كتاب

سلسلة الإشارات النفسية رسالة دافئة

الإشارة الأولى التي تنزل بها الوحي كانت (إقرأ)، ودلالتها ساطعة بالنظر والمشافهة يتضح البيان، وكل ما عدا القراءة يختزل في الذاكرة قصيرة الأمد ويندثر ويتلاشى يا خلان، وبالتكرار تنحفر الحروف في الذاكرة والسطور في القلب، وفي الواقع المعاش تلاشت كل محاولات تجاوز السطور المكتوبة، فالحنين إلى نبر الحروف رنان في الأدمغة ووقعه جميل ومستبان، وما المشاهدات البصرية إلا لمح عابر هيهات لها أن تخلد في ذاكرة النفوس أو تنحفر في قرارة النفوس.

لم تكن الأوراق المكتوبة (ولن تكون) يوما سطورا هامشية، قد تنحرف عنها العيون وقد تزيغ عنها الأفئدة قليلا، لكن البوصلة يستحيل أن تحيد عن ركنها، وستبقى المراجع الورقية أرشيفا جليلا يحكي عما فيها للأجيال جيلا بعد جيل، وصحيح أن الثورة التكنولوجية عصفت بالكثير من السطور، لكنها أبدا لن تنحفر مثلها بالصدور، ولن تتقادم عليها مهما بلغ سحر بريقها، ببساطة لأن الواقع فيه من التفاصيل ما يتطلب أن تتهادى الأنامل الأوراق، وأن تتطاير حروفها إلى بؤبؤ العين، وأن نعيد النظر فيها مرة ومرات، حيث أن سطورها أيقونة لا تنفك الألسن عن?طلبها ولو كنا على القمر والمريخ.

من البديهي أن نواكب الحضارة لكن ليس من الطبيعي أن نتجاهل الأصالة، من الضروري أن نعشق الحداثة لكن ليس مقبولا أن ننسى العراقة، ولئن كان القلب يهوى كل جديد لكن ليس بالضرورة أن يجد السعادة مع كل حديث، لا بأس أن تتملك اليوم (لكن اليوم) ما كان له أن يتولد إلا بعد أن يسبقه الأمس، وصحيح أن التمدن حل مكان الكثير من الموروثات، لكنه أفسد علينا كثيرا من الأذواق وأذهب عنا مزيجا من العبق لم نكن لنتذوقه كما الماضي أبدا، فقد بتنا نتمنى عودة العلاقات بين الناس مع أن كل الدنيا باتت أمام ناظرنا بكبسة، وكم نتمنى أن تحل علينا ?ركات كانت في الماضي متجذرة وأصبحت اليوم بحكم السراب!

أين ذهبت مفردات الحب والأصالة والوفاء، الإخلاص والتجذر والإباء، صحيح أن أسفارنا كثرت وأعمالنا ازدهرت، لكن فكرنا تعب وراحة بالنا شيء قد ذهب، أرصدتنا بالبنوك كثيرة لكن الشح بأيدينا ملتصق، كثير من الآباء بدور الإيواء لكن بركة تقبيل أياديهم أصبحت مفقودة، علاقات الجيران بجيرانهم أصبحت موضة بالية وانعدام التواصل بات مطلوبا، نعم صحيح (لحالي أحلالي) فأنا مكتفي بخيري لكني أفتقد الحديث مع غيري، وبكم تشتري بركة الزمان السالف لو أنك وجدتها؟

(رسالة دافئة) نحتاج إليها كل حين حتى لا نفقد الحنين، لا بد أن نتذكر كل فترة حتى لا تذهب عنا العظة والعبرة، لا بد أن نطرق الأبواب حتى نسمع الجواب، فالأبواب اليوم لا تطرق والتعاليل لا تورق، كما أن غرف المجالس اليوم فارهة لكن لا ننسى أيضا أنها فارغة، كما المصلون في المساجد يصطفون لكنهم لا يتصافحون، فالأذهان اليوم ليست منشغلة (هذا غير صحيح) هي متساهلة، راق لها التفريط حتى أصبحت بالأثقال تنام وتفيق، ولكم كان الصباح بالأمس لا يصلح إلا مع تقليب الجريدة وطقطقة صفحاتها، اليوم بتنا نراها على الشاشة ولا نشغل بالنا بف?واها، مع أنها مليئة بالأدب والأخبار، لكن الحسابات تبدلت فاستبدلنا الأخيار بالمال نشتري به الخيار والفوشار، ولهيك قالوا (تبدلت قرونها بغزلانها)!