دائما عندما أزرو دكتوري أجده يحتسي كوبا كبيرا من القهوة السوداء Black Coffee، في كوب خزفي كتب عليه 'أفضل دكتور في العالم..!'، أو كوب ورقي من كوفي شوب مجاور لعيادته.
قبل أسبوعين زرته، وأخبرته أنني اشعر بالتعب، فطلب لي مجموعة من الفحوصات، وأخبرني أن أحضر للمختبر صائما في الصباح، وأن لا اشرب قبلها أي شيء، فقط ماء. وقال 'لا تشرب قهوتك الصباحية، وأجّل شربها بعد أخذ عينة الدم'.
أنا لا أحب القهوة التي يشربها الدكتور، بل أشرب قهوتنا الأردنية، ولكن ليس في الصباح.
يومها سألت الدكتور “أنت تشرب الكثير من القهوة”، وقال لي إنها مفيدة، واستغربت لأنه يشرب أكوابا عديدة منها.
اليوم زرته وكان يشرب كوبا كبيرا من القهوة، برغوة كثيفة، وبدا لي أن الدكتور لا ينام جيدا بسبب ما يحتسيه من الكافيين، فعيونه حمراء، وهذا قد يعني أن قدرته على فحص وتشخيص المرضى ليست جيدة!
القهوة والنوم، تذكرت جدتي، كنت أكثر شخص يمشي ويتحرك عرفته، وكانت تحبني أكثر واحد من أحفادها، وكانت تقول لأبي أن 'يدير باله علي من العين'.
جدتي كانت تحضّر لنا القهوة السادة كل يوم، كانت تحمص حبوب البن في المحماس وبعد أن تصيح غامقة، كانت ترسلني بالحبوب إلى أبو فتحي البقال، ليطحنها.
أذكر انني في أحد أعياد الفطر، يوم الوقفة، أخذت كيس القهوة المحمصة من جدتي، وفي الطريق لأبو فتحي، 'نقرشت' ملئ راحة كفي الصغيرة من حبوب القهوة، كانت ساخنة وشهية، ثم طحنت الباقي.
عندما عدت بالقهوة المطحونة، وأمسكت جدتي الكيس الورقي، شعرت أنه أخف، وسألتني هل سقط الكيس مني وانا أمشي فتبعثرت بعض حبوب البن، فأجبتها بل سقطت بضع حبات في فمي، لتصرخ 'يا جدة ما رح تنام!'.
وفعلا، لم أستطع النوم طوال أيام عيد الفطر الثلاثة، وصرت أهلوس، في اليوم الرابع فقط تمكن النوم من التسلل لجفوني.
أمسك الدكتور ورقة وأخذ يقرأ ما فيها، وعندها قلت له 'سمعت ان الإسراف في القهوة يرفع الكوليسترول؟'، مشيرا إلى كوبه، لينظر إلي بانزعاج ويقول: 'دعك من الكوليسترول واهتم لصحتك، ففحوصاتك ليست جيدة'.
- ما الأمر يا دكتور؟
- وصلت نتيجة المختبر، وهي تقول إنك مصاب بمقدمات السكري.
- مقدمات؟ ولماذا يحتاج السكري إلى من يقدمه!
وحدثت نفسي أن الطب تطور بشكل عبثي، فنحن نعرف السكري، ولكن مقدماته؟ فلا يكفي أن المرض سيأتي، بل إنه يرسل من يسبقه إلى جسم المريض ويبدأ التخريب!
جدتي كانت تخاف من مقدمات الموت، وكانت تدعو الله أن يأتيها فجأة، دون مقدمات، ودون مرض يقعدها ويجعلها طريحة الفراش وبحاجة لمن يساعدها في قضاء حاجتها، وقد استجاب الله دعائها.
جدتي كانت حكيمة، أكثر حكمة من دكتوري الذي يشرب القهوة بنهم، دون أن يسمح لنفسه بأن يستطعم بها. دائما عندما يتناول المرء طعاما أو شرابا بكثرة، فإنه يفقد القدرة على التلذذ به، ويصبح كمن يأكل التراب.
الانسان طماع، ولا يعبئ عينه ولا فمه سوى التراب.
- وماذا يعني هذا يا دكتور؟
- سوف تصاب بالسكري إذا لم تعنتي بنفسك، هذه المرحلة الأخيرة قبل أن يصبح جسمك عاجزا عن السيطرة على مستوى السكر في دمك.
- وما العمل؟
بدأ الدكتور يقول 'خفف وزنك..' ثم انتبه أنني نحيل للغاية، فطبيعة عملي في التدريس جعلتني بهذا النحول. وعندها انتقل إلى نصيحة أخرى 'اشرب الكثير من القهوة'.
- القهوة يا دكتور
- نعم، فالدراسات تقول إنها تحمي من مرض السكري!
وقلت لنفسي إن دكتوري غير حكيم، فالعالم يشرب أكبر كمية من القهوة في تاريخه، ولكن نسبة السكري على كوكبنا هي الأعلى منذ فجر البشرية.
حتى عادة شرب القهوة بهذه الأكواب، هي عادة دخيلة على مجتمعنا الأردني، ومجتمعاتنا العربية.
هوليود من علمتنا أن نشرب القهوة في أكواب كرتونية كبيرة، من غرست فينا أن رجل الأعمال الناجح يبدا يومه 'بشفط' 'سطل كبير من السائل الأسود'.
أما القهوة في عاداتنا العربية فهي كريمة عزيزة، تشرب في فنجان وتصب بمقدار، وملئ فنجان القهوة ليس من عاداتنا، فالقهوة تصب بكمية قليلة حتى تشرب ساخنة، والمضيف يبقى واقفا أمام ضيفه فإذا أراد المزيد صبها له لتكون ساخنة.
القهوة لدينا عهد وميثاق، أما في هوليود، فالبطل يشرب القهوة مع رفاقه، ثم يخونهم أو يقتلهم.
- اشرب القهوة مثلي وبعد 3 أشهر سيهرب السكري ومعه مقدماته!.. قال دكتوري
هززت رأسي، واخذت ورقة المختبر من دكتوري، وغادرت العيادة.
وفجأة شعرت برغبة بشرب فنجان من قهوتنا الأردنية الأصيلة، فشددت الخطو نحو البيت، وقررت ان اراجع طبيبا آخر، فمن الواضح أن الكافيين الذي قد ملأ جسم دكتوري نتيجة أكواب القهوة الهوليودية قد أثر على قدرته التشخيصية، إذ اكتشفت لحظتها أن تقرير المختبر الذي قرأه وأخذته معي، كان لمريض آخر!