إنّ مما لا شك فيه أنّ العلاقة بين أوروبا (كقارة) وبين الولايات المتحدة علاقة تاريخية فالولايات المتحدة هي «بنت» أوروبا إذا جاز التعبير، فمعظم المهاجرين الأوائل إلى أميركا هم مهاجرون من أوروبا، وقد استعمرت «بريطانيا العظمى» (Great Britain) في عزّ قوتها وسطوتها الولايات المتحدة (التي كانت في ذلك الوقت مجموعة مستعمرات قليلة قبل أن تستقل في عام 1776) لفترة غير قصيرة من الزمن، وما زال الوصف الدقيق للأميركي العادي (Typical Citizen) أنه (White, Anglo Saxon, Protestant) (WASP) أيّ (أبيض، ويعود إلى أصول أنجلوسكسونية، وبروتستانتي) ومن الواضح أن هذه الخصائص هي خصائص الكثيرين من سكان أوروبا.
ولقد تعمّقت هذه الصلة بين أوروبا والولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها، فخلال تلك الحرب ألقت الولايات المتحدة بكل ثقلها إلى جانب حلفائها الأوروبيين (بريطانيا، فرنسا.....) ضد النازية والفاشية، وبعد الحرب مباشرةً تبنت مشروع «مارشال» لإسعاف أوروبا، وإنقاذها من الخراب والدمار اللذين لحقا بها بسبب الحرب التي استمرت سبع سنوات (1939-1945) وأتت على الأخضر واليابس، كما قدّمت لها الحماية الاستراتيجية (بالسلاح النووي ضد الاتحاد السوفياتي من خلال حلف الناتو).
الآن... ومع مجيء ترامب للحكم تبدت الخلافات بين أوروبا والولايات المتحدة بشكل واضح وبالذات حول أسلوب التعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية، وبدأ «ترامب» يطالب دول أوروبا (كما في عهدته الأولى 2016-2020) بأن تدفع كُلفة حمايتها من خلال مساهمة مالية أكبر في موازنة حلف الناتو، بل وصل الأمر بنائب الرئيس الأميركي «جيه دي فانس» إلى أن يشكك بمنظومة القيم الديمقراطية التي تتبناها أوروبا حيث اتهمها بأنها لا تتيح لمواطنيها الحدّ الكافي من حرية التعبير (يعني حرية اليمين السياسي المتمثل في «حزب البديل» الألماني).
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تستطيع أوروبا «الاستقلال» عن الولايات المتحدة؟ أم أنّ قدرها أن تظل تحت الحماية الأميركية (من خلال الناتو)، الأمر الذي يجعلها تابعة فعلياً لها على المستوى السياسي؟
إنّ المُرجّح هو أن تظل العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة علاقة «تبعية» (أوروبا تتبع الولايات المتحدة) برغم كل مظاهر الخلاف والتمرد التي تظهر بين الحين والآخر من بعض زعماء الدول الأوروبية، ولعلّ ذلك عائد إلى الأسباب الآتية:
أولاً: أنّ أوروبا تضم العديد من الدول التي تتباين فيما بينها. صحيح أن معظمها (27 دولة ملتحقة في الاتحاد الأوروبي) ولكن بعضها خارج هذا الاتحاد مثل بريطانيا ذات الوزن الخاص في المنظومة الأوروبية، وفضلاً عن ذلك فإنّ بعض الدول الأوروبية محكومة من اليمين السياسي (إيطاليا، المجر مثلاً)، وبعضها الآخر محكومة من قبل اليسار السياسي (إسبانيا، بريطانيا مثلاً)، الأمر الذي لا يجعل صوتها واحداً في مواجهة «القطب الأميركي» الذي يترّبع على عرش العالم في هذه الآونة التاريخية.
ثانياً: لا تملك الدول الأوروبية السلاح الاستراتيجي الكافي لحماية نفسها فهناك دولتان نوويتان منها فقط (بريطانيا، وفرنسا) اللتان لا تملكان مجتمعتين أكثر من (600) رأس نووي وهذا لا يُقاس بما تملكه كل من الولايات المتحدة وروسيا والذي يُقدّر بـ(6000) رأس نووي استراتيجي، ومن هنا فإنّ الدول الأوروبية وبرغم دعوتها أحياناً لتكوين جيش أوروبي مستقل لا تستطيع الاستغناء عن القوة الأميركية وبالذات في مواجهة غريمها التاريخي وهو روسيا.
ثالثاً: المصلحة الاقتصادية لأوروبا فهي قوه اقتصادية وازنة، ولكن مصالحها الاقتصادية ذات علاقة تأثر وتأثير بعدد من عمالقة الاقتصاد كالصين (ثاني اقتصاد في العالم)، ومجموعة البريكس (Brics) ذات الثِقَل الاقتصادي والمستقبل الواعد، ومما يزيد الأمر تعقيداً بالنسبة لأوروبا أنها تعتمد إلى درجة كبيرة على الطاقة الرخيصة (النفط والغاز) التي تستوردها عادةً (قبل الحرب الروسية الأوكرانية) من روسيا. إن هذا الوضع الاقتصادي معقد لأوروبا، وعلاقتها الاقتصادية المتداخلة (وبالذات مع الصين وروسيا) يجعلها بحاجة لخلق حالة توازن وذلك بتوثيق التحالف مع أميركا، كما يجعل أمر استقلالها عن الولايات المتحدة مسألة تحتاج إلى تفكير عميق، وحسابات دقيقة.
رابعاً: «عقدة» روسيا، إذْ رغم أن روسيا دولة أوروبية كما هي آسيوية، إلا أنّ علاقات أوروبا معها كانت دائماً «غير طبيعية» إن لم نقُل عدائية، ويكفي أن نتذكر في هذا السياق أنّ روسيا تعّرضت للغزو الأوروبي مرتين فقد غزاها «نابليون بونابرت» الفرنسي (1812)، كم غزاها «هتلر» الألماني (1941) وغنيٌ عن القول أن أوروبا الغربية قد اصطفت بجميع دولها ضد «الاتحاد السوفييتي» أبان الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، ولعل مما لا شك فيه أن أيّ استقلال لأوروبا عن الولايات المتحدة سوف يُخّل بموازين القوى ويجعلها هشة أمام روسيا، وقد كان واضحاً تماماً أن أوروبا قد دعّمت أوكرانيا بكل قوة لإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، كما أنها الآن غير راضية عن «تقّرب» ترامب من روسيا ومحاولته عقد «صفقة» معها.
إنّ «عقدة» روسيا تجعل أوروبا راغبة دائماً في استمرار التحالف مع الولايات المتحدة حتى وإن أدى ذلك إلى نوع من (التبعية)، كما هو حاصل حتى الآن.