آمال رضوان
(كاتبة مصرية)
تعد سيمولوجيا القراءة أحد المفاهيم المحورية في تحليل العلاقة بين النص والقارئ، وقد أسهم العديد من الباحثين والنقاد في تطوير هذا الحقل المهم. ويُعد ميشيل أوتن (Michel Autin) (1936-1997) واحداً من أبرز المنظرين الذين درسوا العلاقة بين الدال والمدلول في سياق القراءة؛ حيث عمل أوتن على توضيح كيفية تشكيل المعاني عبر عملية القراءة، وهي تلك التي تتضمن تفاعلاً معقداً بين النص والقارئ والعلامات الموجودة في النص. وفي هذا المقال، سنتناول نظرية ميشيل أوتن حول سيمولوجيا القراءة، مع تحليل دور القارئ في خلق المعنى، وتأويل النصوص الأدبية. وفي نزر يسير غير مخل سنتناول سيرة ومنهج أوتن، ومفهوم سيمولوجيا القراءة، ودور القارئ في خلق المعنى، والعلامة اللغوية والنص الأدبي، وفي نهاية الحديث سنستعرض تطبيق نظرية أوتن على النص الأدبي.
• ميشيل أوتن.. سيرة ومنهج ميشيل أوتن باحث ومفكر فرنسي عمل على تطوير عدد من المفاهيم النقدية المتعلقة بتحليل النصوص ودراسة العلاقة بين اللغة والقارئ. وُلد أوتن في فرنسا في منتصف القرن العشرين، ونشأ في بيئة أكاديمية أثرت في تكوينه الفكري والنقدي، وتأثر بعدد من المدارس الفكرية، خاصة البنيوية والتفكيكية، حيث حاول الجمع بين دراسة العلامات اللغوية والسياق الثقافي والاجتماعي للنصوص. تمحورت أعماله حول دراسة النصوص الأدبية من خلال منظور سيمولوجي، وهو تحليل يقوم على فهم النص بوصفه نظاماً من العلامات، يعتمد على التفاعل بين الكاتب والقارئ. من أبرز إسهاماته تطويره لفكرة أن القراءة ليست مجرد عملية سلبية لاستقبال المعاني الجاهزة التي يقدمها النص، بل هي فعل إنتاجي يتضمن مشاركة فعالة للقارئ في تأويل العلامات وإنتاج الدلالات. في هذا السياق، يرتبط عمل أوتن بعمق مع نظرية التلقي التي تركز على دور القارئ في تشكيل المعنى، كما يرى أوتن أن النص الأدبي لا يكتسب معناه إلا من خلال القراءة، وأن المعاني تتعدد بتعدد القراءات والتأويلات.
• مفهوم سيمولوجيا القراءة عند أوتن تقوم نظرية سيمولوجيا القراءة عند ميشيل أوتن على عدة مفاهيم أساسية، تتمحور حول فكرة أن النص الأدبي هو عبارة عن نظام علامات (signs) لا يحمل معنى ثابتاً أو متجمداً، بل يتجلى المعنى من خلال العلاقة بين النص والقارئ، كما يمثل القارئ العنصر المركزي في هذه النظرية؛ حيث يتفاعل مع النص ويفسر العلامات اللغوية وفقاً لخبراته الشخصية وسياقيه الثقافي والاجتماعي. يرى أوتن أن القراءة هي عملية تأويلية تتطلب من القارئ القدرة على فك رموز العلامات اللغوية وتحليلها داخل السياق الثقافي الذي ينتمي إليه النص. النص الأدبي، وفقاً لأوتن، يتكون من شبكة من العلامات المتداخلة، ولا يمتلك معنى واحداً محدداً؛ بل هو منفتح على تأويلات متعددة، وكل قراءة جديدة تقدم فهماً مختلفاً للنص، وبالتالي لا يمكن اعتبار النص كياناً ثابتاً، بل هو حقل مفتوح للتأويل والإبداع من قبل القارئ، الذي يتسع قوس التلقي لديه كلما امتلك حصيلة قرائية تراكمية تؤهله لخلق نصه الخاص.
• دور القارئ في خلق المعنى في إطار نظرية أوتن، يلعب القارئ دوراً جوهرياً في إنتاج المعنى، إذ يرى أوتن أن النص الأدبي لا يكون مكتملاً إلا عندما يتفاعل معه القارئ. يُعيد القارئ كتابة النص، بطريقة ما، من خلال تأويله للعلامات وفهمه للسياقات التي يعمل النص ضمنها. ويؤكد أوتن أن عملية القراءة ليست مجرد استلام سلبي للمعنى، بل هي عملية إبداعية تتطلب من القارئ أن يكون قادراً على تفسير العلامات والربط بينها. وبذلك يرى أوتن أن المعنى ليس مدمجاً داخل النص بشكل مباشر، بل هو ناتج عن التفاعل بين القارئ والنص، ويعتمد هذا التفاعل على مجموعة من العوامل مثل الخلفية الثقافية للقارئ، كمعرفته السابقة، ومدى قدرته على الانخراط في عملية فك شفرة العلامات، فكل قارئ يجلب معه إلى النص مجموعة من السياقات والتجارب التي تؤثر في كيفية قراءته للنص وتفسيره له، لذلك، يمكن للنص نفسه أن يولد معاني مختلفة بناءً على من يقرأه.
• العلامة اللغوية والنص الأدبي ركز أوتن في دراساته على مفهوم العلامة اللغوية كما طرحه المُنظر السويسري فرديناند دي سوسير (1857 -1913)، الذي اعتبر أن العلامة وحدة لغوية تتكون من الدال (الصوت أو الرمز المكتوب) والمدلول (المفهوم المرتبط به). بيد أن أوتن قام بتوسيع هذا المفهوم ليشمل السياق الأدبي؛ حيث اعتبر أن النص الأدبي هو بمثابة نظام من العلامات التي تتطلب فك شفرتها وتأويلها من قبل القارئ. كما يعتبر أوتن أن العلامة الأدبية ليست ثابتة، بل تتحرك ضمن سياقات مختلفة وفقاً للقراءة والتفسير، وبهذا المعنى، فإن النص الأدبي لا يمكن فهمه على أنه حاوٍ لمعنى محدد وثابت، بل هو مفتوح دائماً لتأويلات جديدة، هذه التأويلات لا تأتي فقط من النص ذاته، بل من القارئ ومن السياق الذي يحدث فيه فعل القراءة.
• تطبيق نظرية سيمولوجيا القراءة على النصوص الأدبية يُعتبر تطبيق نظرية سيمولوجيا القراءة على النصوص الأدبية جزءاً مهماً من أعمال ميشيل أوتن؛ فهو يرى أن كل نص أدبي يحمل دلالات متعددة لا يمكن اكتشافها إلا من خلال عملية القراءة النشطة، والقارئ لا يستلم المعنى ببساطة، بل يساهم في خلقه من خلال تفاعله مع النص. عند قراءة أي نص أدبي، يتمكن القارئ من تحليل العلامات اللغوية والرموز الموجودة فيه، وفهم العلاقة بين هذه العلامات في سياق النص، ونتيجة لذلك، يصبح القارئ عنصراً فعالاً في عملية إنتاج المعنى. وعلى سبيل المثال، عند قراءة نص كلاسيكي مثل «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير، يطرح أوتن تساؤلاً حول كيف تختلف التأويلات التي قد يقدمها القراء في فترات زمنية وسياقات ثقافية مختلفة. هذه التعددية في التأويلات هي جوهر سيمولوجيا القراءة عند أوتن. وهناك مثال آخر، قصة «وفاة موظف» لأنطون تشخوف، فالعنوان يمهد لموت أحد المهمشمين من أصحاب المراكز الوظيفية الدنيا في السلم الوظيفي، والدليل جملة العنوان الخطابية التي جاءت بوظيفته في صيغة النكرة، إلا أنك بتتبع القصة منذ السطر الأول ستصل إلى تكوين قراءة مفادها أهمية ذلك الموظف كإنسان، إذ يركز تشخوف على ذكر اسمه كاملاً (إيفان ديمترتفتش تشرياكوف). ويقدم ميشيل أوتن من خلال نظرية سيمولوجيا القراءة تصوراً جديداً لدور القارئ في إنتاج المعنى وتفسير النصوص الأدبية؛ فالنص لا يكون مكتملاً إلا من خلال القراءة، ولا يحمل معنى واحداً ثابتاً، بل هو شبكة من العلامات المفتوحة على التأويل، يساهم القارئ في إعادة خلقه في كل قراءة جديدة، مما يفتح الباب أمام تعددية المعاني والدلالات، لتظل نظرية أوتن في سيمولوجيا القراءة أحد الإسهامات البارزة في النقد الأدبي المعاصر، وتدعو إلى فهم أعمق للعلاقة بين النص والقارئ، والعلامة والمعنى.
• المراجع: - نظريات القراءة من البنيوية إلى جمالية التلقي، مجموعة مؤلفين، ترجمة عبد الرحمن بو علي دار الحوار. سورية. - رولان بارت، «لذة النص»، ترجمة منذر عياشي، دار توبقال، 1992. - جانيت إيفرسون، «العلامة والدلالة: مدخل إلى السيمولوجيا»، ترجمة حسن عبده، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015. - فرديناند دي سوسير، «محاضرات في علم اللغة العام»، ترجمة يوسف غازي، دار التنوير، 1983. - ميشيل فوكو، «الكلمات والأشياء»، ترجمة سالم يفوت، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990.