحية في المنزل، مستفيدين من الأدوية والمستلزمات الصحية المتوفرة عبر وزارة الصحة، بينما تكفلا بتأمين باقي الاحتياجات على نفقتهما الخاصة، مثل: المضادات الحيوية، والمحاليل الوريدية، والأكسجين المنزلي، مع الالتزام بالتعليمات الطبية اللازمة.
ورغم تلقي العائلة دعمًا شهريًا بقيمة 50 دينارا من وزارة التنمية الاجتماعية، إلا أن المبلغ كان محدودًا ولا يغطي جميع الاحتياجات، وفق الطلافحة، ما زاد من العبء المادي والنفسي عليهما.
واجه الطفل أيوب مضاعفات صحية إضافية تمثلت في هشاشة عظام حادة نتيجة قلة الحركة، وتكلس في المفاصل، خاصة في الحوض والركبتين والكوع، ما زاد من صعوبة رعايته. ويُوضح الطلافحة أنه لم يتمكن من أخذه إلى المستشفى منذ عام كامل، بعدما تعرض في آخر زيارة لكسر في ساقه أثناء نقله للمستشفى؛ بسبب الهشاشة.
يقول الطلافحة: «أيوب يحتاج إلى رعاية دائمة، يتناول وجبة كل ساعتين عبر أنبوب التغذية، الذي كثيرًا ما كان ينسد؛ ما اضطرنا لنقله مرارا للمستشفى. ومع الوقت، تعلمت كيفية تركيب الأنبوب بنفسي، لكن لاحقا قررت استبداله بالتغذية عبر «السرنجة"؛ لتسببه بنزيف متكرر».
ويتابع أنه «حتى مفصل الفك كان متكلسًا، ما جعله غير قادر على تحريك فمه، لكن مع جلسات التدليك المستمرة وإصرارنا، تحسن الوضع قليلا وأصبح قادرا على تناول الحليب بـ«السرنجة»».
ويكمل: «اعتمد غذاؤه بشكل رئيسي على حليب «بيدياشور»، والسيريلاك، وبعض الفواكه المهروسة مع العسل التي كان يتذوقها، لكن تدهور الوضع المادي أجبر الأسرة على الاعتماد كليًا على الحليب، فيما توقفت معدته عن تقبّل الخضار وأصبحت تسبب له الاستفراغ فورا».
عبء ثقيل الأب لا يحمل همّ أيوب وحده، بل يفكر بأشقائه أيضا، خاصة ابنه الكبير في مرحلة التوجيهي، قائلًا: «أحاول توفير احتياجاته لأنه يستحق مستقبلا جيدا، لكنني بالكاد استطعت تأمين بطاقات الفصل الأول بالديْن».
يتنهد قليلًا ويكمل: «أشعر بالعجز حين أرى إخوان أيوب يضحون بأشياء كثيرة بسبب وضع أخيهم، لكن الإمكانيات محدودة والعبء ثقيل».
ومع مرور السنوات، ازدادت التحديات، عنها يقول: «في البداية كنت أستطيع حمل أيوب بسهولة، لكن الآن وزنه ازداد وأصبح نقله يحتاج لمجهود كبير، حتى الكرسي المتحرك الذي تبرع به أهل الخير، بات ثقيلا ويحتاج لشخصين أو ثلاثة لحمله».
الأم تواجه صعوبات أيضا، عنها يفصح الطلافحة: «أصيبت بجلطة في ساقها قبل عام وجلست شهرين لا تستطيع الحركة إلا زحفا، ومع ذلك لم تتوقف عن العناية بأيوب».
ويلفت إلى أن حالة أيوب الصحية حساسة، إذ قد يمرض مرتين شهريا، وكل مرة تكلفه 100 - 150 دينار، وهو عبء كبير لا يستطيع تحمله وحده.
رغم كل شيء، تحافظ الأسرة على الأمل. الأب يذكر موقف مؤثر حدث معه، قائلاً: «عندما رأى الطبيب حالة أيوب لأول مرة، قال: «سبحان من يحيي العظام وهي رميم»، ثم التفت إليّ، وقال: «ابنك معجزة حية، لكنه بلا علاج». سألته: «هل تؤمن بالمعجزات؟»، فأجاب بثقة: «طبعًا»، فقلت له: «الله أعاد له النبض بعد ساعة من التوقف، وشفاؤه أهون على الله إن أراد». لم يجد الطبيب ما يقوله، واكتفى بالصمت!.
بين الأمل والخذلان رغم ثماني سنوات من الكفاح، ما زالت الأسرة عاجزة عن توفير الأساسيات: حليب «بيدياشور» الذي ينفد كل يومين تقريبا، حفاظات، مناديل طبية، أكسجين منزلي، وحتى السرير الطبي الكهربائي الذي تحتاجه الأم لتقلبه بأمان، فضلا عن المستلزمات الطبية الأساسية مثل: الدربات، القطن، الكحول، «الكانيولات»، و«السرنجات».
الأب يختم حديثه بكلمات ثقيلة: «لا أريد شيئًا لي، فقط أطمح لمن يتكفّل بحاجات أيوب؛ لأضمن أنه سيعيش بكرامة حتى لو عجزت قدماي عن حمله».
بين الأمل والخذلان، يعيش أيوب، يرقد بجسده الهش، لكن قلبه... ما زال نابضًا! قصة أيوب ليست مجرد حكاية عائلة تصارع الألم والاحتياج، بل مرآة تعكس واقعًا يعانيه العديد من الأطفال ذوي الإعاقة في الأردن، الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين تحديات صحية معقدة ودعم محدود لا يرقى إلى مستوى احتياجاتهم الفعلية.
ورغم أن التشريعات الأردنية، كقانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم (20) لسنة 2017، تكفل لهم الحق في الرعاية الصحية والتعليم والعيش الكريم، إلا أن الفجوة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي تبقى قائمة.
الرأي الإنساني..
نافذةٌ للأمل تُطلق الرأي خلال هذا الشهر الفضيل، مبادرة إنسانية، تحمل الأمل لمن هم بأمسّ الحاجة إليه.. مبادرةٌ نأمل منها أن تضيء دروب الأسر الفقيرة، والأفراد الذين يعانون ظروفًا صعبة...
مبادرةٌ تسعى لأن تشكل حلقة الوصل بين أصحاب الخير.. وبين من ينتظرون يد العون. وتفتح باب الإحسان أمام القلوب الرحيمة، أسميناها: «الرأي الإنساني.. نافذة للأمل»..
من قلب الميدان.. فريق «الرأي الإنساني» ينقل إليكم قصصًا حقيقية.. مشاهد من الواقع، تعكس آلامًا.. وتحمل طموحاتٍ تنتظر من يُحققها..
نحن هنا.. لنكون جسرًا بين من يحتاج.. ومن يستطيع.
معًا، نستطيع أن نُحدث فرقًا.. معًا، نجعل التكافل الاجتماعي أسلوب حياة.. معًا، نجعل «الرأي الإنساني» نافذةً للأمل.
انتظرونا كل أحد وثلاثاء وخميس خلال شهر رمضان المبارك.. وكونوا أنتم الخير الذي يُنير حياة الآخرين.
فريق العمل: محمد سويلم - تالا أيوب - محمد الحياني - آيات بكر - محمد القرالة
التكافل المجتمعي.. «سراجٌ» يضيء عتمة العيش
في شهر رمضان المبارك، تتجلى معاني التكافل الاجتماعي، ويسعى المحسنون وأصحاب الأيادي البيضاء إلى تلمس حاجات المعوزين والمساكين..
في هذه الأيام الفضيلة، تنتعش مظاهر الخير وتزدهر دروبه، ويظهر العطف والعون بأبدع صورهما بين أفراد المجتمع، وعلى الطرف الآخر يترقب الضعيف وصاحب الحاجة حصته في هذا العطاء..
ونحن هنا نسلط الضوء على بعض الحالات، ليس الكل، ولكل حالة نطرحها، يوجد حالات مماثلة لها، وثمة مشاهد عديدة من أشكال العوَزِ والحرمان، لكننا نطرح هنا مثالا مما وصلنا إليه بالبحث والتحري في سلسلة حلقاتنا هذه..
لأجل ذلك نفتح هذه النافذة، لتكون كمن يدل على الخير، وسعيا إلى تعزيز المسؤولية الاجتماعية، واستنهاض همم المقتدرين والميسورين، وتحفيز مبدأ التكافل الاجتماعي لدى أفراد ومؤسسات المجتمع كافة.
ونأمل أن تكون نافذتنا الإنسانية، بمثاية دعوة لشركات ومؤسسات القطاع الخاص؛ إلى التفاعل الإيجابي مع ما تنشره «الرأي» من قصص إنسانية خلال هذا الشهر الفضيل، الهدف المباشر من نشرها تحقيق ما يتطلع إليه أصحابها من عون وإغاثة.
فالتكافل المجتمعي يسير جنبا إلى جنب، بالتوازي مع ما تقدمه الحكومات، ممثلة بأذرعها ومؤسساتها المعنية في هذا الشأن.
ولا يُقتصر هذا العمل الرعوي في جميع الدول -حتى المقتدرة اقتصاديا منها- على موازنة الدولة فقط، فالشركات ومؤسسات القطاع الخاص، وكذلك الأفراد، شركاء في تدعيم ومساندة مجتمعاتهم..
وفي ظل إتساع دائرة الفقر وقلة الإمكانيات، وعطفا على ضعف الموازنة ومحدودية موارد الدولة، فإن وزارة التنمية الاجتماعية، منفردة، لا قدرة ولا إمكانيات كافية لديها، لتقوم بهذا الدور وحدها..
هنا يأتي دور التكافل الاجتماعي الذي ننشد، فلا مناص عن تعاضد المجتمع بمكوناته ومؤسساته؛ لحمل مسؤولية الإسناد والمؤازرة..
ونذكّر أنفسنا أن الخير يزدهر بالعطاء.. وأن اليد التي تُساعد اليوم، ترسم غدًا أكثر أملًا لمن يحتاج.