كتاب

من وحي تأبين عالم أردني

ربما كان التأبين في الماضي طقسًا دينيًا وقد نأَت بنفسها عنه بعض الثقافات لشبهة التطيُّر او تجنبًا للحساسية المفرطة في المجتمعات الصغيرة وتلك التي ما زالت تتشبث بالوشائج القبلية الدارسة، فما بالكم حين يكون الراحل صاحب منصب سياسي مرهوب الجانب لا يجرؤ أحد على توجيه النقد له أثناء حياته وهل هناك غرابة في ان يتحول تأبينه الى مسلسل كريه من النفاق والتزلف!؟ بهذا الوعي كانت مساهمتي في مناسبات التأبين قليلة، احيانا خشية الوقوع في فخ الكتابة الصريحة التي تعوّدتُها خالية من التزلف في المقال الصحفي، وأحيانا احضرها على مضض فاخرج غير راضٍ عما قيل في الراحل مما لم يكن فيه اثناء حياته؟! لكن ذلك كله تضاءل حد التلاشي عند حضوري الاسبوع الماضي تأبين عالم أردني فاضل غادر عالمنا قبل عام هو الدكتور مخلوف حدادين الذي يتفق كل الذين عرفوه استاذًا للكيمياء في الجامعة الاميركة في بيروت عدة عقود وعرفوا فوق انجازاته العلمية شخصيته النبيلة وخلقه الدمث في تعامله مع الأساتذة والطلاب.. ومع الجامعة التي بقي يخدمها ويخدم علوم الكيمياء فيها حتى اخر يوم من حياته، وقد حاز اثناء ذلك على جائزتين كبيرتين متميزتين أضاءتا بالفخر جبين الجامعة ولبنان كما وطنه الاردن واهله في قرية ماعين، وقد احتضنت حفل التأبين مؤسسة عبد الحميد شومان واداره بحيوية الدكتور مروان المعشر، وتحدث فيه نخبة من عارفي منزلته وزملائه في الاختصاص او العمل من الاردن كالدكتور عدنان بدران، ولبنان كل من الدكتور خضر خوري رئيس الجامعة الاميركية في بيروت والدكتور بلال قعفراني استاذ الكيمياء فيها والدكتور ايلي سالم الذي لم يلفت نظرنا بتصريحاته السياسية حين كان وزيرا لخارجية لبنان في ثمانينات القرن الماضي لكنه ادهشنا هنا بقدرته الخطابية البليغة التي برزت بجلاء في هذا الحفل وهو يؤبّن رفيقه الاكاديمي متحدثًا عنه بحماس متّقد واصفًا مواقفه الحازمة المترفّعة عن الصغائر في الحياة بانه «لم يقبل قط ان يكون ثانياً لأحد!» وختمها عن آل الفقيد شقيقه الدكتور منذر حدادين الذي اتحفنا كذلك بأبيات رائعة من شعرٍ تبادله مع الراحل في مناسبات مختلفة.. المصادفة الطريفة انني في اليوم التالي لهذا الاحتفال تلقيت رسالة تلفونية من صديق مثقف مهتم بتاريخ هذ الوطن تحتوي على صورة وثائقية لبطاقة دعوة مؤرخة في ١٢ آب ١٩٤٩ لحضور تأبينٍ وطني مشابه في اربد لكن في ميدان آخر كان فارسُه فقيد الاردن الشاعر مصطفى وهبي التل وضمت لجنة التأبين شخصيات سياسية مثل شفيق ارشيدات وسليمان النابلسي وعبد الحليم النمر وعاكف الفايز وهزاع المجالي وآخرين ممن لعبوا ادواراً بارزة في تاريخ الاردن السياسي في خمسينات القرن الماضي، وهو احتفال اخر يؤكد اهتمام الوطن بالمبدعين من ابنائه ليس عند رحيلهم فحسب بل لزمان طويل ايضاً، فقد شهدنا ذلك باستذكار شاعرنا عرار مرات ومرات بندوات عقدتها جامعات ومراكز ثقافية عديدة لدراسة حياته الحافلة بالتمرد السياسي وفكره الإنساني المفعم بالفلسفات الاجتماعية الخلافية التي ادت به احيانًا إلى النفي او الاعتقال وأحيانا اخرى إلى غضب الأقربين !..

وبعد.. من حق البعض ان يتمنى تكريم العاملين المتميزين والاعتراف بفضلهم أثناء حياتهم فذلك أدنى إلى إسعادهم، لكن يبقى التأبين بعد رحيلهم جليلًا بقدر ما يتمسك بالصدق والنزاهة، وعبِقًا بما يحمل للأجيال من معانٍ نبيلة أخرى كالإخلاص في خدمة الأوطان والبشرية جمعاء.. في أي ميدان.