عمان - الرأي
أصدر الطبيب والكاتب الأردني، عاصم منصور، كتاباً بعنوان «السرطان من المسافة صفر»، مرفقاً بعبارةٍ كثيفةٍ تحمل أبعاداً أدبيةً وطبيةً ذات دلالات مهمة: «عندما تخون الخلايا». وخاض منصور، الذي يشغل منصبَ مديرِ عامِ مركزِ الحسينِ للسرطان، أحدِ أهمِّ المراكزِ الطبيةِ في الوطن العربي، تجربةً ثريةً وهو يسبر أغوارَ متاهاتٍ متعددةِ الأبعادِ، نفسيةً وطبيةً وإنسانيةً، من خلال قصصٍ واقعيةٍ، أراد من خلالها إلهامَ القارئ، واستنهاضَ روحِ التعاطفِ في نفسه، وتعزيزَ فهمِه للمرض، وإضفاءَ لمسةٍ إنسانيةٍ على المرض، يقول الكاتب: «نكاد نفقدها». ويؤكد الكاتب أن القصصَ الواردةَ في الكتاب ليست مجردَ رواياتٍ للتسلية، بل هي انعكاساتٌ لحيواتٍ حقيقيةٍ، وصراعاتٌ واقعيةٌ، وانتصاراتٌ ملموسةٌ. وكلُّ قصةٍ وردت في الكتاب إما شهد المؤلفُ أحداثَها بنفسه، أو نُقلت إليه مباشرةً من زملاءَ يعملون بلا كللٍ في الصفوفِ الأماميةِ لرعايةِ مرضى السرطان. ويشير إلى أن القصصَ تكريمٌ للمرضى وعائلاتهم «الذين سمحوا لنا بمشاركةِ تجاربِهم، ليكونوا دروساً تعلِّمُنا الصمودَ والأملَ، وتكشفُ لنا تعقيداتِ التعايشِ مع السرطان». ويعترف الكاتب بأن فكرةَ تأليفِ كتابٍ عن السرطان راودته كثيراً، لكنه ظل يشعر «بالرهبةِ من طولِ الرحلةِ ووحشةِ الطريق»، مما وقف عائقاً بينه وبين خوضِ غمارِ هذه التجربةِ التي يصفها بـ"المعقدة». لكنه يعود ليقرَّ بأن هذا المرضَ استنزفَ جلَّ حياتِه المهنية، وجعله يختصر الطبَّ في بعدين: السرطانَ، والأمراضَ الأخرى، وبأن هذا المرضَ نجح في تغييرِ نظرتِه للحياة. والكتابُ، الذي يبلغ عددُ صفحاته 687 صفحةً من القطع المتوسط، بمثابة «أطلسٍ يرسم ملامحَ جغرافيا معقدةٍ من خلايا انحرفت عن مسارِها، ومن حيواتٍ أُعيد توجيهُها من جديدٍ بفعلِ تشخيصِ المرض، وأبحاثٍ علميةٍ تعود إلى قرونٍ سحيقةٍ، وعلماءَ أفذاذٍ رفضوا الانصياعَ للتيارِ السائدِ في زمنهم، ومن نظمٍ اجتماعيةٍ يُعاد تشكيلُها بمجردِ نطقِ كلمةِ سرطان!». وحاول منصور، من خلال هذا الكتاب، سبرَ أغوارِ متاهاتِ علمِ الأورامِ، والدخولَ في تفاصيلَ ما يصفه بالعجائبِ العلميةِ، في رحلةٍ دخل خلالها في متاهةٍ متعددةِ الأبعاد، يختلط فيها العلميُّ العميقُ بالإنسانيِّ الأكثرِ عمقاً. بل إنه لم يتوقف عند تقديمِ المعرفةِ المجردةِ فقط، وإنما سعى لاصطحابِ القارئِ في رحلةٍ إلى عالمٍ ينصهرُ فيه المسارُ العلميُّ والتجربةُ الإنسانيةُ في شيءٍ أكثرَ قوةً: الحكمة! ولأن الكتابَ، بحدِّ ذاته، رحلةٌ مشوبةٌ بالمخاطر، وتثيرُ حيرةَ الكاتبِ حول بدايةِ الخيطِ فيها، فقد وجد أن كلَّ الدلائلِ الإرشاديةِ على طولِ طريقِ التأليفِ كانت تشيرُ إلى «الخلية»، «تلك التي تمردت على كلِّ القوانينِ والأنظمةِ التي حكمت مثيلاتِها منذ الأزل، ورفضت الانصياعَ لها، واختارت لنفسها طريقاً لا يمكن التنبؤُ بمساراته ومآلاته»، على حدِّ وصفِ الكاتب، الذي يشير إلى عوالمِ الخليةِ التي أمنت العقابَ فتمادت، وراحت تُمعن في أجسادِ ضحاياها تخريباً وتدميراً وتشويهاً بلا رادعٍ ولا وازعٍ، لتترك بصمتها القاسيةَ حيثما حلّت. يتوقف الكاتب، في سرده لمدخله إلى عوالمِ السرطان، عند تجربةٍ شخصيةٍ بعد عودته من موسكو، حيث بدأت رحلته العلمية، ليُصدم بمرضِ جدِّه بالسرطان، وليعيش تفاصيلَ يواجهها للمرة الأولى في حياته، وتترك في نفسه أثراً عميقاً، كما واجهها للمرة الثانية حين كان يعمل طبيبَ امتيازٍ في مستشفى البشير، وكانت الضحيةُ هذه المرةَ ابنَ عمِّه الشاب، الذي رافق رحلةَ مرضه منذ التشخيص إلى أن رفع الأطباءُ الرايةَ البيضاء، قبل أن تضعه تجربتُه المهنيةُ على مقربةٍ أكثرَ من هذا المرضِ بعملِه في «مركز الأمل»، حيث عمل إلى جانبِ فريقٍ متجانسٍ «تشكل من القادمين الجددِ من خلفِ البحار، ومن الموظفين المخضرمين الذين عاصروا المركزَ منذ بداياته»، «وكانت هذه الخطوةُ مهمةً جداً لطمأنةِ المتشككين والمترددين إلى أننا على أعتابِ مرحلةٍ جديدةٍ تتطلب جهداً وخبرةً من الجميع». ويضمُّ الكتابُ الشيّق، الذي كُتب بلغةٍ أدبيةٍ رفيعةٍ دون أن يخلَّ بدلالاتِ ومعاني ومفاهيمِ المصطلحاتِ الطبيةِ والعلميةِ المعقدةِ، بين دفّتيه ثلاثةً وعشرينَ فصلاً، تبدأ بـ"اللقاء الأول»، ثم «كنتُ هناك»، مروراً بـ"السرطان: الصيرورة التاريخيّة»، قبل الدخول في تفاصيلَ واسعةٍ حول طرقِ العلاج، من عصرِ السّكينِ إلى عصرِ الأشباح، وصولاً إلى الأسلحةِ الأكثرِ دقةً، كلُّ ذلكَ رفقةَ قصصٍ تروي تفاصيلَ غايةً في الثراء، نفسياً ومعرفياً وأدبياً، فيها الكثيرُ من الألمِ والكثيرُ من الأملِ أيضاً.