ماذا يمكن لمثلي ان يقول الان عن التطعيم وقد عاش عصره منذ بداياته البسيطة في هذا البلد، أيام كان مرض السل منتشرًا يقطع الانفاس بالسعال وينخر الرئات حتى الموت، أو الجدري يُشوِّه الوجوه بالبثور البشعة ويتهدد بإزهاق الأرواح كأنه الغول يتجول طليقاً في العتمة، أما الحصبة فكانت قبل تيقُّننا من فتكها بمئات الأطفال كل مرة، جزءًا من خرافة بلهاء ترويها العجائز عن ضرورة تدثيرهم باللون الاحمر وحشرهم في فراش واحد كي يتبادلوا العدوى! إلى ان دعت إمارة شرق الاردن طبيبًا من حكومة الانتداب في فلسطين يدعى الدكتور حليم ابو رحم? لمساعدتها في تأسيس القواعد الصحية للوقاية من الأمراض المعدية بما سُمّي «المطاعيم» وسواها فدخلت بسلاسة الى ثقافتنا ورحب بها الناس ووثقوا سريعًا بجدواها وتزايد إقبالهم عليها سنة بعد اخرى، حتى أن قانون الصحة العامة الذي صدر لاحقًا وحوى مادة تقول بإلزام الاهل بتطعيم اطفالهم وإلا عوقبوا، لم يجد مسؤولًا صحيًا واحدًا يضطر لتطبيقه بالإكراه طوال المئة عام الماضية، لذلك تحققت في مدى عقود معدودات، حسب سجلات منظمة الصحة العالمية نجاحاتٌ مذهلة لم تتحقق نسبيًّا في أرقى وأغنى بلاد العالم بما فيها الولايات المتحدة نفسها،?وخلال هذه المسيرة المُيَسَّرة نشأت عقباتٌ كما في معظم الدول جرى تجاوزها بفضل وزارات الصحة ذات الأجهزة المتكاملة الأدوار وصاحبة القوة المعنوية الناعمة القائمة على الثقة والتجاوب مع إرشادات منظمة الصحة العالمية.
ومع ذلك حين داهمتنا جائحة الكورونا لم نجد أنفسنا عُزلًا بل متحصنين بخبرات متراكمة لمقاومتها بالحصول على المطاعيم دون إبطاء وتوزيعها بكفاءة نالت اعجاب غيرنا، وهكذا أبلت وزارة الصحة بلاءً حسنا في البداية لكنها ما لبثت ان اعتَوَرَها الخلل والزلل بفعل مؤسسات من خارجها، وتدخل هيئات ليست صاحبة اختصاص، وقوىً تجارية اعتبرتها فرصتها لمراكمة الأرباح ببيع الأدوية أو المستلزمات الطبية بلا حدود او حتى نوازع أخلاقية!
في الأيام الاخيرة وجد المواطنون أنفسهم أمام مشهد محزن آخر بظهور حالات من الحصبة التي كانوا يظنون أنها اختفت منذ زمن بفضل برنامج التطعيم الوطني الناجح لكن وزارة الصحة بخبرائها ومختصيها لم تنكص وراحت على الفور تعد العدة لمكافحتها حسب الأصول، وإذا بها محاصرة بحملة عشوائية من التشكيك بجدوى التطعيم وخطره على حياة اطفالنا مع احترامي لحرية الرأي، لا بل تحدى البعض علنًا قانونية إلزامه!! وأخيرًا جاء المشهد المؤسف الذي لم يكن ضروريًا في نظرنا ولا نرضاه لجليل صنيع وزارة الصحة عبر تاريخها، حيث رأيناها ومعها هذا الرهط ?لبارز من أصحاب العقول العلمية رفيعة المستوي وكأنهم جميعًا في قفص اتهام يدافعون عن ذنوب مختلقةٍ بدل مكافأتهم على قيامهم بإنجاز إنساني لم يعرفوه يومًا الا واجبهم الوطني.
وبعد.. فما على وزارة الصحة الان اعتمادًا على رصيد ثمين من ثقةٍ بها توارثتها الأجيال، إلا ان تمضي قُدُمًا في التطعيم ضد الحصبة، وفي كل خدمات الرعاية الصحية الأخرى، كقائدة قوية مهيبة ومسؤولة دستوريا دون سواها، عن جميع الشؤون الصحية، وبذلك لا تفوّت الفرصة على المتربصين بها فحسب بل تُصوّب خطأً سابقًا وقع عليها قبل سنوات قليلة بأن تستعيد المركز الوطني لمكافحة الاوبئة.. الى صفوفها!.